فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{فَلَمَّا قَضَيۡنَا عَلَيۡهِ ٱلۡمَوۡتَ مَا دَلَّهُمۡ عَلَىٰ مَوۡتِهِۦٓ إِلَّا دَآبَّةُ ٱلۡأَرۡضِ تَأۡكُلُ مِنسَأَتَهُۥۖ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ ٱلۡجِنُّ أَن لَّوۡ كَانُواْ يَعۡلَمُونَ ٱلۡغَيۡبَ مَا لَبِثُواْ فِي ٱلۡعَذَابِ ٱلۡمُهِينِ} (14)

{ فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ } أي حكمنا على سليمان به وألزمناه إياه { مَا دَلَّهُمْ } أي الجن { عَلَى مَوْتِهِ إِلا دَابَّةُ الأَرْضِ } يعني حتى أكلت الأرضة عصاه فخر ميتا ، وهي دويبة يقال لها ، سرفة وقرئ : الأرض بفتح الراء أي الأكل يقال : أرضة الخشبة أرضا إذا أكلتها الأرض .

{ تَأْكُلُ مِنسَأَتَهُ } قال البخاري : يعني عصاه أي عصاته التي كان متكأ عليها والمنسأة العصا بلغة الحبشة أو هي مأخوذة من نسأت الغنم أي زجرتها .

قال الزجاج : المنسأة التي ينسأ بها أي يطرد ، قرأ الجمهور منسأته بهمزة مفتوحة وقرئ بهمزة ساكنة وبألف محضة قال المبرد : بعض العرب تبدل من همزتها ألفا فلما أكلتها الأرضة شكرتها الجن وأحبوها فهم يأتونها بالماء والطين في خروق الخشب وزاد السدي ، وقالوا لها : لو كنت تأكلين الطعام والشراب لأتيناك بهما .

{ فَلَمَّا خَرَّ } أي سقط سليمان { تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ } أي ظهر لهم وانكشف من تبينت الشيء إذا علمته أي علمت الجن { أَن لَّوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ } أي لو صح ما يزعمونه من أنهم يعلمون الغيب لعلموا بموته ولم يلبثوا بعد موته مدة طويلة في العذاب ، أي العمل الذي أمرهم به والطاعة له ، وهو إذ ذاك ميت .

قال مقاتل العذاب المهين : الشقاء والنصب في العمل قال الواحدي قال المفسرون : كانت الناس في زمان سليمان يقولون : أن الجن تعلم الغيب فلما مكث سليمان قائما على عصاه حولا ميتا والجن تعمل تلك الأعمال الشاقة التي كانت تعمل في حياة سليمان لا يشعرون بموته حتى أكلت الأرضة عصاه فخر ميتا ، فعلموا بموته علم الناس أن الجن لا تعلم الغيب . ويجوز أن يكون تبينت من تبين الشيء لا من تبينت الشيء أي ظهر وتجلى وأن وما في حيزها بدلا اشتمال مع تقدير محذوف أي ظهر أمر الجن للناس أنهم لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين قرأ الجمهور : تبينت على البناء للفاعل مسندا إلى الجن وقرأ ابن عباس وغيره : على البناء للمفعول ومعنى القراءتين يعرف مما قدمنا .

قال ابن عباس : لبث سليمان على عصاه حولا بعدما مات ، ثم خر على رأس الحول فأخذت الجن عصى مثل عصاه ودابة مثل دابته ، فأرسلوها عليها فأكلتها في سنة ، وكان ابن عباس يقرأ : فلما خر تبينت الإنس ، قال سفيان : وفي قراءة ابن مسعود : وهم يدأبون له حولا ، وأخرج البزار وابن جرير وابن المنذر والطبراني وابن السني وغيرهم عن ابن عباسي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( كان سليمان إذا صلى رأى شجرة نابتة بين يديه فتقول : لها ما اسمك فتقول كذا وكذا فيقول لم أنت ؟ فتقول لكذا وكذا ، فإن كانت لغرس غرست وإن كانت لدواء كتبت فصلى ذات يوم فإذا شجرة نابتة بين يديه فقال لها ما اسمك ؟ قالت : الخروب . قال : لأي شيء أنت ؟ قالت لخراب هذا البيت . قال لها سليمان : ما كان الله ليخربه ، وأنا حي ، أنت التي على وجهك هلاكي وخراب بيت المقدس ثم نزعها وغرسها في حائط له ، ثم قال سليمان اللهم عم عن الجن موتى حتى يعلم الإنس أن الجن لا يعلمون الغيب فهيأ عصى فتوكأ عليها وقبضه الله وهو متكئ عليها ، فمكث حولا ميتا والجن تعمل فأكلتها الأرضة فسقطت فعلموا عند ذلك بموته فتبينت الإنس أن الجن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين ) .

وكان ابن عباس يقرأها كذلك فشكرت الجن للأرضة فأينما كانت يأتونها بالماء ، وأخرجه الحاكم وصححه عن ابن عباس موقوفا .

وأخرج الديلمي عن زيد بن أرقم مرفوعا يقول الله : اني تفضلت على عبادي بثلاث : القيت الدابة على الحبة ، ولولا ذلك لكنزها الملوك كما يكنزون الذهب والفضة ، وألقيت النتن على الجسد ولولا ذلك لم يدفن حبيب حبيبه واستلبت الحزن ولولا ذلك لذهب النسل .

ذكر أهل التاريخ أن سليمان ملك وهو ابن ثلاث عشرة سنة ، وبقي في الملك مدة أربعين سنة وشرع في بناء بيت المقدس لأربع سنين مضين من ملكه وتوفي وهو ابن ثلاث وخمسين سنة وقيل : أن داود أسس بناء بيت المقدس في موضع فسطاط موسى فمات قبل أن يتمه فوصى به إلى سليمان فأمر الشياطين بإتمامه فلما بقي من عمره سنة سأل ربه أن يعمي عليهم موته حتى يفرغوا عنه ولتبطل دعواهم على الغيب ، روي أن افريدون جاء ليصعد كرسيه فلما دنا ضرب الأسدان ساقه ، فكسراها ، فلم يجسر أحد بعده أن يدنو منه .