الكشف والبيان في تفسير القرآن للثعلبي - الثعلبي  
{وَيَقُولُونَ طَاعَةٞ فَإِذَا بَرَزُواْ مِنۡ عِندِكَ بَيَّتَ طَآئِفَةٞ مِّنۡهُمۡ غَيۡرَ ٱلَّذِي تَقُولُۖ وَٱللَّهُ يَكۡتُبُ مَا يُبَيِّتُونَۖ فَأَعۡرِضۡ عَنۡهُمۡ وَتَوَكَّلۡ عَلَى ٱللَّهِۚ وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ وَكِيلًا} (81)

{ وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ } يعني المنافقين وذلك إنهم كانوا يقولون لرسول الله صلى الله عليه وسلم إنّا آمنّا بك فمرنا من أمرك طاعةً ، وهم يكفرون به في السر ، وقوله ( طاعة ) مرفوعة على معنى منّا طاعة وأمرك طاعة وكذلك قوله ( لا تقسموا طاعة ) مرفوعة أي قولوا ، سمعاً وطاعة ، وكذلك قوله

{ فَأَوْلَى لَهُمْ * طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَّعْرُوفٌ } [ محمد : 20-21 ] وليست مرتفعة إليهم بل هي مرتفعة على الوجه الذي ذكرت . { فَإِذَا بَرَزُواْ مِنْ عِندِكَ } أي خرجوا { بَيَّتَ طَآئِفَةٌ مِّنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ } أي زوّر وموّه وقيل هنا .

فقال قتادة والكلبي : بيّت أي غيّر وبدّل الذي عهد إليهم النبي صلى الله عليه وسلم ويكون السبب معنى التبديل .

قال الشاعر :

بيّت قولي عبد المليك *** قاتله الله عبداً كفوراً

وقال القتيبي وأبو عبيدة : ( بيّت طائفة منهم ) أي قالوا وقدروا ليلاً غير الذي أعطوك نهاراً ، وكل شيء قدرّ بليل من شر فهو تبييت .

قال عبيدة بن الهمام :

أتوني فلم أَرض ما بيّتوا *** وكانوا أتوني بشيء نكر

لأنكح أيّمهم منذراً *** وهل ينكح العبد حر بحر

وقال النمر بن تولب :

هبت لتعذلني بليل أسمعي *** سفهاً تبيتك الملامة فاهجعي

وقال أبو الحسن سعيد بن مسعدة الأخفش : يقول العرب للشيء إذا قدر قد بيّت ، يشبهونه تقدير بيوت [ الشعر ] .

{ وَاللَّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ } أي ما يغيرون ويزورون ويقدرون .

الضحاك عن ابن عباس : يعني ما تسرّون من النفاق { فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ } يا محمد فلا تعاقبهم { وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً } أي كفيلاً ، وثقةً ، وناصراً بالانتقام لك منهم ، فنسخ الله تعالى قوله { فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ } بقوله :

{ يأَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ } [ التوبة : 73 ] بالسيف

{ وَالْمُنَافِقِينَ }

بالكلام الغليظ .

فإن قيل : ما وجه الحكمة في ( أعدائه ) ذكر مهلهم . ثم قال ( بيت طائفة منهم ) فصرف الخطاب من ( جلهم ) إلى بعضهم .

يقال : إذ إنما عَبر عن حال من علم الله وبقي على كفره ونفاقه ، فأما من علم أنه يرجع عن ذلك فإنه صفح عن ذكرهم ، وقد قيل : إنه غير عن حال من أحوالهم قد تستّر في أمره ، فأما من سمع وسكت فإنه لم يذكرهم ، وفي قوله { مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ } دليل على إبطال قول من زعم أنّ السنّة تعرُض على الكتاب لم يعمل بها وذلك إن كل ما نص الله عز وجل ، عليه فإنّما صار فرضاً بالكتاب ، فإذا عدم النص من الكتاب ، وورد به السنّة فوجب إتباعها ، ومن خالفها فقد خالف رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن خالف رسول الله فقد خالف الله ، لأن في طاعة الرسول طاعة الله ، فمن زعم أنه لم يقبل خبره إلاّ بعد أن يعرض على كتاب الله ، فقد أبطل كلّ حكم ورد عنه ما لم ينصّ عليه الكتاب .

وأما قوله { وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ } ففيه دليل على أنّ من لم يعتقد الطاعة فليس بمطيع على الحقيقة ، وذلك أن الله تعالى لمّا تحقّق طاعتهم فيما أظهروه ، فقال : ويقولون ذلك لأنّه لو كان للطاعة حقيقة إلاّ بالاعتقاد لحكم لهم بها [ فثبت ] أنه لا يكون المطيع مطيعاً ، إلاّ باعتقاد الطاعة مع وجودها .