قوله تعالى : { ويقولون طاعة } يعني : المنافقين ، يقولون باللسان للرسول صلى الله عليه وسلم : إنا آمنا بك فمرنا ، فأمرك طاعة ، قال النحويون : أي أمرنا وشأننا أن نطيعك .
قوله تعالى : { فإذا برزوا } خرجوا .
قوله تعالى : { من عندك بيت طائفة منهم غير الذي تقول } ، قال قتادة والكلبي : بيت أي : غير وبدل الذي عهد إليهم النبي صلى الله عليه وسلم ، ويكون التبييت بمعنى التبديل ، وقال أبو عبيدة والقتيبي : معناه : قالوا وقدروا ليلاً غير ما أعطوك نهاراً ، وكل ما قدر بليل فهو مبيت ، وقال أبو الحسن الأخفش : تقول العرب للشيء إذا قدر بيت ، يشبهونه بتقدير بيوت الشعر .
قوله تعالى : { والله يكتب } أي : يثبت ويحفظ .
قوله تعالى : { ما يبيتون } ما يزورون ، ويغيرون ، ويقدرون . وقال الضحاك عن ابن عباس : يعني ما يسرون من النفاق .
قوله تعالى : { فأعرض عنهم } ، يا محمد ولا تعاقبهم ، وقيل : لا تخبر بأسمائهم ، منع الرسول صلى الله عليه وسلم من الإخبار بأسماء المنافقين .
قوله تعالى : { وتوكل على الله وكفى بالله وكيلاً } ، أي : اتخذوه وكيلاً وكفى بالله وكيلاً وناصراً .
ولا بد أن تكون طاعة الله ورسوله ظاهرًا وباطنًا في الحضرة والمغيب . فأما مَنْ يظهر في الحضرة والطاعة والالتزام فإذا خلا بنفسه أو أبناء جنسه ترك الطاعة وأقبل على ضدها ، فإن الطاعة التي أظهرها غير نافعة ولا مفيدة ، وقد أشبه من قال الله فيهم : { وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ } أي : يظهرون الطاعة إذا كانوا عندك . { فَإِذَا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ } أي : خرجوا وخلوا في حالة لا يطلع فيها عليهم . { بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ } أي : بيتوا ودبروا غير طاعتك ولا ثَمَّ إلا المعصية .
وفي قوله : { بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ } دليل على أن الأمر الذي استقروا عليه غير الطاعة ؛ لأن التبييت تدبير الأمر ليلا على وجه يستقر عليه الرأي ، ثم توعدهم على ما فعلوا فقال : { وَاللَّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ } أي : يحفظه عليهم وسيجازيهم عليه أتم الجزاء ، ففيه وعيد لهم .
ثم أمر رسوله بمقابلتهم بالإعراض وعدم التعنيف ، فإنهم لا يضرونه شيئا إذا توكل على الله واستعان به في نصر دينه ، وإقامة شرعه . ولهذا قال : { فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا }
بعد ذلك يحكي السياق عن حال طائفة أخرى - في الصف المسلم - أم لعلها هي طائفة المنافقين يذكر عنها فعلا جديدا ، وفصلا جديدا ! ومع الحكاية التنفير من الفعلة ؛ ومع التنفير التعليم والتوجيه والتنظيم . . كل ذلك في آيات قليلة ، وعبارات معدودة :
( ويقولون : طاعة . فإذا برزوا من عندك بيت طائفة منهم غير الذي تقول - والله يكتب ما يبيتون - فأعرض عنهم ، وتوكل على الله ، وكفى بالله وكيلا . أفلا يتدبرون القرآن ؟ ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرًا ) . .
إن هذا الفريق من الناس إذا كان عند رسول الله [ ص ] يسمع منه القرآن وما فيه من التكاليف . . قالوا : ( طاعة ) . . قالوها هكذا جامعة شاملة . طاعة مطلقة . لا اعتراض ولا استفهام ولا استيضاح ولا استثناء ! ولكن ما إن يخرجوا من عند رسول الله [ ص ] حتى تبيت طائفة منهم غير الذي تقول ؛ وتروح في ما بينها تتآمر على عدم التنفيذ ؛ وعلى اتخاذ خطة للتخلص من التكليف .
أم لعل النص يصور حال الجماعة المسلمة كلها ؛ ويستثني منها هذه الطائفة ذات الشأن الخاص ، والتصرف الخاص . . ويكون المعنى أن المسلمين يقولون : طاعة . بجملتهم . ولكن طائفة منهم - وهي هذه الطائفة المنافقة - إذا خرجت بيت أفرادها غير ما قالوا . . وهي صورة ترسم تلك الخلخلة بعينها في الصف المسلم . فإن هؤلاء مندسون فيه على كل حال . وتصرفهم على هذا النحو يؤذي الصف ويخلخله ؛ والجماعة المسلمة تخوض المعركة في كل ميادينها وبكل قوتها !
والله - سبحانه - يطمئن النبي [ ص ] والمخلصين في الصف . يطمئنهم بأن عينه على هذه الطائفة التي تبيت وتمكر . وشعور المسلمين بأن عين الله على المبيتين الماكرين يثبت قلوبهم ، ويسكب فيها الطمأنينة إلى أن هذه الطائفة لن تضرهم شيئا بتآمرها وتبيتها . ثم هي تهديد ووعيد للمتآمرين المبيتين ؛ فلن يذهبوا مفلحين ، ولن يذهبوا ناجين :
وكان الخطة التي وجه الله إليها نبيه [ ص ] في معاملة المنافقين ، هي أخذهم بظاهرهم - لا بحقيقة نواياهم - والإعراض والتغاضي عما يبدر منهم . . وهي خطة فتلتهم في النهاية ، وأضعفتهم ، وجعلت بقاياهم تتوارى ضعفا وخجلا . . وهنا طرف من هذه الخطة :
ومع هذا التوجيه بالإغضاء عنهم ، التطمين بكلاءة الله وحفظة مما يبيتون :
( وتوكل على الله . . وكفى بالله وكيلاً ) . .
نعم . . وكفى بالله وكيلا . لا يضار من كان وكيله ؛ ولا يناله تآمر ولا تبيت ولا مكيدة . .
وكأنما كان الذي يدفع هذه الطائفة إلى أن تقول في حضرة الرسول [ ص ] مع القائلين : ( طاعة ) فإذا خرجت بيتت غير الذي تقول . . كأنما كان هذا بسبب شكهم في مصدر ما يأمرهم به الرسول -[ ص ] - وظنهم أن هذا القرآن من عنده ! وحين يوجد مثل هذا الشك لحظة يتوارى سلطان الأمر والتكليف جملة . فهذا السلطان مستمد كله من الاعتقاد الجازم الكامل ، بأن هذا كلام الله ، وبأنه [ ص ] لا ينطق عن الهوى . . ومن ثم كان هذا التوكيد الشديد الجازم المكرر على هذه الحقيقة . .
وقوله : { وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ } يخبر تعالى عن المنافقين بأنهم يظهرون الموافقة والطاعة { فَإِذَا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ } أي : خرجوا وتواروا عنك { بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ } أي : استسروا ليلا فيما بينهم بغير ما أظهروه . فقال تعالى : { وَاللَّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ } أي : يعلمه ويكتبه عليهم بما يأمر به حفظته الكاتبين ، الذين هم موكلون بالعباد . يعلمون ما يفعلون . والمعنى في هذا التهديد ، أنه تعالى أخبر بأنه عالم بما يضمرونه ويسرونه فيما بينهم ، وما يتفقون عليه ليلا من مخالفة الرسول وعصيانه ، وإن كانوا قد أظهروا له الطاعة والموافقة ، وسيجزيهم على ذلك . كما قال تعالى : { وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا [ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ ]{[7926]} } [ النور : 47 ] .
وقوله : { فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ } أي : اصفح عنهم واحلم عليهم{[7927]} ولا تؤاخذهم ، ولا تكشف أمورهم للناس ، ولا تَخَفْ منهم أيضا { وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلا } أي : كفى به{[7928]} وليًّا وناصرًا ومعينا لمن توكل عليه وأناب إليه .
بَيَّن أنّهم لضعف نفوسهم لا يُعرضون جهراً بل يظهرون الطاعة ، فإذا أمرهم الرسول أو نهاهم يقولون له { طاعة } أي : أمْرُنا طاعةٌ ، وهي كلمة يدُلّون بها على الامتثال ، وربما يقال : سَمْعٌ وطاعة ، وهو مصدر مرفوع على أنّه خبر لمبتدإ محذوف ، أي أمرنا أو شأننا طاعة ، كما في قوله : { فصبرٌ جميل } [ يوسف : 18 ] . وليس هو نائباً عن المفعول المطلق ألآتي بدَلاً من الفعل الذي يُعَدل عن نصبه إلى الرفع للدلالة على الثبات مثل « قال سلام » ، إذ ليس المقصود هنا إحداثَ الطاعة وإنّما المقصود أنّنا سنُطيع ولا يكون منّا عصيان .
ومعنى { برزوا } خرجوا ، وأصل معنى البروز الظهور ، وشاع إطلاقه على الخروج مجازاً مرسلاً .
و { بيَّتَ } هنا بمعنى قدّر أمراً في السرّ وأضمره ، لأنّ أصل البيات هو فعل شيء في الليل ، والعرب تستعير ذلك إلى معنى الإسرار ، لأنّ الليل أكتم للسرّ ، ولذلك يقولون : هذا أمر قْضي بليل ، أي لم يطّلع عليه أحد ، وقال الحارث بن حلّزة :
أجمعوا أمرهم بليل فلمّا *** أصبحوا أصبحت لهم ضوضاء
وقال أبو سفيان : هذا أمر قضى بليل . وقال تعالى : { لنُبيِّتَنَّه وأهله } [ النمل : 49 ] أي : لنقتلنّهم ليلاً . وقال : { وهو معهم إذ يّبيتون ما لا يَرضى من القول } [ النساء : 108 ] . وتاء المضارعة في { غير الذي تقول } للمؤنث الغائب ، وهو الطائفة ويجوز أن يراد خطاب النبي صلى الله عليه وسلم أي غير الذي تقول لهم أنت ، فيجيبون عنه بقولهم : طاعة . ومعنى { والله يكتب ما يبيّتون } التهديد بإعلامهم أنّه لن يفلتهم من عقابه ، فلا يغرنّهم تأخّر العذاب مدّة . وقد دلّ بصيغة المضارع في قوله : { يكتب } على تجدّد ذلك ، وأنّه لا يضاع منه شيء .
وقوله : { فأعرض عنهم } أمر بعدم الاكتراث بهم ، وأنّهم لا يُخشى خلافهم ، وأنّه يتوكلّ على الله { وكفى بالله وكيلاً } أي مُتوكَّلاً عليه ، ولا يَتوكّل على طاعة هؤلاء ولا يحزنه خلافهم .
وقرأ الجمهور { بيَّتَ طَائفة } بإظهار تاء ( بيَّتَ ) من طاء ( طائفة ) . وقرأه أبو عمرو ، وحمزة ، ويعقوب ، وخلف بإدغام التاء في الطاء تخفيفاً لقرب مخرجيهما .