قوله : { فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الموت } أي على سليمان ، قال أهل العلم : كان سليمان- عليه السلام- يتحرز{[44282]} ببيت المقدس السَّنَّة والسَّنَتَيْنِ والشهر والشهرين ، وأقل من ذلك وأكثر يدخل فيه طعامه وشرابه فأدخله في المرة التي مات فيها وكان بدء ذلك أنه كان لا يصبح يوماً إلا نَبَتَتْ{[44283]} في محرابه ببيت المقدس شجرة فيسألها ما اسمك ؟ فتقول اسمي كذا فيقول : لأن شيء أنت ؟ فتقول : لكذا وكذا فيأمرها فتقطع فَإنْ كَانَتْ تنبت{[44284]} لغرس غرسها وإن كانت لدواء كتبه حتى نبتت الخروبة فقال لها ما أنت ؟ قالت الخرّوبة قال : لأي شيء نَبَتْت{[44285]} ؟ قالت : لخراب مَسْجِدِك فقال سليمان : ما كان الله ليجزيه وأنا حي أنت الذي على وَجْهِك هلاكي وخراب بيت المقدس فنزعها وغرسها في حائط له ثم قال : اللَّهُمَّ عَمَّ على الجنِّ موتي حتى يعلم الناس أن الجن لا يعلمون الغيب وكانت الجن تخبر الإنس أنهم يعلمون من الغيب أشياء ويعلمون ما في غد ، ثم دخل المحراب فقام يصلي متكئاً على عصاه فمات قائماً وكان للمحراب كوى بين يديه وخلفه فكانت الجن تعمل تلك الأعمال الشاقة التي كانوا يعملونها في حياته وينظرون إلى سليمان فيرونه قائما متكئا على عصاه فيحسبونه حياً فلا ينكرون خروجه إلى الناس لطول صلاته فمكثوا يدأبون له بعد موته حولاً كاملاً حتى أكلت الأَرَضَةُ عَصَا سُلَيْمَان فخرَّ ميتاً فعلموا بموته{[44286]} ، قال ابن عباس : فشكرت الجن الأرضة فهم يأتونها بالماء والطين في جوف الخشب فذلك قوله : { مَا دَلَّهُمْ على مَوْتِهِ إِلاَّ دَابَّةُ الأَرْضِ } وهي الأرضة{[44287]} «تَأكل منسأته » أي عصاه{[44288]} .
قوله : «تَأكُلُ » إما حال ، أو مستأنفة{[44289]} ، وقرأ ابن ذَكْوَان منسأْتَهُ - بهمزة{[44290]} ساكنة ونافع وأبو عمرو بألف محضة{[44291]} ، والباقون بهمزة مفتوحة{[44292]} ، والمِنْسَأةُ اسم آلة من نَسأَهُ أي أخَّرَهُ كالمكسحة والمِكْنَسة من نسأتُ الغنم أي زجرتها وسقتها ، ومنه : نَسَأَ اللَّهُ في أجَلِهِ{[44293]} أي أَخَّره وفيها الهمزة وهو لغة تميم وأنشد :
4118- أَمِنَ أَجْل حَبْلٍ لاَ أَبَاكَ ضَرَبْتَهُ . . . بمِنْسَأَةٍ قَدْ جَرَّ حَبْلُكَ أَحْبُلاَ{[44294]}
( والألف ){[44295]} وهو لغة الحجاز وأنشد :
4119- إذَا دَبَبْتَ عَلَى المِنْسَأةِ مِن كِبَرٍ . . . فَقَد تَبَاعَدَ عَنْكَ اللَّهْوُ وَالْغَزَلُ{[44296]}
فأما بالهمزة المفتوحة فهي الأصل لأن الاشتقاق يشهد له والفتح لأجل بناء مِفْعَلَةٍ كمِكَنَسَةٍ وأما سكونها ففيه وجهان :
أحدهما : أنه أبدل الهمزة ألفاً كما أبدلها نافع وأبو عمرو وسيأتي ، ثم أبدل هذه الألف همزة على لغة من يقول العَأَلَمُ والخَأتَمُ وقوله :
4120- . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . وخِنْدِفٌ هَامَةُ هَذَا العَألَمِ{[44297]}
ذكره ابن مالك{[44298]} قال شهاب الدين وهذا لا أدري ما حمله عليه كيف نعتقد أنه هرب من شيء ثم يعود إليه وأيضاً فإنهم نصُّوا على أنه إذا أبدل من الألف همزة فإن كان لتلك الألف أصل حركت هذه الهمزة بحركة أصل الألف{[44299]} .
4121- وَلَّى نَعَامُ بَنِي صَفْوَانَ زَوْزَأَةً . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . {[44300]}
قال : الأصل زَوْزاةٌ وأصل هذا : زَوْزَوَةٌ ، فلما أبدل من الألف همزة حركها بحركة الواو ، إذا عرف هذا فكان ينبغي أن تبدل هذه الألف همزة مفتوحة لأنها عن أصل متحرك وهو الهمزة المفتوحة فتعود إلى الأول وهذا لا يقال{[44301]} .
الثاني : أنه سكن الفتحة تخفيفاً والفتحة قد سكنت في مواضع تقدم التنبيه عليها وشواهدها ، ويحسنه هنا أن الهَمْزَة تشبه حروف العلة ، وحرف العلة يستثقل عليه{[44302]} الحركة من حيث الجملة وإن كان لا تستثقل الفتحة لخفتها ، وأنشدوا على تسكين همزتها :
4122- صَرِيعُ خَمْرٍ قَامَ مِنْ وَكْأتِهِ . . . كَقوْمَةِ الشَّيْخِ إلَى مِنْسأتِهِ{[44303]}
وقد طعن قوم على هذه القراءة ونسبوا راويها إلى الغلط قالوا : لأن قياس تخفيفها{[44304]} إنما هو تَسْهيلُها بَيْنَ بَيْنَ{[44305]} وبه قرأ ابنُ عامر وصاحباهُ{[44306]} فظن الراوي أنهم سكنوا وضعفها أيضاً بعضهم بأنه يلزم سكون ما قبل تاء التأنيث وما قبلها واجب الفتح إلا الألف{[44307]} . وأما قراءة الإبدال فقيل : هي غير قياسية يعنون أنها ليست على قياس تخفيفها{[44308]} إلا أن هذا مردود بأنها لغة الحجاز ثابتة{[44309]} فلا يلتفت لمن طعن ، وقد قال أبو عمرو وكفى به : أنا لا أهمزها لأني لا أعرف لها اشتقاقاً ، فإن كانت مما لا يهمز فقد احتطت وإن كانت تهمز فقد يجوز لي ترك الهمز فيما يهمز{[44310]} ، وهذا الذي ذكره أبو عمرو أحسن ما يقال في هذا ونظائره . وقرئ مَنْسَأتَه بفتح الميم مع تحقيق الهمز{[44311]} ، وإبدالها ألفاً وحذفها تخفيفاً{[44312]} ، وقرئ مِنْسَاءَتِهِ بزنة منعالته{[44313]} كقولهم : مِيضَأةٌ ومِيضَاءَةٌ{[44314]} . وكلها لُغات ، وقرأ ابن جبير{[44315]} من ساته فَصَل «مِنْ » ، وجعلها حرف جر وجعل «ساته » مجرورة بها{[44316]} ، والسَّاةُ والسِّيَةُ هنا العَصَا وأصلها يَدُ القَوْس العليا والسفلى يقال : سَاةُ القَوْسِ مثلُ شَاةٍ وسِئَتُها{[44317]} ، فسمِّيت العصا بذلك على وجه الاستعارة والمعنى تأكل من طرف عصاه . ووجه بذلك- كما جاء في التفسير - أنه اتَّكأ على عصا خضراء من خروب والعصا الخضراء متى اتُّكِيءَ عليها تصير كالقَوْس في الاعْوِجاج غالباً . و «سَأَة » فَعَلَة وسئة فِعلة نحو قحَة وقحة والمحذوف لامهما{[44318]} . وقال ابن جني : سمي العصا منسأة لأنها تسوء وهي فَلَة والعين محذوفة{[44319]} . قال شهاب الدين : وهذا يقتضي أن تكون القراءة بهمزة ساكنة والمنقول أن هذه القراءة بألف صريحة ولأبي الفتح أن يقول أصلها الهمزة ولكن أُبْدِلَتْ{[44320]} .
قوله : «دَابَّةُ الأرض » فيه وجهان :
أظهرهما : أن الأرض هذه المعروفة والمراد بدابة الأرض الأَرَضة دُوَيبَّة تأكل الخَشَب .
والثاني : أن الأرض مصدر لقولك أَرَضَتِ الدابَّة الخَشَبَة تَأرِضُهَا أَرْضاً أي أكلتها فكأنه قيل : دابة الأكل يقال : أرَضَت الدَّابَّةُ الخَشَبَة تَأرُضُها أَرْضاً فأرِضَتْ بالكسر تَأْرَضُ هي بالفتح أيضاً وأكَلت الفَوَازجُ الأسْنَانَ تَأكُلُها أكْلاً فَأَكِلَتْ هي بالكسر تَأكَلُ أكَلاً بالفتح .
ونحوه أيضاً : جِدِعَتْ أَنْفُهُ جَدَعاً فجُدِعَ هو جَدَعاً{[44321]} بفتح عين المصدر ، وقرأ ابن عباس والعباس{[44322]} بن الفضل بفتح الراء وهي مقوية المصدرية في القراءة المشهورة وقيل : الأَرَضُ بالفتح ليس مصدراً بل هو جمع أرَضَةٍ وهذا يكون من باب إضافة العام إلى الخاص لأن الدابة أعم من الأرضة وغيرها من الدوّابِّ{[44323]} .
قوله : { فَلَمَّا خَرَّ } أي سقط الظاهر أن فاعله ضمير سليمان عليه – ( الصلاة{[44324]} و ) السلام ، وقيل : عائد على الباب لأن الدابة أكلته فوقع وقيل : بل أكلت عتبة الباب وهي الخارّة وينبغي أن لا يصحَّ ؛ إذ كان يكون التركيب خرَّتْ بتاء التأنيث و : أبْقَلَ إبْقَالَها{[44325]} ضرورة ، أو نادر{[44326]} وتأويلها بمعنى العَوْد{[44327]} أندر منه .
قوله : { تَبَيَّنَتِ } العامة على نيابته للفاعل مسنداً للجنِّ وفيه تأويلاتٌ .
أحدها : أنه على حذف مضاف تقديره تَبَيَّنَ أمْرُ الجِنِّ أي ظَهَرَ وبَانَ{[44328]} ، و «تَبَيَّنَ » يأتي بمعنى «بَانَ » لازماً كقوله :
4123- تَبَيَّنَ لِي أَنَّ القَمَاءَةَ ذِلَّةٌ . . . وأَنَّ أَعِزَّاء الرِّجَالِ طِيَالُهَا{[44329]}
فلما حذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه وكان مما يجوز تأنيث فعله ألحقت علامة التأنيث ( به ){[44330]} .
وقوله «{ أَن لَّوْ كَانُواْ } بتأويل المصدر مرفوعاً بدلاً من الجنِّ والمعنى ظهر كونُهم لو علموا الغيب ما لبثوا في العذاب أي ظَهَرَ جَهْلُهُمْ{[44331]} .
الثاني : أن تبين بمعنى بان وظهر أيضاً والجنّ فاعل . ولا حاجة إلى حذف مضاف و «أَنْ لَوْ كَانُوا » بدل كما تقدم والمعنى ظهر الجن جهلهم للناس لأنهم كانوا يوهمون الناس بذلك كقولك : بَانَ زَيْدٌ جَهْلُهُ{[44332]} .
الثالث : أن تَبَيَّنَ هنا متعدِّ بمعنى أدْرَكَ وعَلم وحينئذ يكون المراد «بِالجِنِّ » ضَعَفَتُهُمْ وبالضمير في «كانوا » كبارُهم ومَرَدَتُهُمْ و «أنْ لَّوْ كَانُوا » مفعول به ، وذلك أن المردة ( و ) الرؤساء من الجن كانوا يوهمون ضعفاءهم أنهم يعلمون الغيب فلما خَرَّ سليمانُ مَيْتاً ومكثوا بعده عاما في العمل تبينت السفلة من الجن أن المراد منهم لو كانوا يعلمون الغيب كما ادعوا ما مَكَثُوا في العذاب{[44333]} ، ومن مجيء «تَبَيَّنَ » متعدياً بمعنى أدْرَكَ قوله :
4124- أفَاطِم إنِّي مَيِّتٌ فَتَبَيِّنِي . . . وَلاَ تَجْزَعِي كُلُّ الأَنَامِ يَمُوتُ{[44334]}
وفي كتاب أبي جَعْفَر{[44335]} ما يقتضي أن بعضهم قرأ : «الجنَّ » بالنصب{[44336]} . وهي واضحة أي تبينت الإنسُ الجِنَّ ، و «أن لو كانوا » بدل أيضاً من «الجن » ، قال البغوي : قرأ ابنُ مسعود وابنُ عباس تبينت الإنس أن لو كان الجنُّ يَعْلَمُونَ الغيب ما لبثوا في العذاب المهين أي علمت الإنسُ وأيقنت ذلك{[44337]} . وقرأ ابنُ عباس ويعقوب تُبُيِّنَتِ الجِنُّ على البناء للمفعول{[44338]} . وهي مؤيدة لما نقله النَّحَّاس وفي الآية قراءاتٌ كثيرةٌ أضْرَبْتُ علها لمخالفتها الشواذ{[44339]} وأن في «أن لو » الظاهر أنها مصدرية مخففة من الثقيلة واسمها ضمير الشأن و «لو » فاصلة بينها وبين خبرها الفعليّ{[44340]} . وتقدم تحقيق ذَلك كقوله :
{ وَأَلَّوِ استقاموا } [ الجن : 16 ] و { أَن لَّوْ نَشَآءُ أَصَبْنَاهُمْ } [ الأعراف : 100 ] وقال ابن عطية : وذهب سيبويه إلى أَنَّ{[44341]} «أَنْ » لا موضع لها من الإعراب إنما هي مؤذنة بجواب ما يَنْزِلُ مَنْزِلَة القسم من الفعل الذي معناه التحقيق واليقين{[44342]} ؛ لأن هذه الأفعال التي هي تحققت وتيقنت وعلمت ونحوها تحلّ مَحَلّ القسم فما لبثوا جواب القسم لا جواب «لو »{[44343]} وعلى الأقوال الأُول يكون جوابها . قال شهاب الدين : وظاهر{[44344]} هذا أنها زائدة لأنهم نصوا على اطِّرَادِ زيادتها قبل لو في حَيِّز القَسَم{[44345]} .
وللناس خلاف هل الجواب لِلَوء أو للقسم . والذي يقتضيه القياس أن يجاب أسبقهما{[44346]} كما في اجتماعه مع الشرط الصريح ما لم يتقدمهما ذُو خَبَر كما تقدم بيانه .
وتقدم الكلام والقراءات في سبأ في سورة{[44347]} النمل .
فصل{[44348]}
المعنى أن سليمان لما سقط ميتاً تَبَيَّنَت الجِنُّ أن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين أي في التَّعَب والشقاء مسخرين لسليمان وهو ميت يظنونه حياً أراد الله بذلك أن يعلم الجن أنهم لا يعلمون الغيب لأنهم كانوا يظنون أنهم يعلمون الغيب لغلبة{[44349]} الجهل عليهم وذكر الزُّهْريُّ{[44350]} أن معنى تَبَيَّنّت الجِنُّ أي ظهرت وانكشفت الجن للإنس أي ظهر لهم أمرهم أنهم لا يعلمون الغيب لأنهم كانوا قد شبهوا على الإنس ذلك ، ويؤيد هذا قراءة ابن مسعود وابن عباس المتقدمة ، وقوله : { مَا لَبِثُواْ فِي العذاب المهين } يدل على أن المؤمنين من الجنِّ لم يكونوا في التسخير ، لأن المؤمن لا يكون في زمان النَّبِيِّ في العذاب المهين .
فصل{[44351]}
رُوِيَ أن سليمان كان عمره ثلاثاً وخمسينَ سنة ومدة ملكه أربعونَ سنة ومَلَكَ يَوْمَ مَلَكَ وهو ابن ثلاثَ عَشْرَة سَنَةً وابتدأ في بناء بين المقدس لأربع سنين مضين من ملكه{[44352]} .