البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لَوۡ أَنَّ لَهُم مَّا فِي ٱلۡأَرۡضِ جَمِيعٗا وَمِثۡلَهُۥ مَعَهُۥ لِيَفۡتَدُواْ بِهِۦ مِنۡ عَذَابِ يَوۡمِ ٱلۡقِيَٰمَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنۡهُمۡۖ وَلَهُمۡ عَذَابٌ أَلِيمٞ} (36)

{ إن الذين كفروا لو أن لهم ما في الأرض جميعاً ومثله معه ليفتدوا به من عذاب يوم القيامة ما تقبل منهم } لما أرشد المؤمنين إلى معاقد الخير ومفاتح السعادة ، وذكر فوزهم في الآخرة وما آلوا من الفلاح ، شرح حال الكفار وعاقبه كفرهم ، وما أعد لهم من العذاب .

والجملة من لو وجوابها في موضع خبر إنّ ، ومعنى ما في الأرض : من صنوف الأموال التي يفتدى بها ، ومثله معطوف على اسم إن ، ولام كي تتعلق بما تعلق به خبر إن وهو لهم .

والمعنى : لو أنّ ما في الأرض ومثله معه مستقر لهم على سبيل الملك ليجعلوه فدية لهم ما تقبل ، وهذا على سبيل التمثيل ولزوم العذاب لهم ، وأنه لا سبيل إلى نجاتهم منه .

وفي الحديث « يقال للكافر : أرأيت لو كان لك ملء الأرض ذهباً أكنت تفتدي به ؟ فيقول : نعم .

فيقال له : قد سئلت أيسر من ذلك » /ووجد الضمير في به ، وإن كان قد تقدم شيئان معطوف عليه ومعطوف ، وهو ما في الأرض ومثله معه ، إمّا لفرض تلازمهما فأجريا مجرى الواحد كما قالوا : رب يوم وليلة مرّ بي ، وإما لإجراء الضمير مجرى اسم الإشارة كأنه قال : ليفتدوا بذلك .

قال الزمخشري : ويجوز أن تكون الواو في : ومثله ، بمعنى مع ، فيوحد المرجوع إليه .

( فإن قلت ) : فبم ينتصب المفعول معه ؟ ( قلت ) : بما تستدعيه لو من الفعل ، لأن لو ثبت أنّ لهم ما في الأرض انتهى .

وإنما يوحد الضمير لأن حكم ما قبل المفعول معه في الخبر ، والحال ، وعود الضمير متأخراً حكمة متقدماً ، تقول : الماء والخشبة استوى ، كما تقول : الماء استوى والخشبة وقد أجاز الأخفش في ذلك أن يعطي حكم المعطوف فتقول : الماء مع الخشبة استويا ، ومنع ذلك ابن كيسان .

وقول الزمخشري : تكون الواو في : ومثله ، بمعنى مع ليس بشيء ، لأنه يصير التقدير مع مثله معه ، أي : مع مثل ما في الأرض مع ما في الأرض ، إنْ جعلت الضمير في معه عائداً على مثله أي : مع مثله مع ذلك المثل ، فيكون المعنى مع مثلين .

فالتعبير عن هذا المعنى بتلك العبارة عيّ ، إذ الكلام المنتظم أن يكون التركيب إذا أريد ذلك المعنى مع مثليه .

وقول الزمخشري .

فإنْ قلت إلى آخر السؤال ، وهذا السؤال لا يردّ ، لأنّا قد بينا فساد أنْ تكون الواو واو مع ، وعلى تقدير وروده فهذا بناء منه على أنّ الواو إذا جاءت بعد لو كانت في موضع رفع على الفاعلية ، فيكون التقدير على هذا : لو ثبت كينونة ما في الأرض مع مثله لهم ليفتدوا به ، فيكون الضمير عائداً على ما فقط .

وهذا الذي ذكره هو تفريع منه على مذهب المبرد في أنّ أن بعد لو في موضع رفع على الفاعلية ، وهو مذهب مرجوح .

ومذهب سيبويه أنّ أنْ بعد لو في موضع رفع على الابتداء .

والزمخشري لا يظهر من كلامه في هذا الكتاب وفي تصانيفه أنه وقف على مذهب سيبويه في هذه المسألة ، وعلى التفريع على مذهب المبرد لا يصح أن يكون ومثله مفعولاً معه ، ويكون العامل فيه ما ذكر من الفعل ، وهو ثبت بوساطة الواو لما تقدم من وجود لفظ معه .

وعلى تقدير سقوطها لا يصح ، لأنّ ثبت ليست رافعة لما العائد عليها الضمير ، وإنما هي رافعة مصدراً منسبكاً من أن وما بعدها وهو كون ، إذ التقدير : لو ثبت كون ما في الأرض جميعاً لهم ومثله معه ليفتدوا به ، والضمير عائد على ما دون الكون .

فالرافع للفاعل غير الناصب للمفعول معه ، إذ لو كان إياه للزم من ذلك وجود الثبوت مصاحباً للمثل ، والمعنى : على كينونة ما في الأرض مصاحباً للمثل ، لا على ثبوت ذلك مصاحباً للمثل ، وهذا فيه غموض ، وبيانه ، أنك إذا قلت : يعجبني قيام زيد وعمر ، أو جعلت عمراً مفعولاً معه ، والعامل فيه يعجبني ، لزم من ذلك أنّ عمراً لم يقم ، وأنه أعجبك القيام وعمرو ، وإن جعلت العامل فيه القيام كان عمرو قائماً ، وكان الإعجاب قد تعلق بالقيام مصاحباً لقيام عمرو .

( فإن قلت ) : هلا ، كان ومثله معه مفعولاً معه ، والعامل فيه هو العامل في لهم ، إذ المعنى عليه .

( قلت ) : لا يصح ذلك لما ذكرناه من وجود معه في الجملة ، وعلى تقدير سقوطها لا يصح لأنهم نصوا على أنّ قولك : هذا لك وأباك ممنوع في الاختيار .

وقال سيبويه : وأما هذا لك وأباك ، فقبيح لأنه لم يذكر فعلاً ولا حرفاً فيه معنى فعل حتى يصير كأنه قد تكلم بالفعل ، فأفصح سيبويه بأن اسم الإشارة وحرف الجر المتضمن معنى الاستقرار لا يعملان في المفعول معه ، ولو كان أحدهما يجوز أن ينتصب المفعول معه لخير بين أن ينسب العمل لاسم الإشارة أو لحرف الجر .

وقد أجاز بعض النحويين أن يعمل في المفعول معه الظرف وحرف الجر ، فعلى هذا المذهب يجوز لو كانت الجملة خالية من قوله : معه ، أن يكون ومثله مفعولاً معه على أنّ العامل فيه هو العامل في لهم .

وقرأ الجمهور : ما تقبل مبنياً للمفعول .

وقرأ يزيد بن قطيب : ما تقبل مبنياً للفاعل أي : ما تقبل الله منهم .

وفي الكلام جملة محذوفة التقدير : وبذلوه وافتدوا به ما تقبل منهم ، إذ لا يترتب انتفاء التقبل على كينونة ما في الأرض ومثله معه ، إنما يترتب على بذل ذلك أو الافتداء به .

{ ولهم عذاب أليم } هذا الوعيد هو لمن وافى على الكفر ، وتبينه آية آل عمران { وماتوا وهم كفار فلن يقبل } الآية وهذه الجملة يجوز أن تكون عطفاً على خبر : { إن الذين كفروا } ويجوز أن تكون عطفاً على { إن الذين كفروا } ، وجوزوا أنْ تكون في موضع الحال وليس بقوي .