السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{فَلَمَّا قَضَيۡنَا عَلَيۡهِ ٱلۡمَوۡتَ مَا دَلَّهُمۡ عَلَىٰ مَوۡتِهِۦٓ إِلَّا دَآبَّةُ ٱلۡأَرۡضِ تَأۡكُلُ مِنسَأَتَهُۥۖ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ ٱلۡجِنُّ أَن لَّوۡ كَانُواْ يَعۡلَمُونَ ٱلۡغَيۡبَ مَا لَبِثُواْ فِي ٱلۡعَذَابِ ٱلۡمُهِينِ} (14)

ولما كان الموت مكتوباً على كل أحد قال تعالى : { فلما قضينا } وحقق صفة القدرة بأداة الاستعلاء بقوله تعالى : { عليه } أي : سليمان عليه السلام { الموت } قال أهل العلم : كان سليمان يتحنث في بيت المقدس السنة والسنتين والشهر والشهرين وأقل من ذلك وأكثر ، فيدخل فيه ومعه طعامه وشرابه فلما دنا أجله لم يصبح إلا رأى في محرابه شجرة نابتة قد أنطقها الله تعالى فسألها ما اسمك فتقول : كذا وكذا فيقول : لأي شيء خلقت فتقول : لكذا وكذا فيؤمر بها فتقلع فإن كانت تنبت لغرس غرسها ، وإن كانت تنبت لدواء كتب ذلك حتى نبتت الخروبة فقال لها : ما أنت قالت : الخروبة قال : لأي شيء نبت قالت : لخراب مسجدك قال عليه السلام : ما كان الله ليخربه وأنا حي ، أنت التي على وجهك هلاكي وخراب بيت المقدس فنزعها وغرسها في حائط له ثم قال : اللهم عم على الجن موتي حتى تعلم الإنس أن الجن لا يعلمون الغيب ، لأنهم كانوا يسترقون السمع ويموهون على الناس أنهم يعلمون الغيب وقال لملك الموت : إذا أمرت بي فأعلمني فقال : أمرت بك وقد بقيت من عمرك ساعة فدعا الشياطين فبنوا عليه صرحاً من قوارير ليس له باب فقام يصلي متكئاً على عصاه فقبض الله روحه وهو متكئ عليها ، وكانت الشياطين تجتمع حول محرابه أينما صلى ، وكان للمحراب كوى بين يديه وخلفه فكانت الجن تعمل الأعمال الشاقة التي كانوا يعملونها في حياته ، وينظرون إلى سليمان عليه السلام فيرونه قائماً متكئاً على عصاه فيحسبونه حياً فلا ينكرون خروجه إلى الناس لطول صلاته ، فمكثوا يدأبون له بعد موته حولاً كاملاً حتى أكلت الأرضة عصا سليمان فخر ميتاً فعلموا بموته حينئذ كما قال تعالى { ما دلهم على موته إلا دابة الأرض } أي : الأرضة لأنا جعلنا له من سعة العلم ووفور الهيبة ونفوذ الأمر ما تمكن به من إخفاء موته عنهم { تأكل منسأته } قال البخاري : يعني عصاه فالمنسأة العصا اسم آلة من نسأه أخره كالمكسحة والمكنسة من نسأت الغنم أي : زجرتها وسقتها ، ومنه نسأ الله في أجله أي : أخره وقرأ نافع وأبو عمرو بعد السين بألف وابن ذكوان بعد السين بهمزة ساكنة والباقون بهمزة مفتوحة بعد السين فإذا وقف حمزة سهل الهمزة وقيل لم يكن شيطان ينظر إليه في صلاته إلا احترق فمر به شيطان فلم يسمع صوته ، ثم رجع فلم يسمع فنظر فإذا سليمان قد خر ميتاً ففتحوا عنه فإذا العصا قد أكلتها الأرضة { فلما خر } أي : سقط على الأرض بعد أن قصمت الأرضة عصاه { تبينت الجن } أي : علمت علماً بيناً لا يقدرون معه على تدبيج وتلبيس وانفضح أمرهم وظهر ظهوراً تاماً { أن } أي : أنهم { لو كانوا } أي : الجن { يعلمون الغيب } أي : علمه { ما لبثوا } أي : أقاموا حولاً { في العذاب المهين } من ذلك العمل الذي كانوا مسخرين فيه ، ويجوز أن تكون أن تعليلية ويكون التقدير : تبين حال الجن فيما يظن بهم من أنهم يعلمون الغيب لأنهم إلخ ، وسبب علمهم مدة كونه ميتاً قبل ذلك أنهم وضعوا الأرضة على موضع من العصا فأكلت منها يوماً وليلة مقداراً ، وحسبوا على ذلك النحو فوجدوا المدة سنة قال ابن عباس : فشكر الجن الأرضة فهم يأتونها بالماء والطين في جوف الخشب .

تنبيه : قد تقدم أن كل شيء أثبت لمن قبل نبينا صلى الله عليه وسلم من الأنبياء عليهم السلام من الخوارق ثبت له مثله وأعظم منه إما له نفسه أو لأحد من أمته ، وهذا الذي ذكر لسليمان عليه السلام من حفظه بعد موته سنة لا يميل قد ثبت مثله لشخص من هذه الأمة من غير شيء يعتمد عليه ، قال القشيري في رسالته في باب أحوالهم عند الخروج من الدنيا ، وقال أبو عمران الإصطخري : رأيت أبا تراب في البادية قائماً ميتاً لا يمسكه شيء انتهى .

فائدة : روي أن سليمان عليه السلام كان عمره ثلاثاً وخمسين سنة ، ومدة ملكه أربعون سنة ، وملك يوم ملك وهو ابن ثلاث عشرة سنة وابتدأ في بناء بيت المقدس لأربع سنين مضين من ملكه ، وروي أن داود عليه السلام أسس بناء بيت المقدس في موضع فسطاط موسى عليه السلام فمات قبل أن يتم فوصى به إلى سليمان عليه السلام فأمر الشياطين بإتمامه .

ولما بقي من عمله سنة سأل الله تعالى أن يعمي عليهم موته حتى يفرغوا منه ، وليبطل دعواهم علم الغيب ، وروي أن إفريدون جاء ليصعد كرسيه فلما دنا منه ضرب الأسدان ساقه فكسراها فلم يجسر أحد بعد يدنو منه .