روح المعاني في تفسير القرآن والسبع المثاني للآلوسي - الآلوسي  
{إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لَوۡ أَنَّ لَهُم مَّا فِي ٱلۡأَرۡضِ جَمِيعٗا وَمِثۡلَهُۥ مَعَهُۥ لِيَفۡتَدُواْ بِهِۦ مِنۡ عَذَابِ يَوۡمِ ٱلۡقِيَٰمَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنۡهُمۡۖ وَلَهُمۡ عَذَابٌ أَلِيمٞ} (36)

{ إِنَّ الذين كَفَرُواْ } كلام مبتدأ مسوق لتأكيد وجوب الامتثال بالأوامر السابقة ، وترغيب المؤمنين في المسارعة إلى تحصيل الوسيلة إليه عز شأنه قبل انقضاء أوانه ، ببيان استحالة توسل الكفار يوم القيامة بما هو من أقوى الوسائل إلى النجاة من العذاب فضلاً عن نيل الثواب { لَوْ أَنَّ لَهُمْ } أي لكل واحد منهم كقوله سبحانه : { وَلَوْ أَنَّ لِكُلّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ } [ يونس : 54 ] الخ ، وفيه من تهويل الأمر وتفظيع الحال ما ليس في قولنا لجميعهم { مَّا فِى الارض } أي من أصناف أموالها وذخائرها وسائر منافعها قاطبة ، وهو اسم { ءانٍ } و { لَهُمْ } خبرها ومحلها الرفع ( عندهم ) خلا أنه عند سيبويه رفع على الابتداء ( و ) لا حاجة فيه إلى الخبر لاشتمال صلتها على المسند والمسند إليه ، وقد اختصت من بين سائر ما يؤول بالاسم بالوقوع بعد { لَوْ } ، وقيل : الخبر محذوف ويقدر مقدماً أو مؤخراً قولان ، وعند الزجاج والمبرد والكوفيين رفع على الفاعلية أي لو ثبت ( أن ) لهم ما في الأرض ، وقوله تعالى : { جَمِيعاً } توكيد للموصول أو حال منه ، وقوله سبحانه : { وَمِثْلَهُ } بالنصب عطف عليه ، وقوله عز وجل : { مَعَهُ } ظرف وقع حالاً من المعطوف ، والضمير راجع إلى الموصول ، وفائدته التصريح بفرض كينونتهما لهم بطريق المعية لا بطريق التعاقب تحقيقاً لكمال فظاعة الأمر .

واللام في قوله تعالى : { لِيَفْتَدُواْ بِهِ } متعلقة بما تعلق به خبر { ءانٍ } وهو الاستقرار المقدر في { لَهُمْ } وبالخبر المقدر عند من يراه ، وبالفعل المقدر بعد { لَوْ } عند الزجاج ومن نحا نحوه ، قيل : ولا ريب في أن مدار الإفتداء بما ذكر هو كونه لهم لا ثبوت كونه لهم وإن كان مستلزماً له ، والباء في { بِهِ } متعلقة بالافتداء ، والضمير راجع إلى الموصول { وَمِثْلَهُ مَعَهُ } وتوحيده لكونهما بالمعية شيئاً واحداً ، أو لإجراء الضمير مجرى اسم الإشارة كما مرت الإشارة إلى ذلك ، وقيل : هو راجع إلى الموصول ، والعائد إلى المعطوف أعني مثله مثله ، وهو محذوف كما حذف الخبر من قيار في قوله :

ومن يك أمسى بالمدينة رحله *** فإني وقيار بها لغريب

وقد جوز أن يكون نصب ، ومثله على أنه مفعول { مَعَهُ } ناصبه الفعل المقدر بعد { لَوْ } تفريعاً على رأي الزجاج ومن رأى رأيه ، وأمر توحيد الضمير حينئذ ظاهر إذ حكم الضمير بعد المفعول معه الإفراد ، وأجاز الأخفش أن يعطى حكم المتعاطفين فيثني الضمير ، وقال بعض النحاة : الصحيح جوازه على قلة . واعترض هذا الوجه أبو حيان بأنه يصير التقدير : مع مثله معه وإذا كان ما في الأرض مع مثله كان مثله معه ضرورة ، فلا فائدة في ذكر { مَعَهُ } معه لملازمة معية كل منهما للآخر ، وأجاب الطيبي بأن { مَعَهُ } على هذا تأكيد ، وقال السفاقسي : جوابه أن التقدير ليس كالتصريح ، و الواو متضمنة معنى مع ، وإنما يقبح لو صرح بمع وكثيراً ما يكون التقدير بخلاف التصريح ، كقولهم : رب شاة وسخلتها ، ولو صرحت برب فقلت : ورب سخلتها لم يجز ، وأجاب الحلبي بأن الضمير في { مَعَهُ } عائد على { مّثْلِهِ } ويصير المعنى مع مثلين وهو أبلغ من أن يكون مع مثل واحد ، نعم إن كون العامل ثبت ليس بصحيح لأن العامل في المفعول معه هو العامل في المصاحب له كما صرحوا به ، وهو هنا { مَا } أو ضميرها ، وشيء منهما ليس عاملاً فيه ثبت المقدر ، وأما صحته على تقدير جعله لهم ، أو متعلقه على ما قيل ، فممتنع أيضاً على ما نقل عن سيبويه أنه قال : وأما هذا لك وأباك فقبيح ، لأنه لم يذكر فعل ولا حرف فيه معنى فعل حتى يصير كأنه قد تكلم بالفعل ، فإن فيه تصريحاً بأن اسم الإشارة وحرف الجرف والظرف لا تعمل في المفعول معه ، وقوله تعالى : { مِنْ عَذَابِ يَوْمِ القيامة } متعلق بالافتداء أيضاً أي لو أن ما في الأرض ومثله ثابت لهم ليجعلوه فدية لأنفسهم من العذاب الواقع ذلك اليوم .

{ ما تقبل منهم } ذلك وهو جواب لو وترتيبه كما قال شيخ الاسلام على ذلك لهم لأجل افتدائهم به من غير ذكر الافتداء بأن يقال : وافتدوا به مع أن الرد والقبول إنما يترتب عليه لا على مباديه للايذان بأنه أمر محقق الوقوع غنى عن الذكر وإنما المحتاج إلى الفرض قدرتهم على ماذكر أو للمبالغة فى تحقق الرد وتخييل أنه وقع قبل الافتداء على منهاج مافى قوله تعالى : أنا آتيك به قبل أن يرتد اليك طرفك فلما رآه مستقرا عنده حيث لم يقل فأتى به فلما رآه الخ ومافى قوله سبحانه : وقالت اخرج عليهن فلما رأينه أكبرنه من غير ذكر خروجه عليه السلام عليهن ورؤيتهن له وقال بعض الأفاضل : إنما لم يكتف بقوله : إن الذين كفروا لو يفتدون بما فى الأرض جميعا من عذاب يوم القيامة ما تقبل منهم لان مافى النظم الكريم يفيد أنهم لو حصلوا ما فى الارض ومثله معه لهذه الفائدة وكانوا خائفين من الله تعالى وحفظوا الفدية وتفكروا فىالافتداء ورعاية أسبابه كما هو شأن من هو بصدد أمر ماتقبل منهم فضلا عن أن يكونوا غافلين عن تحصيل الفدية وقصدوا الفدية فجأة ولهذا لم يقل لو أن لهم مافى الارض ج ميعا ومثله معه ويفتدون به ماتقبل الخ والجملة الامتناعية بحالها خبر : إن الذين كفروا وهى كناية عن لزوم العذاب لهم وأنه لاسبيل لهم إلي الخلاص منه فان لزوم العذاب من لوازمه أن ما في الارض جميعا ومثله معه لوافتدوا به لم يتقبل منهم فلما كانت هذه الجملة بل هذه الملازمة لازمة للزوم العذاب عبر عنها بها وأطلق بعضهم علي هذه الجملة تمثيلا ولعل مراده علي ما ذكره القطب ما ذكره وقال بعض المحققين : لايريد به الاستعارة التمثيلية بل إيراد مثال وحكم يفهم منه لزوم العذاب لهم أي لم يقصد بهذا الكلام إثبات هذه الشرطية بل انتقال الذهن منه إلي هذا المعنى وبهذا الاعتبار يقال له : كناية ويمكن تنزيله علي التمثيل الاصطلاحى بأن يقال : إن حالهم في حال التفصى عن العذاب بمنزلة حال من يكون له ذلك الأمر الجسيم ويحاول به التخلص من العذاب فلا يتقبل منه ولا يتخلص { ولهم عذاب أليم } قيل : محله النصب علي الحالية وقيل : الرفع عطفا علي خبر إن وقيل انه معطوف علي إن الذين فلا محل له من الإعراب مثله وفائدة الجملة التصريح بالمقصود من الجملة الأولي لزيادة تقريره وبيان هوله وشدته وقيل : إن المقصود بها الإيذان بأنه كما لا يندفع بذلك عذابهم لا يخفف بل لهم بعد عذاب في كمال الإيلام

{ يُرِيدُونَ أَن يَخْرُجُواْ مِنَ النار } فإنه لإفادة أنه كما لا يندفع بذلك الافتداء عذابهم لا يندفع دوامه ولا ينفصل ، وهو على ما تقدم استئناف مسوق لبيان حالهم في أثناء مكابدة العذاب مبني على سؤال نشأ مما قبله ، كأنه قيل : فكيف يكون حالهم ، أو ماذا يصنعون ؟ فقيل : { يُرِيدُونَ } الخ ، وقد بين في تضاعيفه أن عذابهم عذاب النار ، والإرادة قيل : على معناها الحقيقي المشهور ، وذلك أنهم يرفعم لهب النار فيريدون الخروج وأنى به ، وروي ذلك عن الحسن ، وقال الجبائي : الإرادة بمعنى التمني أي يتمنون ذلك . وقيل : المعنى يكادون يخرجون منها لقوتها وزيادة رفعها إياهم ، وهذا كقوله تعالى : { فَوَجَدَا فِيهَا جِدَاراً يُرِيدُ أَن يَنقَضَّ } [ الكهف : 77 ] أي يكاد ويقارب ، لا يقال : كيف يجوز أن يريدوا الخروج من النار مع علمهم بالخلود ؟ لأنا نقول : الهول يومئذ ينسيهم ذلك ، وعلى تقدير عدم النسيان يقال : العلم بعدم حصول الشيء لا يصرف عن إرادته كما أن العلم بالحصول كذلك ، فإن الداعي إلى الإرادة حسن الشيء والحاجة إليه .

{ وَمَا هُم بخارجين مِنْهَا } إما حال من فاعل { يُرِيدُونَ } أو اعتراض ، وأياً مّا كان فإيثار الجملة الاسمية على الفعلية مصدرة بما الحجازية الدالة بما في حيزها من الباء على تأكيد النفي لبيان كمال سوء حالهم باستمرار عدم خروجهم منها ، فإن الجملة الاسمية الإيجابية كما مرت الإشارة إليه كما تفيد بمعونة المقام دوام الثبوت ، تفيد السلبية أيضاً بمعونة دوام النفي لا نفي الدوام ، وقرأ أبو واقد { أَن يَخْرُجُواْ } بالبناء لما لم يسم فاعله من الإخراج ، ويشهد لقراءة الجمهور قوله تعالى : { بخارجين } دون بمخرجين ، وهذه الآية كما ترى في حق الكفار ، فلا تنافي القول بالشفاعة لعصاة المؤمنين في الخروج منها كما لا يخفى على من له أدنى إيمان . وقد أخرج مسلم وابن المنذر وابن مردويه عن جابر بن عبد الله «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : يخرج من النار قوم فيدخلون الجنة » ، قال يزيد الفقير : فقلت لجابر : يقول الله تعالى : { يُرِيدُونَ أَن يَخْرُجُواْ مِنَ النار وَمَا هُم بخارجين مِنْهَا } قال : أتل أول الآية { إِنَّ الذين كَفَرُواْ لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَّا فِى الارض جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُواْ بِهِ } [ المائدة : 36 ] ألا إنهم الذين كفروا ، وأخرج ابن جرير عن عكرمة أن نافع بن الأزرق قال لابن عباس رضي الله تعالى عنهما : تزعم أن قوماً يخرجون من النار وقد قال الله تعالى : { وَمَا هُم بخارجين مِنْهَا } فقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : ويحك اقرأ ما فوقها هذه للكفار ، ورواية أنه قال له : يا أعمى البصر أعمى القلب تزعم الخ حكاها الزمخشري وشنع إثرها على أهل السنة ورماهم بالكذب والافتراء ، فحقق ما قيل : رمتني بدائها وانسلت ، ولسنا مضطرين لتصحيح هذه الرواية ولا وقف الله تعالى صحة العقيدة على صحتها ، فكم لنا من حديث صحيح شاهد على حقيقة ما نقول وبطلان ما يقول المعتزلة تباً لهم .

{ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ } تصريح بما أشير إليه من عدم تناهي مدة العذاب بعد بيان شدته أي عذاب دائم ثابت لا يزول ولا ينتقل أبداً .