الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - القرطبي  
{وَيَقُولُونَ طَاعَةٞ فَإِذَا بَرَزُواْ مِنۡ عِندِكَ بَيَّتَ طَآئِفَةٞ مِّنۡهُمۡ غَيۡرَ ٱلَّذِي تَقُولُۖ وَٱللَّهُ يَكۡتُبُ مَا يُبَيِّتُونَۖ فَأَعۡرِضۡ عَنۡهُمۡ وَتَوَكَّلۡ عَلَى ٱللَّهِۚ وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ وَكِيلًا} (81)

قوله تعالى : " ويقولون طاعة فإذا برزوا من عندك بيت طائفة منهم غير الذي تقول والله يكتب ما يبيتون " أي أمرنا طاعة ، ويجوز " طاعة " بالنصب ، أي نطيع طاعة ، وهي قراءة نصر بن عاصم والحسن والجحدري . وهذا في المنافقين في قول أكثر المفسرين ، أي يقولون إذا كانوا عندك : أمرنا طاعة ، أو نطيع طاعة ، وقولهم هذا ليس بنافع ؛ لأن من لم يعتقد الطاعة ليس بمطيع حقيقة ؛ لأن الله تعالى لم يحقق طاعتهم بما أظهروه ، فلو كانت الطاعة بلا اعتقاد حقيقة لحكم بها لهم ، فثبت أن الطاعة بالاعتقاد مع وجودها . " فإذا برزوا " أي خرجوا " من عندك بيت طائفة منهم " فذكر الطائفة ؛ لأنها في معنى رجال . وأدغم الكوفيون التاء في الطاء ؛ لأنهما من مخرج واحد ، واستقبح ذلك الكسائي في الفعل وهو عند البصريين غير قبيح . ومعنى " بيت " زور وموه . وقيل : غير وبدل وحرف ؛ أي بدلوا قول النبي صلى الله عليه وسلم فيما عهده إليهم وأمرهم به . . والتبييت التبديل ؛ ومنه قول الشاعر{[4658]} :

أتوني فلم أرض ما بيَّتوا *** وكانوا أتوني بأمر نُكُرْ

لأنكح أيمهم منذرا *** وهل ينكح العبد حرٌّ لحُرْ

آخر{[4659]} :

بيَّت قولي عبدالملي *** ك قاتله الله عبدا كفورا

وبيت الرجل الأمر إذا دبر ليلا ؛ قال الله تعالى : " إذ يبيتون ما لا يرضى من القول{[4660]} " [ النساء : 108 ] . والعرب تقول : أمر بيت بليل إذا أحكم . وإنما خص الليل بذلك لأنه وقت يتفرغ فيه . قال الشاعر :

أجمعوا أمرهم بليل فلما *** أصبحوا أصبحت لهم ضَوضَاء

ومن هذا بيت الصيام . والبيوت : الماء يبيت ليلا . والبيوت : الأمر يبيت عليه صاحبه مهتما به ؛ قال الهذلي{[4661]} :

وأجعل فِقْرتها عُدةً *** إذا خِفْتُ بيوت أمرٍ عُضَالِ

والتبييت والبيات أن يأتي العدو ليلا . وبات يفعل كذا إذا فعله ليلا ، كما يقال : ظل بالنهار . وبيت الشيء قدر . فإن قيل : فما وجه الحكمة في ابتدائه بذكر جملتهم ثم قال : " بيت طائفة منهم " ؟ قيل : إنما عبر عن حال من علم أنه بقي على كفره ونفاقه ، وصفح عمن علم أنه سيرجع عن ذلك . وقيل : إنما عبر عن حال من شهد وحار في أمره ، وأما من سمع وسكت فلم يذكره . والله أعلم . " والله يكتب ما يبيتون " أي يثبته في صحائف أعمالهم ليجازيهم عليه . وقال الزجاج : المعنى ينزله عليك في الكتاب . وفي هذه الآية دليل على أن مجرد القول لا يفيد شيئا كما ذكرنا ، فإنهم قالوا : طاعة ، ولفظوا بها ولم يحقق الله طاعتهم ولا حكم لهم بصحتها ؛ لأنهم لم يعتقدوها . فثبت أنه لا يكون المطيع مطيعا إلا باعتقادها مع وجودها .

قوله تعالى : " فأعرض عنهم " أي لا تخبر بأسمائهم ، عن الضحاك ، يعني المنافقين . وقيل : لا تعاقبهم . " وتوكل على الله وكفى بالله وكيلا " ثم أمره بالتوكل عليه والثقة به في النصر على عدوه . ويقال : إن هذا منسوخ بقوله تعالى : " يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين{[4662]} " [ التوبة : 73 ]


[4658]:هو الأسود بن يعفر، كما في اللسان مادة "نكر".
[4659]:هو الأسود بن عامر الطائي يعاتب رجلا كما في الطبري ج 5 ص 174 طبع بولاق، في البحر: وتبيت قولي. قاتلك الخ.
[4660]:راجع ص 379 من هذا الجزء.
[4661]:راجع ديوان الهذليين ج 2 ص 190 طبع دار الكتب.
[4662]:راجع ج 8ص 204.