الهداية إلى بلوغ النهاية لمكي بن ابي طالب - مكي ابن أبي طالب  
{فَلَمَّا قَضَيۡنَا عَلَيۡهِ ٱلۡمَوۡتَ مَا دَلَّهُمۡ عَلَىٰ مَوۡتِهِۦٓ إِلَّا دَآبَّةُ ٱلۡأَرۡضِ تَأۡكُلُ مِنسَأَتَهُۥۖ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ ٱلۡجِنُّ أَن لَّوۡ كَانُواْ يَعۡلَمُونَ ٱلۡغَيۡبَ مَا لَبِثُواْ فِي ٱلۡعَذَابِ ٱلۡمُهِينِ} (14)

قوله تعالى ذكره : { فلما قضينا عليه الموت }14 إلى قوله : { إلا فريقا من المومنين }20 .

أي : فلما جاء أجل سليمان فمات ، ما دل الجن على موته إلا دابة الأرض ، وهي الأرضة وقعت في عصاه التي كان متكئا عليها فأكلتها وهي المنسأة .

قال قتادة : أكلت عصاه حتى خر{[55852]} .

وهو قول ابن عباس ومجاهد{[55853]} وغيرهما{[55854]} .

وأصل المنسأة الهمز لأنها مشتقة من نسأت الدابة إذا ضربتها بعصا أو غيرها لتسير{[55855]} .

ولكن نافعا وأبا عمرو أبدلا من الهمزة ألفا لغة مسموعة{[55856]} وليس البدل في نحو هذا بالمطرد إلا في الشعر .

وقد كان أبو عمرو يقول : لست أدري مم هي إلا أنها غير مهموزة{[55857]} . فرأى ترك همزها على طريق الاحتياط مع نقله ذلك عن أئمته أولا وإنما كان ترك الهمزة للاحتياط إذ جهل الاشتقاق لأن كل ما يهمز يجوز ترك همزه وليس كل ما لا يهمز يجوز همزه .

ثم قال : { فلما خر تبينت الجن } أي : فلما سقط سليمان عند انكسار العصا تبينت الجن .

{ أن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين } أي : علم أن الجن لم تكن تعلم الغيب لأنها لو كانت تعلم الغيب ما بقيت في العمل ، والتعب لسليمان وهو ميت .

قال قتادة : كانت الجن تخبر الإنس أنهم يعلمون الغيب ، فلما مات سليمان ولم تعلم الجن بموته وبقيت في السخرة بجهد طائعة لميت عاملة له ، فعند ذلك تبينت الجن للإنس أنهم لا يعلمون الغيب{[55858]} وروى ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " كان سليمان نبي الله إذا صلى رأى شجرة نابتة بين يديه فيسألها ما اسمك ؟ فإن كانت تغرس غرست وإن كانت لدواء فبينما هو يصلي ذات يوم إذا شجرة نابتة بين يديه فقال : ما اسمك ؟ قالت الخروب فقال لأي شيء أنت ؟ قالت : لخراب أهل هذا البيت ، فقال : اللهم عم على الجن موتي حتى تعلم الإنس أن الجن لا يعلمون الغيب فنحتها عصا فتوكأ عليها حولا ، ومات وهو متوكئ وهم لا يعلمون ، فسقطت فعلم أن الجن لا يعلمون الغيب ، فنظروا مقدار ذلك فوجدوه سنة فشكرت الجن الأرضة " {[55859]} .

وفي مصحف عبد الله : " تبينت الإنس أن لو كان الجن يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين " {[55860]} .

وأن في قوله : " أن لو كانوا " في موضع رفع على البدل من الجن{[55861]} وقيل : هي في موضع نصب على معنى بأن{[55862]} .

قيل : المعنى : فلما خر تبين أمر الجن ، فأن بدل من الأمر على المعنى{[55863]} .

وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث طويل : " أن سليمان كان يتجرد{[55864]} في بيت المقدس السنة والسنتين والشهر والشهرين وأقل وأكثر ، يدخل طعامه وشرابه ، فأدخله في المرة التي مات فيها ، فمات متكئا على عصاه لا يعلم أحد بذلك والشياطين يعملون له يخافون أن يخرج فيعاقبهم وكانت الشياطين تجتمع حول المحراب وكان المحراب له كوى بين يديه ومن خلفه فدخل شيطان من أولئك فمر ولم يكن شيطان ينظر إلى سليمان في المحراب إلا احترق فمر ولمم يسمع صوت سليمان ثم رجع ولم يسمع ثم رجع فوقع في البيت ولم يحترق ، ونظر إلى سليمان قد سقط ميتا فخرج فأخبر الناس أن سليمان قد مات ففتحوا عليه فأخرجوه ووجدوا منسأته وهي العصا بلسان الحبش ، قد أكلتها الأرضة ولم يعلموا منذ كم مات ، فوضعوا الأرضة على العصا فأكلت منها يوما وليلة ثم حسبوا على ذلك النحو ، فوجدوه قد مات منذ سنة " {[55865]}

وروي أن الجن كانت تظن أن الشياطين كانوا يعلمون الغيب فأحب الله أن يبين لهم الغيب لا يعلمه غيره ، فمات سليمان صلى الله عليه وسلم وهو متكئ على عصاه والشياطين دائبة في العمل له وفي الطاعة ، فأقام أربعين يوما متكئا على العصا فبعث الله عز وجل الأرضة وهي السوسة فأكلت العصا فانكسرت فخر سليمان ، فلما خر تبينت الجن أن الشياطين لا يعلمون الغيب ، إذ لو كانوا يعلمون الغيب لعلموا وقت موت سليمان ولم يتمادوا في العمل والسخرة له وهو ميت .

ويروى أن الشياطين قالت للأرضة لو كنت تأكلين الطعام أتيناك بأطيب الطعام ، ولو كنت تشربين الشراب سقيناك أطيب الشراب/ ، ولكننا سننقل إليك الماء والطين فهم ينقلون لها لك حيث كانت ، وذلك هو الطين الذي يكون في جوف الخشب تأتيها به الشياطين شكرا لها{[55866]} .

وذكر ابن وهب عن أبي شهاب : أنه لما توفي داود عليه السلام أقبلت الطير فصفت عليه حتى حبست عن الناس الروح{[55867]} ووجدوا غما شديدا فقالوا لسليمان : يا نبي الله هلكنا الغنم ، وأمر سليمان الطير فقبضت جناحا وأرسلت جناحا فدخل عليهم الروح .


[55852]:انظر: جامع البيان 22/73
[55853]:انظر: المصدر السابق
[55854]:هو قول ابن زيد والسدي أيضا في جامع البيان 22/73
[55855]:انظر: مجاز أبي عبيدة 2/145 وغريب القرآن لابن المبارك 146 واللسان مادة "نسأ" 1/169
[55856]:انظر: السبعة لابن مجاهد 527 والحجة لأبي زرعة 584 والتيسير للداني 180 إذ قرأ أبو عمرو: منساته "بغير همز ـ وأورده ابن جني في المحتسب 2/186 قراءة ثالثة عزاها إلى سعيد بن جبير إذ قرأ هذا الآخير "من سأته" منفصلة وقراءة رابعة لابن مسعود إذ قرأ : "اكلت منسأته" وقراءة خامسة لأبي إذ قرأ "منسيته"
[55857]:انظر: إعراب النحاس 3/337 والمحتسب 2/187 حيث أورد ابن جني تعليلا لهذه القراءة رواه أبو حاتم من طريق ابن أبي إسحاق عن أبي عمرو حيث إن ابن أبي إسحاق سأل أبا عمرو: لم تركت همز "منساته"؟ فقال: وجدت لها في كتاب الله أمثالا: {هم خير البريئة} البينة: 7 {لترون الجحيم} التكاثر، وشرح ابن جني ذلك" بقوله: "قول ابن عمرو "خير البرية" "ولترون" يريد أن "البرية" من برأ الله الخلق فترك همزها تخفيفا وكذلك "لترون" يريد تخفيف همز ترى لأن أصلها ترأى فاجتمع على تخفيف الهمزتين في الموضعين ولا يريد أن واو "لترون" غير مهموزة وذلك لأن همز هذه الواو لضمتها شاذ من حيث كانت الحركة لالتقاء الساكنين وليست بلازمة: انظر: المحتسب 2/187
[55858]:انظر: جامع البيان 22/74 والدر المنثور 6/684
[55859]:أخرجه الحاكم في مستدركه وقال: "هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه" 2/402 وأورده علاء الدين علي المتقي في كنز العمال 3029 والطبري في جامع البيان 22/74 والسيوطي في الدر المنثور 6/683
[55860]:أورد ابن جني رواية لمعمر عن قتادة مفادها ان في مصحف عبد الله "تبينت الإنس أن الجن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا" انظر: المحتسب 2/188 والملاحظ أن هناك تقديما وتأخيرا في نص القراءة التي نسبها مكي إلى عبد الله وبين ما أورده ابن جني في المحتسب إلا أن القرطبي أورد هذه القراءة في الجامع 14/279 بنفس اللفظ الذي وردت به عند مكي وعزاها القرطبي إلى ابن مسعود وابن عباس.
[55861]:انظر: مشكل الإعراب لمكي 2/285
[55862]:المصدر السابق
[55863]:انظر: التبيان للعكبري 2/1065
[55864]:جاء في اللسان مادة "جرد" 3/117 تجرد للأمر جد فيه وكذلك تجرد في سيره وانجرد... وإذا جد الرجل في سيره فمضى يقال: انجرد فذهب وإذا جد في القيام بأمر قيل تجرد لأمر كذا وتجرد للعبادة"
[55865]:هذا الحديث من رواية السدي عن ابن مسعود اورده الطبري في جامع البيان 22/75 وتاريخ الأمم والملوك، 1/261، وابن كثير في تفسيره 3/531 والسيوطي في الدر المنثور 6/682 وورد أيضا في تفسير ابن مسعود 2/512
[55866]:انظر: جامع البيان 22/75 وتفسير ابن كثير 3/531 والدر المنثور 683 وتفسير ابن مسعود 2/514 وهذه الرواية منسوبة إلى السدي عن ابن مسعود
[55867]:الروح: برد نسيم الريح، وقيل نسيم الريح انظر: اللسان مادة روح 2/455