الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - القرطبي  
{وَبَيۡنَهُمَا حِجَابٞۚ وَعَلَى ٱلۡأَعۡرَافِ رِجَالٞ يَعۡرِفُونَ كُلَّۢا بِسِيمَىٰهُمۡۚ وَنَادَوۡاْ أَصۡحَٰبَ ٱلۡجَنَّةِ أَن سَلَٰمٌ عَلَيۡكُمۡۚ لَمۡ يَدۡخُلُوهَا وَهُمۡ يَطۡمَعُونَ} (46)

قوله تعالى : " وبينهما حجاب " أي بين النار والجنة - لأنه جرى ذكرهما – حاجز ، أي سور . وهو السور الذي ذكره الله في قوله : " فضرب بينهم بسور{[7132]} " [ الحديد : 13 ] . " وعلى الأعراف رجال " أي على أعراف السور ، وهي شرفه . ومنه عرف الفرس وعرف الديك . روى عبد الله بن أبي يزيد{[7133]} عن ابن عباس أنه قال : الأعراف الشيء المشرف . وروى مجاهد عن ابن عباس أنه قال : الأعراف سور له عرف كعرف الديك . والأعراف في اللغة : المكان المشرف ، جمع عرف . قال يحيى بن آدم : سألت الكسائي عن واحد الأعراف فسكت ، فقلت : حدثنا إسرائيل عن جابر عن مجاهد عن ابن عباس قال : الأعراف سور له عرف كعرف الديك . فقال : نعم والله ، واحده يعني ، وجماعته أعراف ، يا غلام ، هات القرطاس ، فكتبه . وهذا الكلام خرج مخرج المدح ، كما قال فيه : " رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله{[7134]} " [ النور : 37 ] وقد تكلم العلماء في أصحاب الأعراف على عشرة أقوال : فقال عبد الله بن مسعود وحذيفة بن اليمان وابن عباس والشعبي والضحاك وابن جبير : هم قوم استوت حسناتهم وسيئاتهم . قال ابن عطية : وفي مسند خيثمة بن سليمان ( في آخر الجزء الخامس عشر ) حديث عن جابر بن عبد الله قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( توضع الموازين يوم القيامة فتوزن الحسنات والسيئات فمن رجحت حسناته على سيئاته مثقال صؤابة{[7135]} دخل الجنة ومن رجحت سيئاته على حسناته مثقال صؤابة دخل النار ] . قيل : يا رسول الله ، فمن استوت حسناته وسيئاته ؟ قال : ( أولئك أصحاب الأعراف لم يدخلوها وهم يطمعون ) . وقال مجاهد : هم قوم صالحون فقهاء علماء . وقيل : هم الشهداء . ذكره المهدوي . وقال القشيري : وقيل هم فضلاء المؤمنين والشهداء ، فرغوا من شغل أنفسهم ، وتفرغوا لمطالعة حال الناس ، فإذا رأوا أصحاب النار تعوذوا بالله أن يردوا إلى النار ، فإن في قدرة الله كل شيء ، وخلاف المعلوم مقدور . فإذا رأوا أهل الجنة وهم لم يدخلوها بعد يرجون لهم دخولها . وقال شرحبيل بن سعد : هم المستشهدون في سبيل الله الذين خرجوا عصاة لآبائهم . وذكر الطبري في ذلك حديثا عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وأنه تعادل عقوقهم واستشهادهم . وذكر الثعلبي بإسناده عن ابن عباس في قول عز وجل : " وعلى الأعراف رجال " قال : الأعراف موضع عال على الصراط ، عليه العباس وحمزة وعلي بن أبي طالب وجعفر ذو الجناحين ، رضي الله عنهم ، يعرفون محبيهم ببياض الوجوه ومبغضيهم بسواد الوجوه . وحكى الزهراوي أنهم عدول القيامة الذين يشهدون على الناس بأعمالهم ، وهم في كل أمة . واختار هذا القول النحاس ، وقال : وهو من أحسن ما قيل فيه ، فهم على السور بين الجنة والنار . وقال الزجاج : هم قوم أنبياء . وقيل : هم قوم كانت لهم صغائر لم تكفر عنهم بالآلام والمصائب في الدنيا وليست لهم كبائر فيحبسون عن الجنة لينالهم بذلك غم فيقع في مقابلة صغائرهم . وتمنى سالم مولى أبي حذيفة أن يكون من أصحاب الأعراف ؛ لأن مذهبه أنهم مذنبون . وقيل : هم أولاد الزنى{[7136]} ؛ ذكره القشيري عن ابن عباس . وقيل : هم ملائكة موكلون بهذا السور ، يميزون الكافرين من المؤمنين قبل إدخالهم الجنة والنار ، ذكره أبو مجلز . فقيل له : لا يقال للملائكة رجال ؟ فقال : إنهم ذكور وليسوا بإناث ، فلا يبعد إيقاع لفظ الرجال عليهم ، كما أوقع على الجن في قوله : " وأنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن{[7137]} " [ الجن : 6 ] . فهؤلاء الملائكة يعرفون المؤمنين بعلاماتهم والكفار بعلاماتهم ، فيبشرون المؤمنين قبل دخولهم الجنة وهم لم يدخلوها بعد فيطمعون فيها . وإذا رأوا أهل النار دعوا لأنفسهم بالسلامة من العذاب . قال ابن عطية : واللازم من الآية أن على الأعراف رجالا من أهل الجنة يتأخر دخولهم ويقع لهم ما وصف من الاعتبار في الفريقين . و " يعرفون كلا بسيماهم " أي بعلاماتهم ، وهي بياض الوجوه وحسنها في أهل الجنة ، وسوادها وقبحها في أهل النار ، إلى غير ذلك من معرفة حيز هؤلاء وحيز هؤلاء .

قلت : فوقف عن التعيين لاضطراب الأثر والتفصيل ، والله بحقائق الأمور عليم . ثم قيل : الأعراف جمع عرف وهو كل عال مرتفع ؛ لأنه بظهوره أعرف من المنخفض . قال ابن عباس : الأعراف شرف الصراط . وقيل : هو جبل أحد يوضع هناك . قال ابن عطية : وذكر الزهراوي حديثا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( إن أحدا جبل يحبنا ونحبه وإنه يوم القيامة يمثل بين الجنة والنار يحبس عليه أقوام يعرفون كلا بسيماهم هم إن شاء الله من أهل الجنة ) . وذكر حديثا آخر عن صفوان بن سليم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( إن أحدا على ركن من أركان الجنة ) .

قلت : وذكر أبو عمر عن أنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( أحد جبل يحبنا ونحبه وإنه لعلى ترعة من ترع الجنة ) .

قوله تعالى : " ونادوا أصحاب الجنة " أي نادى أصحاب الأعراف أصحاب الجنة . " أن سلام عليكم " أي قالوا لهم سلام عليكم . وقيل : المعنى سلمتم من العقوبة . " لم يدخلوها وهم يطمعون " أي لم يدخل الجنة أصحاب الأعراف ، أي لم يدخلوها بعد . " وهم يطمعون " على هذا التأويل بمعنى وهم يعلمون أنهم يدخلونها . وذلك معروف في اللغة أن يكون طمع بمعنى علم . ذكره النحاس . وهذا قول ابن مسعود وابن عباس وغيرهما ، أن المراد أصحاب الأعراف . وقال أبو مجلز : هم أهل الجنة ، أي قال لهم أصحاب الأعراف سلام عليكم وأهل الجنة لم يدخلوا الجنة بعد وهم يطمعون في دخولها للمؤمنين المارين على أصحاب الأعراف . والوقف على قوله : " سلام عليكم " . وعلى قوله : " لم يدخلوها " . ثم يبتدئ " وهم يطمعون " على معنى وهم يطمعون في دخولها . ويجوز أن يكون " وهم يطمعون " حالا ، ويكون المعنى : لم يدخلها المؤمنون المارون على أصحاب الأعراف طامعين ، وإنما دخلوها غير طامعين في دخولها ، فلا يوقف على " لم يدخلوها " .


[7132]:راجع ج 17 ص 245.
[7133]:كذا في ا و ج و ك وفي ز: ابن أبي زيد: والظاهر ابن زيد: راجع ج 12 ص 264
[7134]:راجع ج 12 ص 264
[7135]:الصؤابة : بيضة القملة
[7136]:في ع: الزناة
[7137]:راجع ج 19 ص 8