اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَيَقُولُونَ طَاعَةٞ فَإِذَا بَرَزُواْ مِنۡ عِندِكَ بَيَّتَ طَآئِفَةٞ مِّنۡهُمۡ غَيۡرَ ٱلَّذِي تَقُولُۖ وَٱللَّهُ يَكۡتُبُ مَا يُبَيِّتُونَۖ فَأَعۡرِضۡ عَنۡهُمۡ وَتَوَكَّلۡ عَلَى ٱللَّهِۚ وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ وَكِيلًا} (81)

في رفع " طاعة " : وجهان :

أحدهما : أنه خبرُ مُبْتَدأ مضمَرٍ ، تقديره : " أمر طاعة " ولا يجُوز إظهارُ هذا المُبْتَدأ ؛ لأن الخَبَر مَصْدَر بدلٌ من اللَّفْظِ بفعله .

والثاني : أنه مُبْتَدأ والخَبَر مَحْذُوف ، أي : مِنَّا طَاعَة ، أو : عِنْدنا طَاعَةٌ ، قال مكي{[8930]} : " ويجُوز في الكَلاَم النَّصْبُ على المَصْدَر " .

قوله : " فإذا برزوا " [ وأخْرِجُوا ]{[8931]} ، من عندك بيت طائِفَةٌ مِنْهُم غير الَّذي تَقُولُ .

أدغم أبو عَمْرو وحمزة{[8932]} : تاء " بَيَّت " في طَاءِ " طائفة " لتقاربهما ، ولم يَلْحَقِ الفِعْلَ علامةُ تأنيث ؛ لكونه مَجَازياً ، و " منهم " : صِفَةٌ ل " طائفة " ، والضَّمِير في " تَقُول " يحتمل أن يكُون ضَمير خِطَاب للرَّسُول - عليه السلام - ، أي : غيرَ الذي تَقُولُه وترسم به يا مُحَمَّد ، ويؤيِّده قِرَاءة عبد الله{[8933]} : " بيَّتَ مُبَيِّتٌ مِنْهُم " ، وأن يكون ضمير غَيْبَة للطَّائفة ، أي : تقول هي .

وقرأ يَحْيَى بن يَعْمر{[8934]} : " يقول " بياء الغَيْبَة ، فيحتمل أن يَعُود الضَّمِيرُ على الرَّسُول بالمَعْنَى المُتقدِّم ، وأن يَعُود على الطَّائِفَةِ ، ولم يؤنِّث الضَّمِيرَ ؛ لأن الطِّائِفَة في معنى الفَرِيق والقوم .

قال الزَّمَخْشَرِيُّ : " بيت طائفة " أي : زوَّرت وسوَّت " غير الذي تقول " : خلاف ما قُلْت ومَا أمَرْت به ، أو خِلاَف ما قَالَتْ ومَا ضَمِنَت من الطَّاعَة ؛ لأنَّهم أضْمَرُوا الرَّدَّ لا القَبُول .

قال الزَّجَّاج : كل أمر تفكر فيه وتُؤوِّل في مصالحه ومفاسده كثيراً ، قيل : هذا أمْر مُبَيَّتٌ ؛ قال - تعالى - : { إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لاَ يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ } [ النساء : 108 ] ، وقال قتادَةُ والكَلْبِيُّ : بَيَّت ، أي : غيَّر وبَدَّل الَّذِي عَهِدَ إليهم النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم{[8935]} ، ويكون التَّبْييتُ بمعنى : التَّبْدِيل .

وقال أبُو عُبَيْدَة{[8936]} : والتَّبييتُ معناه : قالُوا وقَدَّرُوا لَيْلاً مَا أعطوك نهاراً ، وكل ما قُدِّر بلَيْل فهو مُبَيَّتٌ{[8937]} .

وقال أبو الحَسَن الأخْفَش{[8938]} : تقول العَرَب للشَّيْءِ إذا قُدِّرَ : بَيْتٌ ، يُشَبِّهُونَهُ بتقدير بُيُوت الشِّعْر ، وفي اشْتِقَاقه وَجْهَان :

أحدهما : أن أصْلَح الأوْقَات للفكْر أن يَجْلِس الإنْسَان في بَيْتِهِ باللَّيل ، فهناك تكُون الخَوَاطِر أجْلى والشَّواغل أقَل ، فلما كان الغَالِبُ أنَّ الإنْسَان وقت اللَّيْل يكون في البَيْتِ ، والغَالِبُ أنه إنَّما يَسْتَقْصِي في الأفْكَار في اللَِّيْلِ ، فلا جَرَم سُمِّي ذلك فيس الفِكْر مبيِّتاً .

والثاني : أن التَّبْييتَ والبَيَات : أن يَأتِي العَدُوُّ ليلاً ، وبات يَفْعَل كذا : إذا فَعَلَه لَيْلاً ؛ كما يُقَال : ظلَّ بالنَّهار ، وبَيَّتَ بالشيء ، قَدَّره ، وإنما خَصَّ هذه الطَّائِفَة من جُمْلَة المُنَافِقِين لوجهين :

أحدهما : أنه - تعالى - ذكر من عَلِم أنَّه يَبْقى على كُفْرِه ونِفَاقِة ، فأمَّا من عَلِمَ أنَّه يرجع عن ذَلِك فإنَّه لم يَذْكُرْهُم .

والثَّاني : أنَّ هذه الطَّائِفَة كانوا قد سَهِرُوا لَيْلَهُم في التَّبْيِيتِ ، وغيرهم سَمِعُوا وسَكَتُوا ولم يُبَيِّتُوا ، فلا جَرَم لم يُذْكَرُوا .

وفي الآيَة دليل على أن مُجَرَّدَ القَوْل لا يُفيد شيئاً ، فإنَّهُمْ قَالُوا " طائفة " ولَفَظُوا بِهَا ، ولم يحقِّق اللَّه طاعتهم .

ثم قال : { وَاللَّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ } ذكر الزَّجَّاج [ فيه ]{[8939]} وجْهَيْن :

أحدهما : [ معناه ]{[8940]} : ينزل إلَيْك في كِتَابِه .

والثَّّاني : يكُتَبُ ذلك في صَحَائِف أعْمَالهم ؛ ليجَازوا به .

وقال الضَّحاك عن ابن عبَّاسٍ ، يعني : ما يُسِرُّون من النِّفَاق{[8941]} .

و " مَا " في " ما يبيتون " يجوز أن تكون مَوْصُولة أو مَوْصُوفة أو مَصْدَرية . " فأعْرِض عَنْهم " يا مَحَمَّد ، ولا تفضحهم ولا تُعَاقِبْهُم ولا تُخْبِر بأسْمَائِهِم ؛ فأمر اللَّه - تعالى - بستْر [ أحْوَالِ ]{[8942]} المُنَافِقين إلى أن يَسْتَقِيم أمر الإسْلام .

ثم قَالَ : { وتوكل على الله } في شأنهم ، فإن الله يَكْفِيكَ [ شَرَّهُم ]{[8943]} وينتقم [ لك ]{[8944]} منهم ، { وكفى بالله وكيلاً } لمن توكَّلَ عليه .

قال المُفَسِّرون{[8945]} : كان الأمْر بالإعْرَاض عن المُنَافِقِين في ابْتِداء الإسْلاَم ، ثم نُسِخ ذلك بقوله : { جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ } [ التوبة : 73 ] . وهذا فيه نَظَر ؛ لأن الأمْر بالصَّفْح مُطْلَق ، فلا يفيد إلاَّ المَرَّة الوَاحِدَة ، فورودُ الأمْر بعد ذَلِك بالجِهَادِ لا يكون نَاسِخاً له .


[8930]:ينظر: المشكل 1/199.
[8931]:سقط في ب.
[8932]:ينظر: السبعة 235، والحجة 3/173، وإعراب القراءات 1/136، والعنوان 85، وشرح شعلة 341، وإتحاف 1/517، والإدغام الكبير لأبي عمرو الداني ص 95.
[8933]:ينظر: المحرر الوجيز 2/83، والبحر المحيط 3/317، والدر المصون 2/401.
[8934]:ينظر: البحر المحيط 3/317، والدر المصون 2/401.
[8935]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (8/564، 565) من طريق عكرمة عن ابن عباس ومن طريق ابن جريج عن ابن عباس. وأورده السيوطي في "الدر المنثور" (2/332) طريق ابن جريج عن ابن عباس وزاد نسبته إلى ابن المنذر.
[8936]:ينظر: تفسير البغوي 1/455.
[8937]:في ب: تبيت.
[8938]:ينظر: تفسير البغوي 1/455.
[8939]:سقط في ب.
[8940]:سقط في أ.
[8941]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (8/565) عن الضحاك وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (2/332) وزاد نسبته لابن أبي حاتم.
[8942]:سقط في أ.
[8943]:سقط في ب.
[8944]:سقط في أ.
[8945]:ينظر: تفسير الرازي 10/156.