فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير للشوكاني - الشوكاني  
{فَلَمَّا قَضَيۡنَا عَلَيۡهِ ٱلۡمَوۡتَ مَا دَلَّهُمۡ عَلَىٰ مَوۡتِهِۦٓ إِلَّا دَآبَّةُ ٱلۡأَرۡضِ تَأۡكُلُ مِنسَأَتَهُۥۖ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ ٱلۡجِنُّ أَن لَّوۡ كَانُواْ يَعۡلَمُونَ ٱلۡغَيۡبَ مَا لَبِثُواْ فِي ٱلۡعَذَابِ ٱلۡمُهِينِ} (14)

{ فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الموت } أي حكمنا عليه به ، وألزمناه إياه { مَا دَلَّهُمْ على مَوْتِهِ إِلاَّ دَابَّةُ الأَرْضِ } يعني الأرضة . وقرىء . ( الأرض ) بفتح الراء ، أي الأكل ، يقال : أرضت الخشبة أرضاً : إذا أكلتها الأرضة . ومعنى { تأكل منسأته } تأكل عصاه التي كان متكئاً عليها ، والمنسأة : العصا بلغة الحبشة ، أو هي مأخوذة من نسأت الغنم ، أي : زجرتها . قال الزجاج : المنسأة التي ينسأ بها : أي يطرد . قرأ الجمهور { منسأته } بهمزة مفتوحة . وقرأ ابن ذكوان بهمزة ساكنة . وقرأ نافع ، وأبو عمرو بألف محضة . قال المبرد : بعض العرب يبدل من همزتها ألفاً ، وأنشد :

إذا دببت على المنسأة من كبر *** فقد تباعد عنك اللهو والغزل

ومثل قراءة الجمهور قول الشاعر :

ضربنا بمنسأة وجهه *** فصار بذاك مهيناً ذليلا

ومثله :

أمن أجل حبل لا أباك ضربته *** بمنسأة قد جرّ حبلك أحبلا

ومما يدلّ على قراءة ابن ذكوان قول طرفة :

أمون كألواح الأران نسأتها *** على لاحب كأنه ظهر برجد

{ فَلَمَّا خَرَّ } أي سقط { تَبَيَّنَتِ الجن } أي ظهر لهم ، من تبينت الشيء : إذا علمته ، أي علمت الجن { أَن لَّوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ الغيب مَا لَبِثُواْ في العذاب المهين } أي لو صح ما يزعمونه من أنهم يعلمون الغيب لعلموا بموته ، ولم يلبثوا بعد موته مدة طويلة في العذاب المهين في العمل الذي أمرهم به ، والطاعة له ، وهو إذ ذاك ميت . قال مقاتل : العذاب المهين : الشقاء والنصب في العمل . قال الواحدي : قال المفسرون : كانت الناس في زمان سليمان يقولون : إن الجنّ تعلم الغيب ، فلما مكث سليمان قائماً على عصاه حولاً ميتاً ، والجنّ تعمل تلك الأعمال الشاقة التي كانت تعمل في حياة سليمان لا يشعرون بموته حتى أكلت الأرضة عصاه ، فخرّ ميتاً ، فعلموا بموته ، وعلم الناس : أن الجنّ لا تعلم الغيب ، ويجوز : أن يكون تبينت الجنّ من تبين الشيء ، لا من تبينت الشيء ، أي : ظهر ، وتجلى ، وأن وما في حيزها بدل اشتمال من الجنّ مع تقدير محذوف ، أي : ظهر أمر الجن للناس أنهم لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين ، أو ظهر أن الجنّ لو كانوا يعلمون الغيب إلخ .

قرأ الجمهور : { تبينت } على البناء للفاعل مسنداً إلى الجنّ . وقرأ ابن عباس ويعقوب : { تبينت } على البناء للمفعول ، ومعنى القراءتين يعرف مما قدّمنا .

/خ14