قوله تعالى : { فلما قضينا عليه الموت } أي : على سليمان . قال أهل العلم : كان سليمان عليه السلام يتجرد في بيت المقدس السنة والسنتين ، والشهر والشهرين ، وأقل من ذلك وأكثر . يدخل فيه طعامه وشرابه ، فأدخل في المرة التي مات فيها ، وكان بدء ذلك أنه كان لا يصبح يوماً إلا نبتت في محراب بيت المقدس شجرة ، فيسألها : ما اسمك ؟ فتقول : اسمي كذا ، فيقول : لأي شيء أنت ؟ فتقول : لكذا وكذا ، فيأمر بها فتقطع ، فإن كانت نبتت لغرس غرسها ، وإن كانت لدواء كتب ، حتى نبتت الخروبة ، فقال لها : ما أنت ؟ قالت : الخروبة ، قال : لأي شيء نبت ؟ قالت : لخراب مسجدك ، فقال سليمان : ما كان الله ليخربه وأنا حي ، أنت التي على وجهك هلاكي وخراب بيت المقدس ! فنزعها وغرسها في حائط له ، ثم قال : اللهم عم على الجن موتي حتى يعلم الإنس أن الجن لا يعلمون الغيب ، وكانت الجن تخبر الإنس أنهم يعلمون من الغيب أشياء ويعلمون ما في غد ، ثم دخل المحراب فقام يصلي متكئاً على عصاه فمات قائماً وكان للمحراب كوى بين يديه وخلفه ، فكانت الجن يعملون تلك الأعمال الشاقة التي كانوا يعملون في حياته ، وينظرون إليه يحسبون أنه حي ، ولا ينكرون احتباسه عن الخروج إلى الناس لطول صلاته قبل ذلك ، فمكثوا يدأبون له بعد موته حولاً كاملاً حتى أكلت الأرضة عصا سليمان ، فخر ميتاً فعلموا بموته . قال ابن عباس : فشكرت الجن الأرضة فهم يأتونها بالماء والطين في جوف الخشب ، فذلك قوله : { ما دلهم على موته إلا دابة الأرض } وهي الأرضة التي { تأكل منسأته } يعني : عصاه ، قرأ أهل المدينة ، وأبو عمرو : منسأته بغير همز ، وقرأ الباقون بالهمز ، وهما لغتان ، ويسكن ابن عامر الهمز ، وأصلها من : نسأت الغنم ، أي : زجرتها وسقتها ، ومنه : نسأ الله في أجله ، أي : أخره . { فلما خر } أي : سقط على الأرض ، { تبينت الجن } أي : علمت الجن وأيقنت ، { أن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين } أي : في التعب والشقاء مسخرين لسليمان وهو ميت يظنونه حياً ، أراد الله بذلك أن يعلم الجن أنهم لا يعلمون الغيب ، لأنهم كانوا يظنون أنهم يعلمون الغيب ، لغلبة الجهل عليهم . وذكر الأزهري : أن معناه ( تبينت الجن ) أي : ظهرت وانكشفت الجن للإنس ، أي : ظهر أمرهم أنهم لا يعلمون الغيب ، لأنهم كانوا قد شبهوا على الإنس ذلك ، وفي قراءة ابن مسعود ، وابن عباس : تبينت الإنس أن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين ، أي : علمت الإنس وأيقنت ذلك . وقرأ يعقوب : تبينت بضم التاء وكسر الياء أي : أعلمت الإنس الجن ، ذكر بلفظ ما لم يسم فاعله ، وتبين لازم ومتعد . وذكر أهل التاريخ أن سليمان كان عمره ثلاثاً وخمسين سنة ، ومدة ملكه أربعون سنة ، وملك يوم ملك وهو ابن ثلاث عشرة سنة ، وابتداء في بناء بيت المقدس لأربع سنين مضين من ملكه .
فلم يزل الشياطين يعملون لسليمان ، عليه الصلاة والسلام ، كل بناء ، وكانوا قد موهوا على الإنس ، وأخبروهم أنهم يعلمون الغيب ، ويطلعون على المكنونات ، فأراد اللّه تعالى أن يُرِيَ العباد كذبهم في هذه الدعوى ، فمكثوا يعملون على عملهم ، وقضى اللّه الموت على سليمان عليه السلام ، واتَّكأ على عصاه ، وهي المنسأة ، فصاروا إذا مروا به وهو متكئ عليها ، ظنوه حيا ، وهابوه .
فغدوا على عملهم كذلك سنة كاملة على ما قيل ، حتى سلطت دابة الأرض على عصاه ، فلم تزل ترعاها ، حتى باد وسقط فسقط سليمان عليه السلام وتفرقت الشياطين وتبينت الإنس أن الجن { لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ } وهو العمل الشاق عليهم ، فلو علموا الغيب ، لعلموا موت سليمان ، الذي هم أحرص شيء عليه ، ليسلموا مما هم فيه .
ثم نمضي مع نصوص القصة القرآنية في المشهد الأخير منها . مشهد وفاة سليمان والجن ماضية تعمل بأمره فيما كلفها عمله ؛ وهي لا تعلم نبأ موته ، حتى يدلهم على ذلك أكل الأرضة لعصاه ، التي كان مرتكزاً عليها ، وسقوطه :
( فلما قضينا عليه الموت ما دلهم على موته إلا دابة الأرض تأكل منسأته ، فلما خر تبينت الجن أن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين ) . .
وقد روي أنه كان متكئاً على عصاه حين وافاه أجله ؛ والجن تروح وتجيء مسخرة فيما كلفها إياه من عمل شاق شديد ؛ فلم تدرك أنه مات ، حتى جاءت دابة الأرض . قيل إنها الأرضة ، التي تتغذى بالأخشاب ، وهي تلتهم أسقف المنازل وأبوابها وقوائمها بشراهة فظيعة ، في الأماكن التي تعيش فيها . وفي صعيد مصر قرى تقيم منازلها دون أن تضع فيها قطعة خشب واحدة خوفاً من هذه الحشرة التي لا تبقي على المادة الخشبية ولا تذر . فلما نخرت عصا سليمان لم تحمله فخرّ على الأرض . وحينئذ فقط علمت الجن موته . وعندئذ ( تبينت الجن أن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين ) . .
فهؤلاء هم الجن الذين يعبدهم بعض الناس . هؤلاء هم سخرة لعبد من عباد الله . وهؤلاء هم محجوبون عن الغيب القريب ؛ وبعض الناس يطلب عندهم أسرار الغيب البعيد !
يذكر تعالى كيفية موت سليمان ، عليه السلام ، وكيف عَمَّى الله موته على الجانّ المسخرين له في الأعمال الشاقة ، فإنه مكث متوكئًا على عصاه - وهي مِنْسَأته - كما قال ابن عباس ، ومجاهد ، والحسن ، وقتادة وغير واحد - مدة طويلة نحوا من سنة ، فلما أكلتها{[24200]} دابةُ الأرض ، وهي الأرضة ، ضعفت{[24201]} وسقط{[24202]} إلى الأرض ، وعلم أنه قد مات قبل ذلك بمدة طويلة - تبينت الجن والإنس أيضًا أن الجن لا يعلمون الغيب ، كما كانوا يتوهمون ويوهمون الناس ذلك .
قد ورد في ذلك حديث مرفوع غريب ، وفي صحته نظر ، قال ابن جرير :
حدثنا أحمد بن منصور ، حدثنا موسى بن مسعود أبو حذيفة ، حدثنا إبراهيم بن طَهْمَان ، عن عطاء ، عن السائب ، عن سعيد بن جبير{[24203]} عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " كان سليمان نبي الله ، عليه السلام ، إذا صلى رأى شجرة نابتة بين يديه فيقول لها : ما اسمك ؟ فتقول : كذا . فيقول : لأي شيء أنت ؟ فإن كانت لغرس غُرِسَتْ ، وإن كانت لدواء كُتِبَتْ . فبينما هو يصلي ذات يوم إذ رأى شجرة بين يديه ، فقال لها : ما اسمك ؟ قالت : الخروب . قال : لأي شيء أنت ؟ قالت : لخراب هذا البيت . فقال سليمان : اللهم ، عَمّ على الجن موتتي{[24204]} حتى يعلم الإنس أن الجن لا يعلمون الغيب . فنحتها عصًا ، فتوكأ عليها حولا ميتا ، والجن تعمل . فأكلتها الأرضة ، فتبينت الإنس أن الجن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا [ حولا ]{[24205]} في العذاب المهين " .
قال : وكان ابن عباس يقرؤها كذلك قال : " فشكرت الجن الأرضة{[24206]} ، فكانت تأتيها بالماء " {[24207]} .
وهكذا رواه ابن أبي حاتم ، من حديث إبراهيم بن طَهْمان ، به . وفي رفعه غرابة ونكارة ، والأقرب أن يكون موقوفًا ، وعطاء بن أبي مسلم الخراساني له غرابات ، وفي بعض حديثه نكارة .
وقال السُّدِّي ، في حديث ذكره عن أبي مالك عن أبي صالح ، عن ابن عباس - وعن مُرة الهمداني ، عن ابن مسعود ، وعن ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : كان سليمان يتحرر في بيت المقدس السنة والسنتين والشهر والشهرين ، وأقل من ذلك وأكثر ، يدخل طعامه وشرابه ، فأدخله في المرة التي توفي فيها ، وكان بدء ذلك أنه لم يكن يوم يصبح فيه إلا نبتت في بيت المقدس شجرة ، فيأتيها فيسألها ، فيقول : ما اسمك ؟ فتقول : اسمي كذا وكذا . فإن كانت لغرس غرسها ، وإن كانت نبْتَ دواء قالت : نَبَتُّ دواء لكذا وكذا . فيجعلها{[24208]} كذلك ، حتى نبتت شجرة يقال لها : الخرّوبة ، فسألها : ما اسمك ؟ فقالت : أنا الخروبة . قال : ولأي شيء نَبَتِّ ؟ قالت : نبت لخراب هذا المسجد . قال سليمان : ما كان الله ليُخَرِّبه وأنا حي ؟ أنت التي على وجهك هلاكي وخراب بيت المقدس . فنزعها وغرسها في حائط له ، ثم دخل المحراب فقام يصلي متكئا على عصاه ، فمات ولم تعلم{[24209]} به الشياطين ، وهم في ذلك يعملون له ، يخافون أن يخرج فيعاقبهم . وكانت الشياطين تجتمع حول المحراب ، وكان المحراب له كُوى بين يديه وخلفه ، فكان الشيطان الذي يريد أن يخلع يقول : ألست جلدا{[24210]} إن دخلت فخرجت من ذلك الجانب ؟ فيدخل حتى يخرج من الجانب الآخر ، فدخل شيطان من أولئك فمر ، ولم يكن شيطان ينظر إلى سليمان في المحراب إلا احترق . فمر ولم يسمع صوت سليمان ، ثم رجع فلم يسمع ، ثم رجع فوقع في البيت ولم يحترق . ونظر إلى سليمان ، عليه السلام ، قد سقط ميتا . فخرج فأخبر الناس أن سليمان قد مات . ففتحوا{[24211]} عنه فأخرجوه . وَوَجدوا منسأته - وهي : العصا بلسان الحبشة - قد أكلتها الأرضة ، ولم يعلموا منذ كم مات ؟ فوضعوا الأرضة على العصا ، فأكلت منها يوما وليلة ، ثم حسبوا على ذلك النحو ، فوجدوه قد مات منذ سنة . وهي في قراءة ابن مسعود : فمكثوا يدأبون له من بعد موته حولا{[24212]} ، فأيقن الناس عند ذلك أن الجن كانوا يكذبونهم ولو أنهم علموا الغيب ، لعلموا بموت سليمان ولم يلبثوا في العذاب يعملون له سنة ، وذلك قول الله{[24213]} عز وجل : { مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلا دَابَّةُ الأرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ } . يقول : تبين أمرهم للناس أنهم كانوا يكذبونهم ، ثم إن الشياطين قالوا للأرضة : لو كنت تأكلين الطعام أتيناك بأطيب الطعام ، ولو كنت تشربين الشراب سقيناك أطيب الشراب ، ولكنا سننقل إليك الماء والطين - قال : فهم ينقلون إليها ذلك حيث كانت - قال : ألم تر إلى الطين الذي يكون في جوف الخشب ؟ فهو ما تأتيها به الشياطين ، شكرًا{[24214]} لها . {[24215]}
وهذا الأثر - والله أعلم - إنما هو مما تُلُقِّي من علماء أهل الكتاب ، وهي وَقْفٌ ، لا يصدق منها{[24216]} إلا ما وافق الحق ، ولا يُكذب منها إلا ما خالف الحق ، والباقي لا يصدق ولا يكذب{[24217]} .
وقال ابن وهب وأصبغ بن الفرج ، عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم في قوله : { مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلا دَابَّةُ الأرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ } قال : قال سليمان عليه السلام لملك الموت : إذا أُمِرْتَ بي فأعلمني . فأتاه فقال : يا سليمان ، قد أمرت بك ، قد بقيت لك سويعة . فدعا الشياطين فبنوا عليه صرحا من قوارير ، وليس له باب ، فقام يصلي فاتكأ على عصاه ، قال : فدخل عليه ملك الموت ، فقبض روحه وهو متكئ على عصاه ، ولم يصنع ذلك فرارًا من ملك الموت . قال : والجن يعملون{[24218]} بين يديه وينظرون إليه ، يحسبون أنه حي . قال : فبعث الله ، عز وجل ، دابة الأرض . قال : والدابة تأكل العيدان - يقال لها : القادح - فدخلت فيها فأكلتْها ، حتى إذا أكلت جوف العصا ضعفت ، وثقل عليها فخر ميتًا ، فلما رأت ذلك الجن انفضوا وذهبوا . قال : فذلك قوله : { مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلا دَابَّةُ الأرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهِ } . قال أصبغ : بلغني عن غيره أنها قامت{[24219]} سنة تأكل منها قبل أن يخر{[24220]} . وقد ذكر غير واحد من السلف نحوًا من هذا ، والله أعلم .
{ فلما قضينا عليه الموت } أي على سليمان . { ما دلهم على موته } ما دل الجن وقيل آله { إلا دابة الأرض } أي الأرضة أضيفت إلى فعلها ، وقرئ بفتح الراء وهو تأثر الخشبة من فعلها يقال : أرضت الأرضة الخشبة أرضا فأرضت أرضا مثل أكلت القوادح الأسنان أكلا فأكلت أكلا { تأكل منسأته } عصاه من نسأت البعير إذا طردته لأنها يطرد بها ، وقرئ بفتح الميم وتخفيف الهمزة قلبا وحذفا على غير قياس إذ القياس إخراجها بين ، و { منساءته } على مفعالة كميضاءة في ميضاة و { منسأته } أي طرف عصاه مستعار من سأة القوس ، وفيه لغتان كما في قحة وقحة ، وقرأ نافع وأبو عمرو " منساته " بألف بدلا من الهمزة وابن ذكوان بهمزة ساكنة وحمزة إذا وقف جعلها بين بين . { فلما خر تبينت الجن } علمت الجن بعد التباس الأمر عليهم . { أن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين } أنهم لو كانوا يعلمون الغيب كما يزعمون لعلموا موته حينما وقع فلم يلبثوا حولا في تسخيره إلى أن خرّ ، أو ظهرت الجن وأن بما في حيزه بدل منه أي ظهر أن الجن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب . وذلك أن داود أسس بيت المقدس في موضع فسطاط موسى عليهما الصلاة والسلام فمات قبل تمامه ، فوصى به إلى سليمان عليه السلام فاستعمل الجن فيه فلم يتم بعد إذ دنا أجله وأعلم به ، أراد أن يعمي عليهم موته ليتموه فدعاهم فبنوا عليه صرحا من قوارير ليس له باب ، فقام يصلي متكئا على عصاه فقبض روحه وهو متكئ عليها ، فبقي كذلك حتى أكلتها الأرضة فخر ثم فتحوا عنه أرادوا أن يعرفوا وقت موته ، فوضعوا الأرضة على العصا فأكلت يوما وليلة مقدارا فحسبوا على ذلك فوجوده قد مات منذ سنة ، وكان عمره ثلاثا وخمسين سنة وملك وهو ابن ثلاثة عشرة سنة ، وابتدأ عمارة بيت المقدس لأربع مضين من ملكه .
الضمير في { عليه } عائد على سليمان ، و { قضينا } بمعنى أنفذنا وأخرجناه إلى حيز الوجود وإلا فالقضاء الآخر به متقدم في الأزل ، وروي عن ابن عباس وابن مسعود في قصص هذه الآية أن سليمان عليه السلام كان يتعبد في بيت المقدس وكان ينبت في محرابه كل سنة شجرة فكان يسألها عن منافعها ومضارها وسائر شأنها فتخبره فيأمر بها فتقلع فتصرف في منافعها وتغرس لتتناسل ، فلما كان عند موته خرجت شجرة فقال لها ما أنت ؟ فقالت : أنا الخروب خرجت لخراب ملكك هذا ، فقال سليمان عليه السلام : ما كان الله ليخربه وأنا حي ولكنه لا شك حضور أجلي فاستعد عليه السلام وغرسها وصنع منها عصا لنفسه وجد في عبادته ، وجاءه بعد ذلك ملك الموت فأخبره أنه قد أمر بقبض روحه وأنه لم يبق له إلا مدة يسيرة ، فروي أنه أمر الجن حينئذ فصنعت له قبة من رخام تشف وجعل فيها يتعبد ولم يجعل لها باباً ، وتوكأ على عصاه على موضع يتماسك معه وإن مات ، ثم توفي صلى الله عليه وسلم على تلك الحالة ، وروي أنه استعد في تلك القبة بزاد سنة وكان الجن يتوهمون أنه يتغذى بالليل وكانوا لا يقربون من القبة ولا يدخلون من كوة كانت في أعاليها ، ومن رام ذلك منهم احترق قبل الوصول إليها ، هذا في المدة التي كان سليمان عليه السلام حياً في القبة ، فلما مات بقيت تلك الهيبة على الجن ، وروي أن القبة كان لها باب وأن سليمان أوصى بعض أهله بكتمان موته على الجن والإنس وأن يترك على حاله تلك سنة ، وكان غرضه في هذه السنة أن تعمل الجن عملاً كان قد بدىء في زمن داود قدر أنه بقي منه عمل سنة ، فأحب الفراغ منه ، فلما مضى لموته سنة ، خر عن عصاه والعصا قد أكلته الأرض ، وهي الدودة التي تأكل العود ، فرأت الجن انحداره ، فتوهمت موته فجاء جسور منهم فقرب فلم يحترق ، ثم خطر فعاد ثم قرب أكثر ثم قرب حتى دخل من بعض تلك الكوى فوجد سليمان ميتاً ، فأخبر بموته ، فنظر ذلك الأكل فقدر أنه منذ سنة ، وقال بعض الناس : جعلت الأرضة فأكلت يوماً وليلة ثم قيس ذلك بأكلها في العصا فعلم أنها أكلتها منذ سنة فهكذا كانت دلالة { دابة الأرض } على موته ، وللمفسرين في هذه القصص إكثار عمدته ما ذكرته ، وقال كثير من المفسرين { دابة الأرض } هي سوسة العود وهي الأرضة ، وقرأ ابن عباس والعباس بن المفضل «الأرض » بفتح الراء جمع أرضة فهذا يقوي ذلك التأويل ، وقالت فرقة { دابة الأرض } حيوان من الأرض شأنه أن يأكل العود ، وذلك موجود وليس السوسة من دواب الأرض ، وقالت فرقة منها أبو حاتم اللغوي { الأرض } هنا مصدر أرضت الأثواب والخشبة إذا أكلتها الأرضة ، فكأنه قال دابة الأكل الذي هو بتلك الصورة على جهة التسوس ، وفي مصحف عبد الله «الأرض أكلت منسأته » ، والمنسأة العصا ومنه قول الشاعر : [ البسيط ]
إذا دببت على المنساة من هرم . . . فقد تباعد عنك اللهو والغزل{[9624]}
وقرأ جماعة من القراء «منساته » بغير همز منها أبو عمرو ونافع ، قال أبو عمرو لا أعرف لها اشتقاقاً فأنا لا أهمزها لأنها إن كانت مما يهمز فقد يجوز لي ترك الهمز فيما يهمز ، وإن كانت مما لا يهمز فقد احتطت لأنه لا يجوز لي همز ما لا يهمز ، وقال غيره أصلها الهمز وهي «المنسأة » مفتوحة من نسأت الإبل والغنم والناقة إذا سقتها ومنه قول طرفة : [ الطويل ]
أمون كعيدان الاران نسأتها . . . على لاحب كأنه ظهر برجد{[9625]}
ويروى «وعنس » كألواح وخففت همزتها جملة ، وكان القياس أن تخفف بين بين ، وقرأ باقي السبعة «منسأته » على الأصل بالهمز ، وقرأ حمزة «مَنساته » بفتح الميم وبغير همز ، وقرأت فرقة «مسنأْته » بهمزة ساكنة وهذا لا وجه له إلا التخفيف في تسكين المتحرك لغير علة كما قال امرؤ القيس : [ السريع ]
فاليوم أشرب غير مستحقب . . . إثماً من الله ولا واغلِ{[9626]}
وقرأت فرقة «من ساتِه » بفصل «من » وكسر التاء وهذه تنحو إلى سية القوس لأنه يقال سية وساة ، فكأنه قال «من ساته » ثم سكن الهمزة ومعناها من طرف عصاه أنزل العصا منزلة القوس ، وقال بعض الناس : إن سليمان عليه السلام لم يمت إلا في سفر مضطجعاً ولكنه كان في بيت مبني عليه وأكلت الأرضية عتبة الباب حتى خر البيت فعلم موته .
قال الفقيه الإمام القاضي : وهذا ضعيف وقرأ الجمهور «تبينت الجنُّ » بإسناد الفعل إليها أي بان أمرها كأنه قال افتضحت الجن أي للإنس ، هذا تأويل ، ويحتمل أن يكون قوله { تبينت الجن } بمعنى علمت الجن وتحققت ، ويريد { الجن } جمهورهم والفعلة منهم والخدمة ويريد بالضمير في { كانوا } رؤساءهم وكبارهم لأنهم هم الذين يدعون علم الغيب لأتباعهم من الجن والإنس ويوهمونهم ذلك ، قاله قتادة ، فيتيقن الأتباع أن الرؤساء { لو كانوا } عالمين الغيب { ما لبثوا } و { أن } على التأويل الأول بدل من { الجن } وعلى التأويل الثاني مفعولة محضة ، وقرأ يعقوب «تُبينت الجن » على بناء الفعل للمفعول أي تبينتها الناس ، و { أن } على هذه القراءة بدل ، ويجوز أن تكون في موضع نصب بإسقاط حرف الجر أي «بأن » على هذه القراءة وعلى التأويل الأول من القراءة الأولى .
قال الفقيه الإمام القاضي : مذهب سيبويه أن { أن } في هذه الآية لا موضع لها من الإعراب وإنما هي مؤذنة بجواب ما تنزل منزلة القسم من الفعل الذي معناه التحقق واليقين ، لأن هذه الأفعال التي تبينت وتحققت وعلمت وتيقنت ونحوها تحل محل القسم في قولك : علمت أن لو قام زيد ما قام عمرو ، فكأنك قلت والله لو قام زيد ما قام عمرو ، فقوله { ما لبثوا } على هذا القول جواب ما تنزل منزلة القسم لا جواب { لو } وعلى الأقوال الأول جواب { لو } وفي كتاب النحاس إشارة إلى أنه يقرأ «تبينت الجن » أي تبينت الإنس الجن ، و { العذاب المهين } هو العمل في تلك السخرة ، والمعنى أن الجن لو كانت تعلم الغيب لما خفي عليها موت سليمان ، وقد ظهر أنه خفي عليها بدوامها في الخدمة الصعبة وهو ميت ، ف { المهين } المذل من الهوان ، قال الطبري وفي بعض القراءات «فلما خر تبينت الإنس أن الجن لو كانوا » وحكاها أبو الفتح عن ابن عباس والضحاك وعلي بن الحسين وذكر أبو حاتم أنها كذلك في مصحف ابن مسعود . قال القاضي أبو محمد : وكثر المفسرون في قصص هذه الآية بما لا صحة له ولا تقتضيه ألفاظ القرآن ( وفي معانيه بعد فاختصرته لذلك ) .