الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{فَلَمَّا قَضَيۡنَا عَلَيۡهِ ٱلۡمَوۡتَ مَا دَلَّهُمۡ عَلَىٰ مَوۡتِهِۦٓ إِلَّا دَآبَّةُ ٱلۡأَرۡضِ تَأۡكُلُ مِنسَأَتَهُۥۖ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ ٱلۡجِنُّ أَن لَّوۡ كَانُواْ يَعۡلَمُونَ ٱلۡغَيۡبَ مَا لَبِثُواْ فِي ٱلۡعَذَابِ ٱلۡمُهِينِ} (14)

قوله : { تَأْكُلُ } : إمَّا حالٌ أو مستأنفة . وقرأ " مِنْسَأْتَه " ، بهمزةٍ ساكنةٍ ابنُ ذكوان . وبألفٍ مَحْضةٍ نافعٌ وأبو عمرٍو ، وبهمزة مفتوحةٍ الباقون .

والمِنْسَأَةُ : العَصا اسمُ آلةٍ مِنْ نَسَأه أي : أخَّرَه كالمِكْسَحَةِ والمِكْنَسَة . وفيها الهمزةُ وهو لغةُ تميم وأُنشِد :

3727 أمِنْ أَجْلِ حَبْلٍ لا أَباك ضَرَبْتَه *** بمِنْسَأَةٍ قد جَرَّ حَبْلُكَ أَحْبُلا

والألف وهي لغةُ الحجازِ . وأنشد :

3728 إذا دَبَبْتَ على المِنْسَاة مِنْ كِبَرٍ *** فقد تباعَدَ عنك اللهوُ والغَزَلُ

فأمَّا بالهمزةِ المفتوحةِ فهي الأصلُ ؛ لأنَّ الاشتقاقَ يدلُّ ويشهد له ، والفتحُ لأَجْلِ بناء مِفْعَلة كمِكْنَسَة . وأمَّا سكونُها ففيه وجهان ، أحدهما : أنه أبدلَ الهمزةَ ألفاً ، كما أبدلها نافعٌ وأبو عمروٍ . وسيأتي ، ثم أبدل هذه الألفَ همزةً على لغةِ مَنْ يقولُ : العَأْلَم والخَأْتَم . وقوله :

وخِنْدِفٌ هامَةُ هذا العَأْلَمِ ***

ذكره ابن مالك . وهذا لا أدري ما حمله عليه ، كيف يُعْتَقَدُ أنه هَرَبَ مِنْ شيءٍ ثم يعودُ إليه ؟ وأيضاً فإنهم نَصُّوا على أنه إذا أبدلَ من الألفِ همزةً : فإن كان لتلك الألفِ أصلٌ حُرِّكَتُ هذه الهمزةُ بحركةِ أصلِ الألفِ . وأنشد أبو الحسن ابن عُصفور على ذلك :

3730 وَلَّى نَعامُ بني صفوانَ زَوْزَأَةً *** . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

قال : الأصل زَوْزاة . وأصلُ هذا : زَوْزَوَة ، فلمَّا أُبْدِلَتْ من الألفِ/ همزةً حَرَّكها بحركةِ الواوِ . إذا عَرَفْتَ هذا فكان ينبغي أن تُبْدَلَ هذه الألفُ همزةً مفتوحةً ؛ لأنَّها عن أصلٍ متحركٍ ، وهو الهمزةُ المفتوحةُ ، فتعودُ إلى الأول ، وهذا لا يُقالُ . الثاني : أنه سَكَّن الفتحةَ تخفيفاً ، والفتحةُ قد سَكَنَتْ في مواضِعَ تقدَّم التنبيهُ عليها وشواهدُها . ويُحَسِّنُه هنا : أنَّ الهمزةَ تُشْبه حروفَ العلةِ ، وحرفُ العلةِ تُسْتَثْقَلُ عليه الحركةُ مِنْ حيثُ الجملةُ ، وإنْ كان لا تُسْتثقل الفتحةُ لخفَّتِها . وأَنْشدوا على تسكينِ همزتها :

3731 صريعُ خَمْرٍ قام مِنْ وُكَاءَتِهْ *** كقَوْمَةِ الشيخ إلى مِنْسَأْتِهْ

وقد طَعَنَ قومٌ على هذه القراءةِ ، ونَسَبوا راوِيَها إلى الغلط . قالوا : لأنَّ قياسَ تخفيفِها إنما هو تسهيلُها بينَ بينَ ، وبه قرأ ابنُ عامرٍ وصاحباه ، فظَنَّ الراوي أنهم سَكَّنوا . وضَعَّفها أيضاً بعضُهم : بأنه يَلْزَمُ سكونُ ما قبل تاءِ التأنيثِ ، وما قبلها واجبُ الفتحِ إلاَّ الألفَ .

وأمَّا قراءةُ الإِبدالِ فقيل : هي غيرُ قياسيةٍ ، يَعْنُون أنها ليسَتْ على قياسِ تَخْفيفِها . إلاَّ أنَّ هذا مردودٌ : بأنها لغةُ الحجازِ ، ثابتةً ، فلا يُلْتَفَتُ لمَنْ طَعَن . وقد قال أبو عمرو : - وكَفَى به - " أنا لا أَهْمِزُها ، لأنِّي لا أَعْرِفُ لها اشتقاقاً ، فإنْ كانَتْ مما لا يُهْمَزُ فقد أُخْطِئُ . وإن كانَتْ تُهْمَزُ فقد يجوزُ لي تَرْكُ الهمزِ فيما يُهْمَزُ " . وهذا الذي ذكره أبو عمرٍو أحسنُ ما يقالُ في هذا ونظائرِه .

وَقُرئ " مَنْسَأَتَه " بفتح الميم مع تحقيقِ الهمزةِ ، وإبدالِها ألفاً ، وحَذْفِها تخفيفاً ، و " مِنْسَاْءَتَه " بزنة مِفْعَالَتَه كقولهم : مِيْضَأَة ومِيْضاءَة وكلُّها لغاتٌ .

وقرأ ابنُ جُبَيْر " مِنْ سَأَتِه " فَصَل " مِنْ " وجَعَلَها حَرفَ جَرٍّ ، وجَعَل " سأَتِه " مجرورةً بها . والسَّأَةُ والسِّئَةُ هنا العصا . وأصلُها يَدُ القوسِ العليا والسفلى يقال : سَاةُ القوسِ مثلُ شاة ، وسِئَتُها ، فَسُمِّيَتِ العصا بذلك على وجهِ الاستعارة . والمعنى : تأكلُ مِنْ طَرَفِ عصاه . ووجهُ ذلك كما جاء في التفسير : أنه اتَّكأ على عصا خضراءَ مِنْ خَرُّوب ، والعصا الخضراءُ متى اتُّكِئ عليها تَصيرُ كالقوسِ في الاعوجاجِ غالباً . وساة فَعَلة ، وسِئَة : فِعلة نحو : قِحَة وَقَحة ، والمحذوفُ لامُهما .

وقال ابن جني : " سَمَّى العَصا ساءة لأنها تَسُوء ، فهي فَلَة ، والعينُ محذوفةٌ " قلت : وهذا يَقْتضي أَنْ تكون القراءة بهمزةٍ ساكنةٍ ، والمنقولُ أن هذه القراءةَ بألفٍ صريحة ولأبي الفتح أَنْ يقولَ : أصلُها الهمزُ ، ولكن أُبْدِلَتْ .

وقوله : " دابَّةُ الأرضِ " فيه وجهان ، أظهرُهما : أنَّ الأرضَ هذه المعروفةُ . والمرادُ بدابَّةِ الأرضِ الأَرَضَةُ دُوَيْبَّةٌ تأكُل الخَشَبَ . الثاني : أن الأرضَ مصدرٌ لقولك : أرَضَتِ الدابةُ الخشبةَ تَأْرِضُها أَرْضاً أي : أكلَتْها . فكأنه قيل : دابَّةٌ الأكل . يُقال : أرَضَتِ الدابَّةُ الخشبةَ تَأْرِضها أَرْضاً فأَرِضَتْ بالكسر تَأْرَض هي بالفتح أرَضاً بالفتح أيضاً نحو : أكَلَت القوادحُ الأسنانَ تأكلُها أكلاً فأَكِلت هي بالكسر تَأْكَلُ أَكَلاً بالفتح . ونحوُه أيضاً : جَدَعْتُ أنفَه جَدْعاً فجَدِع هو جَدَعاً بفتح عين المصدر . وبفتح الراء قرأ ابن عباس والعباس بن الفضل وهي مقويةُ المصدرية في القراءة المشهورة . وقيل : الأرضَ بالفتح ليس مصدراً بل هو جمع أَرَضَة ، وعلى هذا يكونُ من باب إضافةِ العامِّ إلى الخاصِّ لأنَّ الدابَّةَ أعمُّ من الأَرَضة وغيرِها من الدوابِّ .

قوله : " فلمَّا خَرَّ " الظاهر أنَّ فاعلَه ضميرُ سليمان عليه السلام . وقيل : عائدٌ على الباب لأنَّ الدابَّةَ أكلَتْه فوقع . وقيل : بل أكلَتْ عَتَبَةَ البابِ ، وهي الخارَّة . ونُقِل ذلك في التفسير ، وينبغي أَنْ لا يَصِحَّ ؛ إذ كان يكون التركيبُ خرَّتْ بتاءِ التأنيث . و :

3732 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . *** . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . أَبْقَل إبْقالَها

ضرورةٌ أو نادرٌ . وتأويلُها بمعنى العُوْد أَنْدَرُ منه .

قوله : " تَبَيَّنَتْ " العامَّةُ على بنائِه للفاعلِ مسنداً للجنِّ . وفيه تأويلاتٌ ، أحدُها : أنه على حَذْفِ مضافٍ تقديرُه : تبيَّن أَمْرُ الجنِّ أي : ظهر وبان . و " تبيَّن " يأتي بمعنى بان لازماً ، كقولِه :

3733 تَبَيَّنَ لي أنَّ القَماءَةَ ذِلَّةٌ *** وأنَّ أَعِزَّاءَ الرجالِ طِيالُها

فلمَّا حُذِفَ المضافُ ، وأقيم المضافُ إليه مُقامَه ، وكان ممَّا يجوز تأنيثُ فعلِه ، أُلْحِقَتْ علامةُ التأنيثِ .

وقوله : { أَن لَّوْ كَانُواْ } بتأويلِ المصدرِ مرفوعاً بدلاً من الجنِّ . والمعنى : ظهر كَوْنُهم لو عَلِموا الغيبَ لَما لَبِثوا في العذاب أي : ظَهَرَ جَهْلُهُمْ . الثاني : أنَّ " تبيَّن " بمعنى بانَ وظَهَر أيضاً . و " الجنُّ " فاعلٌ . ولا/ حاجةَ إلى حَذْفِ مضاف و { أَن لَّوْ كَانُواْ } بدلٌ كما تقدَّم تحريرُه . والمعنى : ظهر للجن جَهْلُهم للناسِ ؛ لأنهم كانوا يُوْهِمُون الناسَ بذلك ، كقولك : بان زيدٌ جهلُه .

الثالث : أنَّ " تَبَيَّن " هنا متعدٍّ بمعنى أَدْرك وعَلِم ، وحينئذٍ يكون المرادُ بالجنِّ ضَعَفَتَهم ، وبالضميرِ في " كانوا " كبارَهُمْ ومَرَدَتَهم ، و { أَن لَّوْ كَانُواْ } مفعولٌ به ، وذلك أنَّ المَرَدَةَ والرؤساءَ من الجنِّ كانوا يُوْهِمون ضعفاءَهم أنهم يَعْلمون الغيبَ . فلمَّا خَرَّ سليمان عليه السلامَ مَيِّتاً ، مكثوا بعده عاماً في العملِ ، تبيَّنَتِ السَّفَلَةُ من الجنِّ أنَّ الرؤساءَ منهم لو كانوا يعلمون الغيبَ كما ادَّعَوْا ما مكثوا في العذابِ . ومِنْ مجيءِ " تَبَيَّن " متعدِّياً بمعنى أَدْرك قولُه :

3734 أفاطِمُ إنِّي مَيِّتٌ فَتَبَيَّني *** ولا تَجْزَعي كلُّ الأنامِ يموتُ

أي : تَبَيَّني ذلك .

وفي كتاب أبي جعفر ما يَقْتضي أنَّ بعضَهم قرأ " الجنَّ " بالنصب ، وهي واضحةٌ أي : تبيَّنت الإِنسُ الجنَ . و { أَن لَّوْ كَانُواْ } بدلٌ أيضاً من " الجن " . وقرأ ابن عباس ويعقوب " تُبُيِّنَتِ الجنّ " على البناءِ للمفعولِ ، وهي مؤيِّدَةٌ لِما نَقَله النحاسُ . وفي الآيةِ قراءاتٌ كثيرةٌ أَضْرَبْتُ عنها لمخالفتِها السَّوادَ .

و " أن " في { أَن لَّوْ كَانُواْ } الظاهرُ أنها مصدريةٌ مخففةٌ من الثقيلة ، واسمُها ضميرُ الشأنِ . و " لو " فاصلةٌ بينها وبينَ خبرِها الفعليِّ . وقد تقدَّم تحقيقُ ذلك كقوله : { وَأَلَّوِ اسْتَقَامُواْ } [ الجن : 16 ] { أَن لَّوْ نَشَآءُ أَصَبْنَاهُمْ } [ الأعراف : 100 ] .

وقال ابن عطية : " وذهب سيبويه إلى أنَّ " أَنْ " لا موضعَ لها من الإِعرابِ ، إنما هي مُؤْذِنَةٌ بجوابِ ما يُنَزَّلُ مَنْزِلَةَ القسمِ من الفعل الذي معناه التحقيقُ واليقينُ ؛ لأنَّ هذه الأفعالَ التي هي : تَحقَّقْتُ وَتَيَقَّنْتُ وعَلِمْتُ ونحوُها تَحُلُّ مَحَلَّ القَسَمِ ، ف " ما لَبِثُوا " جوابُ القسمِ لا جوابُ " لو " ، وعلى الأقوالِ الأُوَلِ يكون جوابَها " . قلت : وظاهرُ هذا أنها زائدةٌ لأنهم نَصُّوا على اطِّرادِ زيادتِها قبل " لو " في حَيِّزِ القسمِ . وللناسِ خلافٌ : هل الجوابُ للواوِ أو للقسمِ ؟ والذي يَقْتَضيه القياسُ أَنْ يُجابَ أَسْبَقُهما كما في اجتماعِه مع الشرطِ الصريحِ ما لم يتقدَّمْهما ذو خبرٍ ، كما تقدَّم بيانُه . وتقدَّم الكلامُ والقراءاتُ في سبأ في سورة النمل .