البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{فَلَمَّا قَضَيۡنَا عَلَيۡهِ ٱلۡمَوۡتَ مَا دَلَّهُمۡ عَلَىٰ مَوۡتِهِۦٓ إِلَّا دَآبَّةُ ٱلۡأَرۡضِ تَأۡكُلُ مِنسَأَتَهُۥۖ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ ٱلۡجِنُّ أَن لَّوۡ كَانُواْ يَعۡلَمُونَ ٱلۡغَيۡبَ مَا لَبِثُواْ فِي ٱلۡعَذَابِ ٱلۡمُهِينِ} (14)

المنسأة : العصى تهمز ولا تهمز ، ووزنها مفعلة ، من نسأت : أي أخرت وطردت ؛ ويقال : منساءة بالمد والهمز على وزن مفعالة ، كما قالوا : ميضاءة وميضاة ، وقال الشاعر :

ضربنا بمنساءة وجهه *** فصار بذاك مهيناً ذليلاً

وقال آخر

إذا دببت على المنساة من هرم *** فقد تباعد عنك اللهو والغزل

وقياس تخفيف همزتها أن يكون بين بين ، وأما إبدالها ألفاً أو حذفها فغير قياس .

{ فلما قضينا عليه الموت } : أي أنفذنا عليه ما قضينا عليه في الأزل من الموت ، وأخرجناه إلى حيز الوجود ، وجواب لما النفي الموجب ، وهذا يدل على أن لما حرف لا ظرف ، خلافاً لمن زعم ذلك ، لأنه لو كان ظرفاً لكان الجواب هو العامل وما دخلت عليه ، وهي نافية ، ولا يعمل ما قبلها فيما بعدها ، وقد مضى لنا نظير هذا في يوسف في قوله : { ولما دخلوا من حيث أمرهم أبوهم ما كان يغني عنهم من الله من شيء } فالضمير في { دلهم } عائد على الجن الذين كانوا يعملون له ، وكان سليمان قد أمر الجن ببناء صرح له ، فبنوه له .

ودخله مختلياً ليصفو له يوم من الدهر من الكدر ، فدخل عليه شاب فقال له : كيف دخلت عليّ بغير إذن ؟ فقال : إنما دخلت بإذن ، قال : ومن أذن لك ؟ قال : رب هذا الصرح .

فعلم أنه ملك الموت أتى بقبض روحه ، فقال : سبحان الله ، هذا اليوم الذي طلبت فيه الصفا ، فقال له : طلبت ما لم يخلق ، فاستوثق من الاتكاء على العصا ، فقبض روحه ، وبقيت الجن تعمل على عادتها .

وكان سليمان قصد تعمية موته ، لأنه كان بقي من تمام بناء المسجد عمل سنة ، فسأل الله تمامها على يد الإنس والجن ، وكان يخلو بنفسه الشهرين والثلاثة ، فكانوا يقولون : إنه يتحنث .

وقيل : إن ملك الموت أعلمه أنه بقي من حياته ساعة ، فدعا الشياطين فبنوا له الصرح ، وقام يصلي متكئاً على عصاه ، فقبض روحه وهو متكىء عليها .

وكانت الشياطين تجتمع حول محرابه ، فلا ينظر أحد منهم إليه في صلاته إلا احترق ، فمر واحد منهم فلم يسمع صوته ، ثم رجع فلم يسمع ، فنظر فإذا هو قد خر ميتاً ، وكأن عمره ثلاثاً وخمسين سنة .

ملك بعد موت أبيه وهو ابن ثلاث عشرة سنة ، وكان أبوه قد أسس بنيان المسجد موضع بساط موسى ، فمات قبل أن يتمه ، ووصى به ابنه ، فأمر الشياطين بإتمامه ، ومات قبل تمامه .

و { دابة الأرض تأكل } : هي سوسة الخشب ، وهي الأرضة .

وقيل : ليست سوسة الخشب ، لأن السوسة ليست من دواب الأرض ، بل هذه حيوان من الأرض شأنه أن يأكل الخشب ، وذلك موجود .

وقالت فرقة ، منها أبو حاتم : الأرض هنا مصدر أرضت الأبواب ، والخشب أكلتها الأرضة فكأنه قال : دابة الأكل الذي هو بتلك الصورة .

وإذا كان الأرض مصدراً ، كان فعله أرضت الدابة الخشب تأرضه أرضاً فأرض بكسر الراء نحو : جدعت أنفه فجدع .

ويقال : إنه مصدر لفعل مفتوح العين ، قراءة ابن عباس .

والعباس بن الفضل : الأرض بفتح الراء ، لأن مصدر فعل المطاوع لفعل يكون على فعل نحو : جدع أنفه جدعاً وأكلت الأسنان أكلاً ، مطاوع أكلت .

وقيل : الأرض بفتح الراء جمع أرضه ، وهو من إضافة العام إلى الخاص ، لأن الدابة أعم من الأرض .

وقراءة الجمهور : بسكون الراء ، فالمتبادر أنها الأرض المعروفة ، وتقدم أنها مصدر لأرضت الدابة الخشب .

وتأكل : حال ، أي أكلت منسأته ، وهي حال مصاحبة .

وتقدم أن المنسأة هي العصا ، وكانت فيما روي من خرنوب ، وذلك أنه كان يتعبد في بيت المقدس ، فتنبت له في محرابه كل سنة شجرة تخبره بمنافعها فيأمر فتقلع ، ويتصرف في منافعها ، وتغرس لتتناسل .

فلما قرب موته ، نبتت شجرة وسألها فقالت : أنا الخرنوب ، خرجت لخراب ملكك ، فعرف أنه حضر أجله ، فاستعد واتخذ منها عصاً واستدعى بزاد سنة ، والجن تتوهم أنه يتغذى بالليل .

وروي أن سليمان كان في قبة ، وأوصى بعض أهله بكتمان موته عن الإنس والجن سنة ليتم البناء الذي بدىء في زمن داود ، فلما مضى لموته سنة ، خر عن العصا ونظر إلى مقدار ما تأكله الأرضة يوماً وقيس عليه ، فعلم أنها أكلت العصا منه سنة .

وقرأ نافع ، وأبو عمرو ، وجماعة : منساته بألف ، وأصله منسأته ، أبدلت الهمزة ألفاً بدلاً غير قياسي .

وقال أبو عمرو : أنا لا أهمزها لأني لا أعرف لها اشتقاقاً ، فإن كانت مما لا تهمز ، فقد احتطت ، وإن كانت تهمز ، فقد يجوز لي ترك الهمزة فيما يهمز .

وقرأ ابن ذكوان وجماعة ، منهم بكار والوليدان بن عتبة وابن مسلم : منسأته ، بهمزة ساكنة ، وهو من تسكين التحريك تخفيفاً ، وليس بقياس .

وضعف النحاة هذه القراءة ، لأنه يلزم فيها أن يكون ما قبل التأنيث ساكناً غير الفاء .

وقيل : قياسها التخفيف بين بين ، والراوي لم يضبط ، وأنشد هارون بن موسى الأخفش الدمشقي شاهداً على سكون هذه القراءة قول الراجز :

صريع خمر قام من وكأته *** كقومة الشيخ إلى منسأته

وقرأ باقي السبعة بالهمز مفتوحة ، وقرىء بفتح الميم وتخفيف الهمزة قلباً وحذفاً ، وعلى وزن مفعالة : منساءة .

وقرأت فرقة ، منهم عمر بن ثابت ، عن ابن جبير : مفصولة حرف جر وسأته بجر التاء ، قيل : ومعناه من عصاه ، يقال لها : ساة القوس وسيتها معاً ، وهي يدها العليا والسفلى ، سميت العصا ساة القوس على الاستعارة ، ولا سيما إن صح النقل أنه اتخذها من شجر الخروب قبل موته ، فيكون حين اتكأ عليها ، وهي كما قطعت من شجرة خضراء ، قد اعوجت حتى صارت كالقوس .

ألا ترى أنك إذا اتكأت على غصن أخضر كيف يعوج حتى يكاد يلتقي طرفاه ؟ فيها لغتان : ساة وسية ، كما يقال : قحة وقحاة ، والمحذوف من ساة وسية .

{ فلما خر } : أي سقط عن العصا ميتاً ، والظاهر أن الضمير في خر عائد على سليمان .

وقيل : إن لم يمت إلى أن وجد في سفر مضطجعاً ، ولكنه كان في بيت مبني عليه ، وأكلت الأرضة عتبة الباب حتى خر الباب ، فعلم موته .

وقال ابن عباس : مات في متعبده على فراشه ، وقد أغلق الباب على نفسه فأكلت الأرضة المنسأة ، أي عتبة الباب ، فلما خر ، أي الباب .

انتهى ، وهذا فيه ضعف ، لأنه لو كانت المنسأة هي العتبة ، وعاد الضمير عليها ، لكان التركيب : فلما خرت ، بتاء التأنيث ، ولا يجيء حذف مثل هذه التاء إلا في ضرورة الشعر ، ولا يكون من ذكر المعنى على معنى العود لأنه قليل .

وقرأ الجمهور : تبينت ، مبنياً للفاعل ، فاحتمل أن يكون من تبين بمعنى بان ، أي ظهرت الجن ، والجن فاعل ، وإن وما بعدها بدل من الجن .

كما تقول : تبين زيد جهله ، أي ظهر جهل زيد ، فالمعنى : ظهر للناس جهل الجن علم الغيب ، وأن ما ادعوه من ذلك ليس بصحيح .

واحتمل أن يكون من تبين بمعنى علم وأدرك ، والجن هنا خدم الجن ، وضعفتهم { أن لو كانوا } : أي لو كان رؤساؤهم وكبراؤهم يعلمون الغيب ، قاله قتادة .

وقال الزمخشري : أو علم المدعون علم الغيب منهم عجزهم ، وأنهم لا يعلمون الغيب ، وإن كانوا عالمين قبل ذلك بحالهم ، وإنما أريد بهم التهكم كما يتهكم بمدعي الباطل إذا دحضت حجته وظهر إبطاله ، كقولك : هل تبينت أنك مبطل وأنت لا تعلم أنه لم يزل لذلك متبيناً ؟ انتهى .

ويجىء تبين بمعنى بان وظهر لازماً ، وبمعنى علم متعدياً موجود في كلام العرب .

قال الشاعر :

تبين لي أن القماءة ذلة *** وأن أعزاء الرجال طيالها

وقال آخر :

أفاطم إني ميت فتبيني *** ولا تجزعي على الأنام بموت

أي : فتبيني ذلك ، أي اعلميه .

وقال ابن عطية : ذهب سيبويه إلى أن أن لا موضع لها من الإعراب ، إنما هي موزونة ، نحو : إن ما ينزل القسم من الفعل الذي معناه التحقيق واليقين ، لأن هذه الأفعال التي هي تحققت وتيقنت وعلمت ونحوها تحل محل القسم .

فما لبثوا : جواب القسم ، لا جواب لو .

وعلى الأقوال ، الأول جواب لو .

وفي كتاب النحاس إشارة إلى أنه يقرأ : { تبينت الجن } ، بنصب الجن ، أي تبينت الإنس الجن ، والمعنى : أن الجن لو كانت تعلم الغيب ما خفى عليها موته ، أي موت سليمان .

وقد ظهر أنه خفي عليها بدوامها في الخدمة والضعة وهو ميت .

وقرأ ابن عباس ، فيما ذكر ابن خالويه ويعقوب بخلاف عنه : تبينت مبنياً للمفعول ؛ وعن ابن عباس ، وابن مسعود ، وأبيّ ، وعلي بن الحسن ، والضحاك قراءة في هذا الموضع مخالفة لسواد المصحف ولما روي عنهم ، ذكرها المفسرون ، أضرب عن ذكرها صفحاً على عادتنا في ترك نقل الشاذ الذي يخالف للسواد مخالفة كثيرة .