{ 36 ، 37 } { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ }
يخبر تعالى عن شناعة حال الكافرين بالله يوم القيامة ومآلهم الفظيع ، وأنهم لو افتدوا من عذاب الله بملء الأرض ذهبا ومثله معه ما تقبل منهم ، ولا أفاد ، لأن محل الافتداء قد فات ،
وعلى الجانب الآخر مشهد الكفار ، الذين لا يتقون الله ولا يبتغون إليه الوسيلة ولا يفلحون . . وهو مشهد شاخص متحرك ؛ لا يعبر عنه السياق القرآني في أوصاف وتقريرات ، ولكن في حركات وانفعالات . . على طريقة القرآن في رسم مشاهد القيامة ؛ وفي أداء معظم الأغراض :
{ إن الذين كفروا لو أن لهم ما في الأرض جميعاً ، ومثله معه ، ليفتدوا به من عذاب يوم القيامة ما تقبل منهم ، ولهم عذاب أليم . يريدون أن يخرجوا من النار ، وما هم بخارجين منها ، ولهم عذاب مقيم } . .
إن أقصى ما يتصوره الخيال على أساس الافتراض : هو أن يكون للذين كفروا كل ما في الأرض جميعا . ولكن السياق يفترض لهم ما هو فوق الخيال في عالم الافتراض . فيفرض أن لهم ما في الأرض جميعا ، ومثله معه ؛ ويصورهم يحاولون الافتداء بهذا وذلك ، لينجوا به من عذاب يوم القيامة . ويرسم مشهدهم وهم يحاولون الخروج من النار . ثم عجزهم عن بلوغ الهدف ، وبقاءهم في العذاب الأليم المقيم . .
ثم أخبر تعالى بما أعد لأعدائه الكفار من العذاب والنكال يوم القيامة ، فقال : { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الأرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } أي : لو أن أحدهم جاء يوم القيامة بملء الأرض ذهبًا ، وبمثله ليفتدي بذلك من عذاب الله الذي قد أحاط به{[9790]} وتيقن وصوله إليه{[9791]} ما تُقُبل ذلك منه{[9792]} بل لا مندوحة عنه ولا محيص له ولا مناص{[9793]} ؛ ولهذا قال : { وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } أي : موجع .
{ إن الذين كفروا لو أن لهم ما في الأرض } من صنوف الأموال . { جميعا ومثله معه ليفتدوا به } ليجعلوه فدية لأنفسهم . { من عذاب يوم القيامة } واللام متعلقة بمحذوف تستدعيه لو ، إذ التقدير لو ثبت أن لهم ما في الأرض ، وتوحيد الضمير في به والمذكور شيئان إما لإجرائه مجرى اسم الإشارة في نحو قوله تعالى : { عوان بين ذلك } . أو لأن الواو ومثله بمعنى مع . { ما تقبل منهم } جواب ، ولو بما في حيزه خبر إن والجملة تمثيل للزوم العذاب لهم وأنه لا سبيل لهم إلى الخلاص منه . { ولهم عذاب أليم } تصريح بالمقصود منه وكذلك قوله :
{ يريدون أن يخرجوا من النار وما هم بخارجين منها ولهم عذاب مقيم }
الأظهر أنّ هذه الجملة متّصلة بجملة { ولهم في الآخرة عذاب عظيم } [ المائدة : 33 ] اتّصال البيان ؛ فهي مبيّنة للجملة السابقة تهويلاً للعذاب الّذي توعّدهم الله به في قوله : { ذلك لهم خزي في الدّنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم } [ المائدة : 33 ] فإنّ أولئك المحاربين الّذين نزلت تلك الآية في جزائهم كانوا قد كفروا بعد إسلامهم وحاربوا الله ورسوله ، فلمّا ذكر جزاؤهم عقّب بذكر جزاء يَشملهم ويشمل أمثالهم من الّذين كفروا وذلك لا يناكد كون الآية للسابقة مراداً بها ما يشتمل أهل الحرابة من المسلمين .
والشرط في قوله : { لَوْ أنّ لَهُمْ مَا في الأرض } مقدّر بفعل دلّت عليه ( أنّ ) ، إذ التّقدير : لو ثبت ما في الأرض مِلكاً لهم ؛ فإنّ ( لَوْ ) لاختصاصها بالفعل صحّ الاستغناء عن ذكره بعدها إذا وردت ( أنّ ) بعدها . وقوله { ومثلَه معه } معطوف على { ما في الأرض } ، ولا حاجة إلى جعله مفعولاً معه للاستغناء عن ذلك بقوله { معه } . واللام في { ليفتدوا به } لتعليل الفعل المقدّر ، أي لو ثبت لهم ما في الأرض لأجل الافتداء به لا لأجل أن يكنزوه أو يهبوه .
وأفرد الضمير في قوله : { به } مع أنّ المذكور شيئان هما : { ما في الأرض } { ومثلَه } : إمّا على اعتبار الضّمير راجعاً إلى { ما في الأرض } فقط ، ويكون قوله { ومثلَه معه } معطوفاً مقدّماً من تأخير . وأصل الكلام لو أنّ لهم ما في الأرض ليفتدوا به ومثلَه معه . ودلّ على اعتباره مقدّماً من تأخير إفراد الضّمير المجرور بالباء . ونكتة التّقديم تعجيل اليأس من الافتداء إليهم ولو بمضاعفة ما في الأرض . وإمَّا ، وهو الظاهر عندي ، أن يكون الضّمير عائداً إلى { مثله معه } ، لأنّ ذلك المثل شمل ما في الأرض وزيادة فلم تبق جدوى لفرض الافتداء بما في الأرض لأنّه قد اندرج في مثله الذي معه .
ويجوز أن يُجرى الضّمير مجرى اسم الإشارة في صحّة استعماله مفرداً مع كونه عائداً إلى متعدّد على تأويله بالمذكور ؛ وهذا شائع في اسم الإشارة كقوله تعالى : { عوان بين ذلك } [ البقرة : 68 ] أي بين الفارض والبكر ، وقوله : { ومن يفعل ذلك يَلْق أثاماً } [ الفرقان : 68 ] إشارة ما ذكر من قوله : { والّذين لا يدعون مع الله إلهاً آخر ولا يقتلون النّفس الّتي حرّم الله إلاّ بالحقّ ولا يزنون } [ الفرقان : 68 ] ، لأنّ الإشارة صالحة للشيء وللأشياء ، وهو قليل في الضّمير ، لأنّ صيغ الضّمائر كثيرة مناسبة لِما تعود إليه فخروجها عن ذلك عدول عن أصل الوضع ، وهو قليل ولكنّه فصيح ، ومنه قوله تعالى : { قُلْ أرأيتم إن أخذ الله سمعكم وأبصاركم وختم على قلوبكم مَن إله غير الله يأتيكم به } [ الأنعام : 46 ] أي بالمذكور . وقد جعله في « الكشاف » محمولاً على اسم الإشارة ، وكذلك تأوّله رؤبة لمّا أنشد قولَه :
فيها خُطوط من سوادِ وبَلَق *** كأنّه في الجلد توليعُ البَهَق
فقال أبو عبيدة : قلت : لرؤبة إن أردت الخطوط فقُل : كأنَّها ، وإن أردتَ السوادَ فقل : كأنّهما ، فقال : أردتُ كأنّ ذلكَ وَيْلَكَ . ومنه في الضّمير قوله تعالى : { وآتوا النّساء صدقاتهنّ نحلة فإن طبن لكم عن شيء منه نفساً } [ النساء : 4 ] . وقد تقدّم عند قوله تعالى : { عوان بين ذلك } في سورة البقرة ( 68 ) .