مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{وَيَقُولُونَ طَاعَةٞ فَإِذَا بَرَزُواْ مِنۡ عِندِكَ بَيَّتَ طَآئِفَةٞ مِّنۡهُمۡ غَيۡرَ ٱلَّذِي تَقُولُۖ وَٱللَّهُ يَكۡتُبُ مَا يُبَيِّتُونَۖ فَأَعۡرِضۡ عَنۡهُمۡ وَتَوَكَّلۡ عَلَى ٱللَّهِۚ وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ وَكِيلًا} (81)

قال الله تعالى : { ويقولون طاعة فإذا برزوا من عندك بيت طائفة منهم غير الذي تقول والله يكتب ما يبيتون فأعرض عنهم وتوكل على الله وكفى بالله وكيلا }

أي ويقولون إذا أمرتهم بشيء { طاعة } بالرفع ، أي أمرنا وشأننا طاعة ، ويجوز النصب بمعنى أطعناك طاعة ، وهذا كما إذا قال الرجل المطيع المنقاد : سمعا وطاعة ، وسمع وطاعة . قال سيبويه : سمعنا بعض العرب الموثوق بهم يقال لهم كيف أصبحت ؟ فيقول : حمدا لله وثناء عليه ، كأنه قال : أمري وشأني حمدا لله .

واعلم أن النصب يدل على مجرد الفعل . وأما الرفع فإنه يدل على ثبات الطاعة واستقرارها { فإذا برزوا من عندك } أي خرجوا من عندك { بيت طائفة منهم غير الذى تقول } وفيه مسائل :

المسألة الأولى : قال الزجاج : كل أمر تفكروا فيه كثيرا وتأملوا في مصالحه ومفاسده كثيرا قيل هذا أمر مبيت ، قال تعالى : { إذ يبيتون ما لا يرضى من القول } وفي اشتقاقه وجهان : الأول : اشتقاقه من البيتوتة ، لأن أصلح الأوقات للفكر أن يجلس الإنسان في بيته بالليل ، فهناك تكون الخواطر أخلى والشواغل أقل ، فلما كان الغالب أن الإنسان وقت الليل يكون في البيت ، والغالب له أنه إنما يستقصي في الأفكار في الليل ، لا جرم سمي الفكر المستقصى مبيتا . الثاني : اشتقاقه من بيت الشعر . قال الأخفش : العرب إذا أرادوا قرض الشعر بالغوا في التفكر فيه فسموا المتفكر فيه المستقصى مبيتا ، تشبيها له ببيت الشعر من حيث أنه يسوى ويدبر .

المسألة الثانية : أنه تعالى خص طائفة من جملة المنافقين بالتبييت ، وفي هذا التخصيص وجهان : أحدهما : أنه تعالى ذكر من علم أنه يبقى على كفره ونفاقه ، فأما من علم أنه يرجع عن ذلك فإنه لم يذكرهم . والثاني : أن هذه الطائفة كانوا قد أسهروا ليلهم في التبييت ، وغيرهم سمعوا وسكتوا ولم يبيتوا ، فلا جرم لم يذكروا .

المسألة الثالثة : قرأ أبو عمرو وحمزة { بيت طائفة } بإدغام التاء في الطاء ، والباقون بالإظهار أما من أدغم فله فيه وجهان : الأول : قال الفراء : جزموا لكثرة الحركات ، فلما سكنت التاء أدغمت في الطاء ، والثاني : أن الطاء والدال والتاء من حيز واحد ، فالتقارب الذي بينها يجريها مجرى الأمثال في الإدغام ، ومما يحسن هذا الإدغام أن الطاء تزيد على التاء بالإطباق ، فحسن إدغام الأنقص صوتا في الأزيد صوتا . أما من لم يدغم فعلته أنهما حرفان من مخرجين في كلمتين متفاصلتين ، فوجب إبقاء كل واحد منهما بحاله .

المسألة الرابعة : قال : { بيت } بالتذكير ولم يقل : بيتت بالتأنيث ، لأن تأنيث الطائفة غير حقيقي ، ولأنها في معنى الفريق والفوج . قال صاحب «الكشاف » : { بيت طائفة } أي زورت وزينت خلاف ما قلت وما أمرت به ، أو خلاف ما قالت وما ضمنت من الطاعة ، لأنهم أبطنوا الرد لا القبول والعصيان لا الطاعة .

ثم قال تعالى : { والله يكتب ما يبيتون } ذكر الزجاج فيه وجهين : أحدهما : أن معناه ينزل إليك في كتابه . والثاني : يكتب ذلك في صحائف أعمالهم ليجازوا به .

ثم قال تعالى : { فأعرض عنهم } والمعنى لا تهتك سترهم ولا تفضحهم ولا تذكرهم بأسمائهم ، وإنما أمر الله بستر أمر المنافقين إلى أن يستقيم أمر الإسلام . ثم قال : { وتوكل على الله } في شأنهم ، فإن الله يكفيك شرهم وينتقم منهم { وكفى بالله وكيلا } لمن توكل عليه . قال المفسرون : كان الأمر بالإعراض عن المنافقين في ابتداء الإسلام ، ثم نسخ ذلك بقوله : { جاهد الكفار والمنافقين } وهذا الكلام فيه نظر ، لأن الأمر بالصفح مطلق فلا يفيد إلا المرة الواحدة ، فورود الأمر بعد ذلك بالجهاد لا يكون ناسخا له .