قوله تعالى : { وبينهما حجاب } ، يعني : بين الجنة والنار ، وقيل : بين أهل الجنة وبين أهل النار حجاب ، وهو السور الذي ذكر الله تعالى في قوله : { فضرب بينهم بسور له باب } [ الحديد : 13 ] .
قوله تعالى : { وعلى الأعراف رجال } ، والأعراف هي ذلك السور الذي بين الجنة والنار ، وهي جمع عرف ، وهو اسم للمكان المرتفع ، ومنه عرف الديك لارتفاعه عما سواه من جسده . وقال السدي : سمي ذلك السور أعرافاً لأن أصحابه يعرفون الناس . واختلفوا في الرجال الذين أخبر الله عنهم على الأعراف : فقال حذيفة وابن عباس : هم قوم استوت حسناتهم وسيئاتهم ، فقصرت بهم سيئاتهم عن الجنة ، وتجاوزت بهم حسناتهم عن النار ، فوقفوا هناك حتى يقضي الله فيهم ما يشاء ، ثم يدخلون الجنة بفضل رحمته ، وهم آخر من يدخل الجنة .
أخبرنا أبو بكر محمد بن عبد الله بن أبي توبة ، ثنا أبو طاهر محمد بن أحمد بن الحارث ، ثنا محمد بن يعقوب الكسائي ، ثنا عبد الله بن محمود ، ثنا إبراهيم بن عبد الله الخلال ، ثنا عبد الله بن المبارك ، عن أبي بكر الهذلي قال : قال سعيد بن جبير ، يحدث عن ابن مسعود قال : " يحاسب الناس يوم القيامة فمن كانت حسناته أكثر من سيئاته بواحدة دخل الجنة ، ومن كانت سيئاته أكثر من حسناته بواحدة دخل النار ، ثم قرأ قول الله تعالى : { فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم } [ الأعراف : 8-9 ] . ثم قال : إن الميزان يخف بمثقال حبة أو يرجح . قال : ومن استوت حسناته وسيئاته كان من أصحاب الأعراف ، فوقفوا على الصراط ، ثم عرفوا أهل الجنة وأهل النار ، فإذا نظروا إلى أهل الجنة نادوا سلام عليكم ، وإذا صرفوا أبصارهم إلى أصحاب النار قالوا { ربنا لا تجعلنا مع القوم الظالمين } ، فأما أصحاب الحسنات فإنهم يعطون نورًا يمشون به بين أيديهم وبأيمانهم ، ويعطى كل عبد يومئذ نورًا ، فإذا أتوا على الصراط سلب الله نور كل منافق ومنافقة ، فلما رأى أهل الجنة ما لقي المنافقون قالوا { ربنا أتمم لنا نورنا } . فأما أصحاب الأعراف فإن النور لم ينزع من بين أيديهم ، ومنعتهم سيئاتهم أن يمضوا ، فبقي في قلوبهم الطمع إذ لم ينزع النور من بين أيديهم ، فهنالك يقول الله : { لم يدخلوها وهم يطمعون } ، وكان الطمع النور الذي بين أيديهم ، ثم أدخلوا الجنة ، وكانوا آخر أهل الجنة دخولاً . وقال شرحبيل بن سعد : أصحاب الأعراف قوم خرجوا في الغزو بغير إذن آبائهم . ورواه مقاتل في تفسيره مرفوعًا قال : هم رجال غزوا في سبيل الله عصاة لآبائهم ، فقتلوا ، فأعتقوا من النار بقتلهم في سبيل الله ، وحبسوا عن الجنة بمعصية آبائهم ، فهم آخر من يدخل الجنة . وروي عن مجاهد : أنهم أقوام رضي عنهم أحد الأبوين دون الآخر يحبسون على الأعراف إلى أن يقضي الله بين الخلق ، ثم يدخلون الجنة . وقال عبد العزيز بن يحيى الكتاني : هم الذين ماتوا في الفترة ولم يبدلوا دينهم ، وقيل : هم أطفال المشركين ، وقال الحسن : هم أهل الفضل من المؤمنين ، علوا على الأعراف فيطلعون على أهل الجنة وأهل النار جميعًا ، ويطالعون أحوال الفريقين .
قوله تعالى : { يعرفون كلا بسيماهم } ، أي يعرفون أهل الجنة ببياض وجوههم وأهل النار بسواد وجوههم .
قوله تعالى : { ونادوا أصحاب الجنة أن سلام عليكم } ، أي : إذا رأوا أهل الجنة قالوا سلام عليكم .
قوله تعالى : { لم يدخلوها } ، يعني : أصحاب الأعراف لم يدخلوا الجنة .
قوله تعالى : { وهم يطمعون } ، في دخولها ، قال أبو العالية : ما جعل الله ذلك الطمع فيهم إلا كرامة يريد بهم ، قال الحسن : الذي جعل الطمع في قلوبهم يوصلهم إلى ما يطمعون .
{ 46 - 49 } { وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ وَعَلَى الْأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيمَاهُمْ وَنَادَوْا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ * وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَاءَ أَصْحَابِ النَّارِ قَالُوا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ * وَنَادَى أَصْحَابُ الْأَعْرَافِ رِجَالًا يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ قَالُوا مَا أَغْنَى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ * أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لَا يَنَالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ }
أي : وبين أصحاب الجنة وأصحاب النار حجاب يقال له : { الأَعْرَاف } لا من الجنة ولا من النار ، يشرف على الدارين ، وينظر مِنْ عليه حالُ الفريقين ، وعلى هذا الحجاب رجال يعرفون كلا من أهل الجنة والنار بسيماهم ، أي : علاماتهم ، التي بها يعرفون ويميزون ، فإذا نظروا إلى أهل الجنة نَادَوْهم { أَنْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ } أي : يحيونهم ويسلمون عليهم ، وهم - إلى الآن - لم يدخلوا الجنة ، ولكنهم يطمعون في دخولها ، ولم يجعل اللّه الطمع في قلوبهم إلا لما يريد بهم من كرامته .
ثم يتوجه النظر إلى المشهد من ظاهره . فإذا هنالك حاجز يفصل بين الجنة والنار ؛ عليه رجال يعرفون اصحاب الجنة وأصحاب النار بسيماهم وعلاماتهم . . فلننظر من هؤلاء ، وما شأنهم مع أصحاب الجنة وأصحاب النار ؟
( وبينهما حجاب ، وعلى الأعراف رجال يعرفون كلا بسيماهم . ونادوا أصحاب الجنة : أن سلام عليكم . . لم يدخلوها وهم يطمعون . وإذا صرفت أبصارهم تلقاء أصحاب النار قالوا : ربنا لا تجعلنا مع القوم الظالمين . ونادى أصحاب الأعراف رجالاً يعرفونهم بسيماهم ، قالوا : ما أغنى عنكم جمعكم وما كنتم تستكبرون . أهؤلاء الذين أقسمتم لا ينالهم الله برحمة ؟ ادخلوا الجنة لا خوف عليكم ولا أنتم تحزنون ) . .
روي أن هؤلاء الرجال الذين يقفون على الأعراف - الحجاب الحاجز بين الجنة والنار - جماعة من البشر ، تعادلت حسناتهم وسيئاتهم ، فلم تصل بهم تلك إلى الجنة مع أصحاب الجنة ، ولم تؤد بهم هذه إلى النار مع أصحاب النار . . وهم بين بين ، ينتظرون فضل الله ويرجون رحمته . . وهم يعرفون أهل الجنة بسيماهم - ربما ببياض الوجوه ونضرتها أو بالنور الذي يسعى بين أيديهم وبأيمانهم - ويعرفون أهل النار بسيماهم - ربما بسواد الوجوه وقترتها ، أو بالوسم الذي على أنوفهم التي كانوا يشمخون بها في الدنيا ، كالذي جاء في سورة القلم : ( سنسمه على الخرطوم ) ! وها هم أولاء يتوجهون إلى أهل الجنة بالسلام . . يقولونها وهم يطمعون أن يدخلهم الله الجنة معهم ! . . .
لما ذكر تعالى مخاطبة أهل الجنة مع أهل النار ، نَبَّه أن بين الجنة والنار حجابًا ، وهو الحاجز المانع من وصول أهل النار إلى الجنة .
قال ابن جرير : وهو السور الذي قال الله تعالى : { فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ } [ الحديد : 13 ] وهو الأعراف الذي قال الله تعالى : { وَعَلَى الأعْرَافِ رِجَالٌ }
ثم روي بإسناده عن السدي أنه قال في قوله [ تعالى ]{[11752]} { وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ } وهو " السور " ، وهو " الأعراف " .
وقال مجاهد : الأعراف : حجاب بين الجنة والنار ، سور له باب . قال ابن جرير : والأعراف جمع " عُرْف " ، وكل مرتفع من الأرض عند العرب يسمى " عرفًا " ، وإنما قيل لعرف الديك عرفًا لارتفاعه .
وحدثنا سفيان بن وَكِيع ، حدثنا ابن عيينة ، عن عُبَيد الله بن أبي يزيد ، سمع ابن عباس يقول : الأعراف هو الشيء المشرف .
وقال الثوري ، عن جابر ، عن مجاهد ، عن ابن عباس قال : الأعراف : سور كعُرْف الديك .
وفي رواية عن ابن عباس : الأعراف ، تل بين الجنة والنار ، حبس عليه ناس من أهل الذنوب بين الجنة والنار . وفي رواية عنه : هو سور بين الجنة والنار . وكذلك قال الضحاك وغير واحد من علماء التفسير .
وقال السدي : إنما سمي " الأعراف " أعرافًا ؛ لأن أصحابه يعرفون الناس .
واختلفت عبارات المفسرين في أصحاب الأعراف من هم ، وكلها قريبة ترجع إلى معنى واحد ، وهو أنهم قوم استوت حسناتهم وسيئاتهم . نص عليه حذيفة ، وابن عباس ، وابن مسعود ، وغير واحد من السلف والخلف ، رحمهم الله . وقد جاء في حديث مرفوع رواه الحافظ أبو بكر بن مَرْدُوَيه :
حدثنا عبد الله بن إسماعيل ، حدثنا عبيد بن الحسين ، حدثنا سليمان بن داود ، حدثنا النعمان بن عبد السلام ، حدثنا شيخ لنا يقال له : أبو عباد ، عن عبد الله بن محمد بن عقيل ، عن جابر بن عبد الله قال : سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عمن استوت حسناته وسيئاته ، فقال : " أولئك أصحاب الأعراف ، لم يدخلوها وهم يطمعون " .
وهذا حديث غريب من هذا الوجه{[11753]} ورواه من وجه آخر ، عن سعيد بن سلمة عن أبي الحسام ، عن محمد بن المنكدر عن رجل من مزينة قال : سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أصحاب الأعراف ، فقال : " إنهم قوم خرجوا عصاة بغير إذن آبائهم ، فقتلوا في سبيل الله " {[11754]}
وقال سعيد بن منصور : حدثنا أبو مَعْشَر ، حدثنا يحيى بن شِبْل ، عن يحيى بن عبد الرحمن المزني{[11755]} عن أبيه قال : سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن " أصحاب الأعراف " فقال : " هم ناس{[11756]} قتلوا في سبيل الله بمعصية آبائهم ، فمنعهم من دخول الجنة معصية آبائهم ومنعهم النار{[11757]} قتلهم في سبيل الله " .
هكذا رواه ابن مَرْدُوَيه ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم من طرق ، عن أبي معشر به{[11758]} وكذلك{[11759]} رواه ابنُ ماجه مرفوعًا ، من حديث ابن عباس وأبي سعيد الخدري{[11760]} [ رضي الله عنهما ]{[11761]} والله أعلم بصحة هذه الأخبار المرفوعة وقصاراها أن تكون موقوفة وفيه دلالة على ما ذكر .
وقال ابن جرير : حدثني يعقوب ، حدثنا هُشَيْم ، أخبرنا حصين ، عن الشعبي ، عن حذيفة ؛ أنه سئل عن أصحاب الأعراف ، قال : فقال : هم قوم استوت حسناتهم وسيئاتهم ، فقعدت بهم سيئاتهم عن الجنة ، وخلَّفت بهم حسناتهم عن النار . قال : فوقفوا هناك{[11762]} على السور حتى يقضي الله فيهم . {[11763]}
وقد رواه من وجه آخر أبسط{[11764]} من هذا فقال :
حدثنا ابن حُمَيد ، حدثنا يحيى بن واضح ، حدثنا يونس بن أبي إسحاق قال : قال الشعبي : أرسل إليّ عبد الحميد بن عبد الرحمن - وعنده أبو الزناد عبد الله بن ذَكْوان مولى قريش - وإذا هما قد ذكرا من أصحاب الأعراف ذكرًا ليس كما ذكرا ، فقلت لهما : إن شئتما أنبأتكما بما ذكر حذيفة ، فقالا هات . فقلت : إن حذيفة ذكر أصحاب الأعراف فقال : هم قوم تجاوزت بهم حسناتهم النار ، وقعدت بهم سيئاتهم عن الجنة ، فإذا صُرفت أبصارهم تلقاء أصحاب النار قالوا : { رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ } فبينا{[11765]} هم كذلك ، اطلع عليهم ربك فقال لهم : اذهبوا فادخلوا الجنة فإني قد غفرت لكم . {[11766]}
وقال عبد الله بن المبارك ، عن أبي بكر الهذلي قال : قال سعيد بن جبير ، وهو يحدث ذلك عن ابن مسعود قال يحاسب الناس يوم القيامة ، فمن كانت حسناته أكثر من سيئاته بواحدة دخل الجنة ، ومن كانت سيئاته أكثر من حسناته بواحدة دخل النار . ثم قرأ قول الله : { فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ [ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ{[11767]} ] } [ المؤمنون : 102 ، 103 ] ثم قال : إن الميزان يخف بمثقال حبة ويرجح ، قال : ومن استوت حسناته وسيئاته كان من
أصحاب الأعراف ، فوقفوا على الصراط ، ثم عرفوا أهل الجنة وأهل النار ، فإذا نظروا إلى أهل الجنة نادوا : سلام عليكم ، وإذا صرفوا أبصارهم إلى يسارهم نظروا أصحاب النار قالوا : { رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ } فتعوذوا بالله من منازلهم . قال : فأما أصحاب الحسنات ، فإنهم يعطون نورًا فيمشون به بين أيديهم وبأيمانهم ، ويعطى كل عبد يومئذ نورًا ، وكل أمة نورًا ، فإذا أتوا على الصراط سلب الله نور كل منافق ومنافقة . فلما رأى أهل الجنة ما لقي المنافقون قالوا : { رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا } [ التحريم : 8 ] . وأما أصحاب الأعراف ، فإن النور كان في أيديهم فلم ينزع ، فهنالك يقول الله تعالى : { لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ } فكان الطمع دخولا . قال : وقال{[11768]} ابن مسعود : على أن العبد إذا عمل حسنة كتب له بها عشر ، وإذا عمل سيئة لم تكتب إلا واحدة . ثم يقول : هلك من غلبت واحدته أعشاره .
رواه ابن جرير{[11769]} وقال أيضا :
حدثني ابن وَكِيع وابن حميد قالا حدثنا جرير ، عن منصور ، عن حبيب بن أبي ثابت ، عن عبد الله بن الحارث ، عن ابن عباس قال : " الأعراف " : السور الذي بين الجنة والنار ، وأصحاب الأعراف بذلك المكان ، حتى إذا بدأ الله أن يعافيهم ، انْطُلِق بهم إلى نهر يقال له : " الحياة " ، حافتاه قصب الذهب ، مكلل باللؤلؤ ، ترابه المسك ، فألقوا{[11770]} فيه حتى تصلح ألوانهم ، وتبدو في نحورهم بيضاء يعرفون بها ، حتى إذا صلحت ألوانهم أتى بهم الرحمن تبارك وتعالى فقال : تمنوا ما شئتم فيتمنون ، حتى إذا انقطعت أمنيتهم قال لهم : لكم الذي تمنيتم ومثله سبعون ضعفا . فيدخلون الجنة وفي نحورهم شامة بيضاء يعرفون بها ، يسمون مساكين أهل الجنة .
وكذا رواه ابن أبي حاتم ، عن أبيه ، عن يحيى بن المغيرة ، عن جرير ، به . وقد رواه سفيان الثوري ، عن حبيب بن أبي ثابت ، عن مجاهد ، عن عبد الله بن الحارث ، من قوله{[11771]} وهذا أصح ، والله أعلم . وهكذا روي عن مجاهد والضحاك وغير واحد .
وقال سُنَيْد بن داود : حدثني جرير ، عن عمارة بن القعقاع ، عن أبي زُرْعَة عن عمرو بن جرير قال : سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أصحاب الأعراف قال{[11772]} هم آخر من يفصل بينهم من العباد ، فإذا فرغ رب العالمين من فصله{[11773]} بين العباد قال : أنتم قوم أخرجتكم حسناتكم من النار ، ولم تدخلوا{[11774]} الجنة ، فأنتم عتقائي ، فارعوا من الجنة حيث شئتم " . وهذا مرسل حسن{[11775]}
وروى الحافظ ابن عساكر في ترجمة " الوليد بن موسى " ، عن منبه بن عثمان{[11776]} عن عُرْوَة بن رُوَيْم ، عن الحسن ، عن أنس بن مالك ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ؛ أن مؤمني الجن لهم ثواب وعليهم عقاب ، فسألناه عن ثوابهم{[11777]} فقال : " على الأعراف ، وليسوا في الجنة مع أمة محمد صلى الله عليه وسلم . فسألناه : وما الأعراف ؟ فقال : " حائط الجنة تجري فيها الأنهار ، وتنبت فيه الأشجار والثمار " .
رواه البيهقي ، عن ابن بشران ، عن علي بن محمد المصري ، عن يوسف بن يزيد ، عن الوليد بن موسى ، به{[11778]}
وقال سفيان الثوري ، عن خُصَيف ، عن مجاهد قال : أصحاب الأعراف قوم صالحون فقهاء علماء .
وقال ابن جرير : حدثنا يعقوب بن إبراهيم ، حدثنا ابن عُلَيَّة ، عن سليمان التيمي ، عن أبي مِجْلز في قوله تعالى : { وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ وَعَلَى الأعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلا بِسِيمَاهُمْ } قال : هم رجال من الملائكة ، يعرفون أهل الجنة وأهل النار ، قال : { وَنَادَوْا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ * وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَاءَ أَصْحَابِ النَّارِ قَالُوا رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ * وَنَادَى أَصْحَابُ الأعْرَافِ رِجَالا } في النار { يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ قَالُوا مَا أَغْنَى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ * أَهَؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لا يَنَالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ } قال : فهذا حين دخل أهل الجنة الجنة : { ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ } .
وهذا صحيح إلى أبي مجلز لاحق بن حميد أحد التابعين ، وهو غريب من قوله وخلاف الظاهر من السياق : وقول الجمهور مقدم على قوله ، بدلالة الآية على ما ذهبوا إليه . وكذا قول مجاهد : إنهم قوم صالحون علماء فقهاء{[11779]} فيه غرابة أيضا . والله أعلم .
وقد حكى القرطبي وغيره فيهم اثني عشر قولا منها : أنهم شهدوا أنهم صلحاء تفرعوا من فرع الآخرة ، دخلوا{[11780]} يطلعون على أخبار الناس . وقيل : هم أنبياء . وقيل : ملائكة .
وقوله تعالى : { يَعْرِفُونَ كُلا بِسِيمَاهُمْ } قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس قال : يعرفون أهل الجنة ببياض الوجوه ، وأهل النار بسواد الوجوه . وكذا روى الضحاك ، عنه .
وقال العَوْفي ، عن ابن عباس{[11781]} أنزلهم الله بتلك المنزلة ، ليعرفوا من في الجنة والنار ، وليعرفوا أهل النار بسواد الوجوه ، ويتعوذوا بالله أن يجعلهم مع القوم الظالمين . وهم في ذلك يحيون أهل الجنة بالسلام ، لم يدخلوها ، وهم يطمعون أن يدخلوها ، وهم داخلوها إن شاء الله .
وكذا قال مجاهد ، والضحاك ، والسدي ، والحسن ، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم .
وقال مَعْمَر ، عن الحسن : إنه تلا هذه الآية : { لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ } قال : والله ما جعل ذلك الطمع في قلوبهم ، إلا لكرامة يريدها بهم .
وقال قتادة [ قد ]{[11782]} أنبأكم الله بمكانهم من الطمع .
وقوله : { وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَاءَ أَصْحَابِ النَّارِ قَالُوا رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ } قال الضحاك ، عن ابن عباس : إن أصحاب الأعراف إذا نظروا إلى أهل النار وعرفوهم{[11783]} قالوا : { رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ }
وقال السُّدِّي : وإذا مروا بهم - يعني بأصحاب الأعراف - بزمرة يُذهب بها إلى النار قالوا : { رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ }
وقال عكرمة : تحدد وجوههم في النار ، فإذا رأوا أصحاب الجنة ذهب ذلك عنهم .
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم في قوله : { وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَاءَ أَصْحَابِ النَّارِ } فرأوا وجوههم مسودة ، وأعينهم مزرقة ، { قَالُوا رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ }
{ وبينهما حجاب } أي بين الفريقين لقوله تعالى : { فضرب بينهم بسور } أو بين الجنة والنار ليمنع وصول اثر إحداهما إلى الأخرى . { وعلى الأعراف } وعلى أعراف الحجاب أي أعاليه ، وهو السور المضروب بينهما جمع عرف مستعار من عرف الفرس وقيل العرف ما ارتفع من الشيء فإنه يكون لظهوره أعرف من غيره . { رجال } طائفة من الموحدين قصروا في العمل فيحبسون بين الجنة والنار حتى يقضي الله سبحانه وتعالى فيهم ما يشاء وقيل قوم علت درجاتهم كالأنبياء عليهم الصلاة والسلام ، أو الشهداء رضي الله تعالى عنهم ، أو خيار المؤمنين وعلمائهم ، أو ملائكة يرون في صورة الرجال . { يعرفون كلا } من أهل الجنة والنار . { بسيماهم } بعلامتهم التي أعلمهم الله بها كبياض الوجه وسواده ، فعل من سام إبله إذا أرسلها في المرعى معلمة ، أو من وسم على القلب كالجاه من الوجه ، وإنما يعرفون ذلك بالإلهام أو تعليم الملائكة . { ونادوا أصحاب الجنة أن سلام عليكم } أي إذا نظروا إليهم سلموا عليهم . { لم يدخلوها وهم يطعمون } حال من الواو على الوجه الأول ومن أصحاب على الوجوه الباقية .