إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود - أبو السعود  
{إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لَوۡ أَنَّ لَهُم مَّا فِي ٱلۡأَرۡضِ جَمِيعٗا وَمِثۡلَهُۥ مَعَهُۥ لِيَفۡتَدُواْ بِهِۦ مِنۡ عَذَابِ يَوۡمِ ٱلۡقِيَٰمَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنۡهُمۡۖ وَلَهُمۡ عَذَابٌ أَلِيمٞ} (36)

{ إِنَّ الذين كَفَرُوا } كلامٌ مبتدأٌ مَسوقٌ لتأكيدِ وجوبِ الامتثالِ بالأوامر السابقة وترغيبِ المؤمنين في المسارعة إلى تحصيل الوسيلة إليه عز وجل قبل انقضاءِ أوانِه ببيان استحالةِ توسُّلِ الكفار يومَ القيامة بأقوى الوسائل إلى النجاة من العذاب فضلاً عن نيلِ الثواب . { لَوْ أَنَّ لَهُمْ } أي لكل واحدٍ منهم كما في قوله تعالى : { وَلَوْ أَنَّ لِكُلّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ } الخ ، لا لجميعهم إذ ليس في ذلك هذه المرتبةُ من تهويل الأمر وتفظيعِ الحال { ما في الأرض } أي من أصناف أموالِها وذخائرِها وسائرِ منافعِها قاطبةً وهو اسمُ أن ولهم خبرُها ومحلُّها الرفعُ بلا خلاف ، خلا أنه عند سيبويه رفعٌ على الابتداء ولا حاجة فيه إلى الخبر لاشتمال صلتِها على المُسنَدِ والمُسنَد إليه ، وقد اختصَّتْ من بين سائر ما يُؤوّل بالاسم بالوقوع بعد لو ، وقيل : الخبرُ محذوفٌ ثم قيل : يُقدّر مقدّماً ، أي لو ثابتٌ كونُ ما في الأرض لهم . وقيل : يقدر مؤخراً أي لو كونُ ما في الأرض لهم ثابتٌ ، وعند المبرِّد والزجّاج والكوفيين رُفعَ على الفاعلية والفعلُ مقدرٌ بعد لو أي لو ثبَتَ أن لهم ما في الأرض . وقوله تعالى : { جَمِيعاً } توكيد للموصول أو حال منه { وَمِثْلَهُ } بالنصب عطفٌ عليه وقوله تعالى : { مَعَهُ } ظرفٌ وقع حالاً من المعطوفِ ، والضميرُ راجعٌ إلى الموصول وفائدتُه التصريحُ بفرض كينونَتِهما لهم بطريق المعيّة لا بطريق التعاقُب تحقيقاً لكمال فظاعةِ الأمر مع ما فيه من نوع إشعارٍ بكونهما شيئاً واحداً وتمهيداً لإفراد الضمير الراجع إليهما ، واللام في قوله تعالى : { لِيَفْتَدُوا بِهِ } متعلقةٌ بما تعلق به خبرُ أن ، أعني الاستقرارَ المقدَّرَ في ( لهم ) وبالخبر المقدّر عند من يرى تقديرَ الخبرِ مقدماً أو مؤخراً ، وبالفعل المقدّر بعد لو على رأي المبرِّد ومن نحا نحوه ، ولا ريب في أن مدارَ الافتداءِ بما ذُكر هو كونُه لهم لا ثبوتُ كونِه لهم وإن كان مستلزِماً له ، والباء في ( به ) متعلقةٌ بالافتداء ، والضميرُ راجعٌ إلى الموصول و( مثله ) معاً ، وتوحيدُه إما لما أشير إليه ، وإما لإجرائه مُجرى اسمِ الإشارة كأنه قيل بذلك كما في قوله : [ الرجز ]

[ فيها خطوطٌ من سوادٍ وبَلَقْ ] *** كأنه في الجلد توليعُ البَهَقْ{[166]}

أي كأن ذلك ، وقيل : هو راجعٌ إلى الموصول ، والعائدُ إلى المعطوف أعني ( مثله ) محذوفٌ ، كما حُذف الخبرُ من قيارٌ في قوله [ الطويل ] :

[ فمن تكُ أمسى بالمدينة رحله ] *** فإني وقيارٌ بها لغريبُ{[167]}

أي وقيار أيضاً غريبُ ، وقد جوَّزَ أن يكون نُصب و( مثلَه ) على أنه مفعولٌ معه ناصِبُه الفعلُ المقدر بعد لو تفريعاً على مذهب المبرد ، ومن رأى رأيَه ، وأنت خبيرٌ بأنه يؤدِّي إلى كونِ الرافعِ للفاعل غيرَ الناصب للمفعول معه لأن المعنى على اعتبارِ المعيةِ بين ( ما في الأرض ومثله ) في الكينونة لهم ، لا في ثبوت تلك الكينونةِ وتحقُقِها ، ولا مَساغَ لجعل ناصبِه الاستقرارَ المقدرَ في ( لهم ) ، لِما أن سيبويهِ قد نصَّ على أنّ اسمَ الإشارةِ وحرفَ الجر المتضمِّنَ للاستقرار لا يعمَلانِ في المفعول معه وأن قوله : هذا لك وأباك قبيحٌ وإن جوزه بعضُ النحاة في الظروف وحرف الجر ، وقولُه تعالى : { مِنْ عَذَابِ يَوْمِ القيامة } متعلقٌ بالافتداء أيضاً ، أي لو أن ( ما في الأرض مثله ) ثابتٌ لهم ليجعلوه فديةً لأنفسِهم من العذاب الواقعِ يومئذ . { مَا تُقُبّلَ مِنْهُمْ } ذلك ، وهو جواب لو وترتيبُه على كون ذلك لهم لأجل افتدائِهم به من غير ذكرِ الافتداءِ بأن يقال : وافتدَوْا به مع أن الردَّ والقَبولَ إنما يترتب عليه لا على مباديه ، للإيذانِ بأنه أمرٌ محقَّقُ الوقوع غنيٌّ عن الذكر ، وإنما المحتاجُ إلى الفَرْض قدرتُهم على ما ذُكر أو للمبالغةِ في تحقيق الردِّ وتخييلِ أنه وقع قبل الافتداءِ على منهاج ما في قوله تعالى : { أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُك فَلَمَّا رَآهُ مُستقرّاً عِندَه } [ النمل ، الآية 40 ] حيث لم يقل : فأتى به فلما رآه الخ ، وما في قوله تعالى : { وَقَالَتِ اخرُج عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ } [ يوسف ، الآية 31 ] من غير ذكر خروجِه عليه السلام عليهن ورؤيتِهن له . والجملة الامتناعية بحالها خبرُ إن الذين كفروا ، والمرادُ تمثيلُ لزوم العذاب لهم واستحالةُ نجاتِهم منه بوجهٍ من الوجوه المحققةِ والمفروضة . وعن النبي عليه الصلاة والسلام : «يقالُ للكافر أرأيت لو كان لك ملءُ الأرض ذهباً أكنت تفتدي به ؟ فيقول : نعم ، فيقال له : قد سُئلتَ أيسرَ من ذلك وهو كلمة الشهادة » وقوله تعالى : { وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } تصريحٌ بما أشير إليه بعدم قَبول فِديتِهم لزيادة تقريرِه وبيانِ هَوْلِه وشدّتِه ، قيل : محلّه النصب على الحالية ؛ وقيل : الرفعُ عطفاً على خبر إِن ، وقيل : عطفٌ على إن الذين فلا محلَّ له كالمعطوف عليه .


[166]:الرجز لرؤبة بن العجاج في ديوانه ص 104؛ وأساس البلاغة ص 509؛ والأشباه والنظائر 5/63؛ وتخليص الشواهد ص 53؛ وخزانة الأدب 1/88؛ وشرح شواهد المغني 2/764؛ ولسان العرب (ولع، بهق). والبلق: سواد وبياض. والبهق: بياض يعتري الجسد بخلاف لونه، ليس من البرص. والتوليع: التلميع من البرص وغيره. وفرس مولّع: تلميعه مستطيل وهو الذي في بياض بلقه استطالةٌ وتفرّق. قال أبو عبيدة: قلت: لرؤبة: إن كانت الخطوط فقل كأنها، وإن كان سواد وبياض فقل كأنهما، فقال رؤبة: كأن ذا، ويلك، توليع البهق.
[167]:البيت لضابئ بن الحارث البرجمي في الأصمعيات ص 184؛ والإنصاف ص 94؛ وتخليص الشواهد ص 385؛ وخزانة الأدب 9/326؛ وشرح أبيات سيبويه 1/369؛ والكتاب 1/75؛ ولسان العرب (قير)، وشرح شواهد المغني ص 867؛ والشعر والشعراء ص 358؛ والمقاصد النحوية 2/318؛ ومعاهد التنصيص 1/186؛ وشرح المفصل 8/86.