الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لَوۡ أَنَّ لَهُم مَّا فِي ٱلۡأَرۡضِ جَمِيعٗا وَمِثۡلَهُۥ مَعَهُۥ لِيَفۡتَدُواْ بِهِۦ مِنۡ عَذَابِ يَوۡمِ ٱلۡقِيَٰمَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنۡهُمۡۖ وَلَهُمۡ عَذَابٌ أَلِيمٞ} (36)

قوله تعالى : { لَوْ أَنَّ لَهُمْ } : قد تقدَّم الكلامُ على " أنَّ " الواقعة بعد " لو " وأنَّ فيها مذهبين ، و " لهم " خبر ل " أَنَّ " و " ما في الأرض " اسمُها ، " وجميعاً " توكيد له أو حالٌ منه . و " مثلَه " في نصبِه وجهان ، أحدُهما : أنه عطفٌ على اسم " أنَّ " وهو " ما " الموصولة . والثاني : أنه منصوبٌ على المعية وهو رَأْيُ الزمخشري وسيأتي ما يَرِدُ على ذلك والجوابُ عنه . و " معه " ظرفٌ موقعَ الحال ، واللام في " ليفتدوا " متعلقة بالاستقرار الذي تعلق به الخبر وهو " لهم " و " به " و " مِنْ عذاب " متعلِّقان بالافتداءِ ، والضميرُ في " به " عائدٌ على " ما " الموصولة ، وجيء بالضمير مفرداً وإنْ تقدَّمه شيئان وهما : " ما في الأرض " و " مثلَه " إمَّا لتلازُمِهما ، فهما في حكمٍ شيء واحد ، وإمَّا لأنه حذف من الثاني لدلالةِ ما في الأول عليه كقولهِ :

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . *** فإني وقَيَّارٌ بها لَغَريبُ

أي : لو أنَّ لهم ما في الأرض ليفتدوا به ومثله معه ليفتدوا به ، وإمَّا لإِجراء الضمير مُجْرى اسم الإِشارة كقوله :

كأنَّه الجِلْدِ . . . . . . . . . . . . . . . . ***

وقد تقدَّم في البقرة . و " عذاب " بمعنى تعذيب ، وبإضافته إلى " يوم " خَرج " يوم " عن الظرفية . و " ما " نافيةٌ ، وهي جوابُ " لو " / وجاء على الأكثر من كونِ الجوابِ المنفيِّ بغير لام ، والجملةُ الامتناعية في محل رفعٍ خبراً ل " إنَّ " .

وجَعَل الزمخشري توحيدَ الضيمرِ في " به " لمَدْركٍ آخرَ ، وهو أن الواوَ في " ومثلَه " واوُ " مع " ، قال بعد أن ذكر الوجهين المتقدمين : " ويجوز أن تكونَ الواوُ في " ومثلَه " بمعنى " مع " فيتوحَّد المرجوع إليه . فإن قلت : فبِمَ يُنْصَبُ المفعول معه ؟ قلت : بما تستدعيه " لو " من الفعل ، لأن التقدير : لو ثبت أن لهم ما في الأرض " يعني أن حكمَ ما قبل المفعول معه في الخبر والحالِ وعودِ الضمير حكمُ لو لم يكن بعده مفعولٌ معه ، تقول : " كنتُ وزيداً كالأخ " قال :

وكان وإيَّاها كحَرًَّان لم يُفِقْ *** عن الماءِ إذ لاقَاه حتى تَقَدَّدا

فقال : " كحَرَّان " بالإِفراد ، ولم يَقُلْ " كحرَّانَيْنِ " وتقول : " جاء زيد وهنداً ضاحكاً في داره " وقد أجاز الأخفش أن يُعْطَى حكمَ المتعاطفين ، يعني فيطابقُ الخبرَ ، والحالُ والضميرُ له ولما بعده ، فتقول : " كنتُ وزيداً كالأخوين " . قال بعضُهم : " والصحيحُ جوازُه على قلة " .

وقد رَدَّ الشيخ على أبي القاسم وطَوَّل معه ، فلا بُدَّ من نَقْل نَصِّه قال : " وقولُ الزمخشري : " ويجوزُ أَنْ تكونَ الواوُ بمعنى " مع " لأنه يصيرُ التقدير : مع مثلِه معه أي : مع مثلِ ما في الأرض مع ما في الأرض ، إنْ جَعَلْتَ الضميرَ في " معه " عائداً على " ما " يكون " معه " حالاً من مثلَه " ، وإذا كان ما في الأرض مع مثله كان مثلُه معه ضرورةً ، فلا فائدة ي ذِكْر " معه " لملازمةِ معيَّة كلٍّ منهما للآخر ، وإنْ جَعَلْتَ الضمير عائداً على " مثله " أي : مع مثلِه مع ذلك المثلِ ، فيكونُ المعنى مع مثلين ، فالتعبير في هذا المعنى بتلك العبارة عِيُّ ، إذ الكلامُ المنتظمُ أَنْ يكونَ التركيب إذا أُريد ذلك المعنى مع مِثْلَيْه ، وقول الزمخشري : " فإنْ قلت " إلى آخرِ الجواب هذا السؤالُ لايَرِدُ ، لأنَّا قد بَيَّنَّا فسادَ أن تكونَ الواو واوَ مع ، وعلى تقديرِ ورودِه فهذا بناءً منه على أن " أنَّ " إذا جاءت بعد " لو " كانت في محل رفع بالفاعلية ، فيكون التقدير على هذا : لو ثبت كينونةُ ما في الأرض مع مثلِه لهم ليفتدوا به ، فيكونُ الضمير عائداً على " ما " فقط . وهذا الذي ذكره هو تفريعٌ منه على مذهب المبرد في أنَّ " أنَّ " بعد " لو " في محلِّ رفع على الفاعلية ، وهو مذهب مرجوح ، ومذهبُ سيبويه أنَّ " أنَّ " بعد " لو " في محل مبتدأ والذي يظهرُ في كلام الزمخشري هنا وفي تصانيفه أنه ما وقف على مذهب سيبويه في هذه المسألةِ ، وعلى المفرع على مذهبِ المبرد لا يجوز أن تكون الواوُ بمعنى مع ، والعاملُ فيها " ثَبَتَ " المقدَّر لِما تقدَّم مِنْ وجودِ لفظةِ معه ، وعلى تقديرِ سقوطِها لا يَصِحُّ ، لأن " ثبت " ليس رافعاً ل " ما " العائدِ عليها الضميرُ ، وإنما هو رافعٌ مصدراً منسبكاً من أنَّ وما بعدها وهو كونٌ ، إذ التقدير : لو ثبت كونُ ما في الأرض جميعاً لهم ومثلِه معه ليفتدوا به ، والضميرُ عائدٌ على ما دونَ الكون ، فالرافع للفاعل غيرُ الناصب للمفعول معه ، إذ لو كان إياه لَلَزِمَ من ذلك وجود الثبوت مصاحباً للمثل ، والمعنى على كينونة ما في الأرض مصاحباً للمثل لا على ثبوت ذلك مصاحباً للمثْل ، وهذا فيه غموضٌ ، وبيانه : إذا قلت : " يعجبني قيامُ زيدٍ وعمراً " جعلت " عمراً " مفعولاً معه ، والعامل فيه " يعجبني " لَزِم من ذلك أنَّ عمراً لم يَقُم ، وأعجبك القيامُ وعمروٌ ، وإنْ جعلت العاملَ فيه القيامَ كان عمروٌ قائماً ، وكان الإِعجابُ قد تعلَّق بالقيام مصاحباً لقيامِ عمرو ، فإن قلت : هل كان " ومثلَه معه " مفعولاً معه ، والعامل فيه هو العامل في " لهم " إذ المعنى عليه " قلت : لا يصح ذلك لما ذكرناه من وجودِ " معه " في الجملة ، وعلى تقديرِ سقوطها لا يَصِحُّ ، لأنهم نَصُّوا على أنَّ قولك : " هذا لك وأباك " ممنوعٌ في الاختيار ، قال سيبويه : " وأما هذا لك وأباك " فقبيحٌ لأنه لم يَذْكر فعلاً ولا حرفاً فيه معنى فعل ، حتى يصيرَ كأنه قد تكلم بالفعل " فأصبح سيبويه بأن اسمَ الإِشارة وحرفَ الجر المتضمِّن لمعنى الاستقرار لا يعملان في المفعول معه ، وقد أجاز بعضُ النحويين في حرفِ الجر والظرف أن يعملا في المفعول معه نحو : " هذا لك وأباك " فقولُه : " وأباك " يكون مفعولاً معه والعامل الاستقرار في " لك " انتهى .

ومع هذا الاعتراضِ الذي ذكره فقد يظهرُ عنه جواب وهو أنَّا نقول : نختار أن يكونَ الضميرُ في قوله : { معه } عائداً على " مثلَه " ويصيرُ المعنى : مع مِثْلين ، وهو أبلغُ من أَنْ يكونَ مع مثل واحد ، وقوله : " تركيبٌ عِيُّ " فَهْمٌ قاصر . ولا بد من جملة محذوفة قبل قوله : { مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ } تقديره : " وبذلوه أو وافتدوا به " ليصِحَّ الترتيب المذكور ، إذ لا يترتب على استقرار ما في الأرض جميعاً ومثلِه معه لهم عدمُ التقبل ، إنما يترتب عدمُ التقبل على البذل والافتداء . والعامةُ على " تُقُبِّل " مبنياً للمفعول حُذِف فاعله لعظمته وللعلم به . وقرأ يزيد بن قطيب : " ما تَقَبَّل " مبنياً للفاعل ، وهو ضميرُ الباري تبارك وتعالى .

قوله : { وَلَهُمْ عَذَابٌ } مبتدأٌ وخبرُه مقدَّم عليه . و " أليم " صفتُه بمعنى مُؤْلم . وهذه الجملةُ أجازُوا فيها ثلاثةَ أوجهٍ ، أحدُها : أَنْ تكونَ حالاً ، وفيه ضَعْفٌ مِنْ حيثُ المعنى . الثاني : أَنْ تكونَ في محل رفع عطفاً على خبر " أنَّ " أخبر عن الذين كفروا بخبرين : لو استقر لهم جميع ما في الأرض مع مثله فبذلوه لم يُتَقَبَّلْ منهم ، وأن لهم عذاباً أليماً . الثالث أن تكون معطوفةً على الجملة من قوله : { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ } وعلى هذا فلا محلَّ لها لعطفها على ما محلَّ له .