البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{وَبَيۡنَهُمَا حِجَابٞۚ وَعَلَى ٱلۡأَعۡرَافِ رِجَالٞ يَعۡرِفُونَ كُلَّۢا بِسِيمَىٰهُمۡۚ وَنَادَوۡاْ أَصۡحَٰبَ ٱلۡجَنَّةِ أَن سَلَٰمٌ عَلَيۡكُمۡۚ لَمۡ يَدۡخُلُوهَا وَهُمۡ يَطۡمَعُونَ} (46)

{ وبينهما حجاب } أي بين الفريقين لأنهم المحدّث عنهم وهو الظاهر ، وقيل : بين الجنة والنار وبهذا بدأ الزمخشري وابن عطية وفسر الحجاب بأنه المعنى بقوله فضرب بينهم بسور وقاله ابن عباس : ويقوي أنه بين الفريقين لفظ بينهم إذ هو ضمير العقلاء ولا يحيل ضرب السّور بعدما بين الجنة والنار وإن كانت تلك في السماء والنار أسفل السافلين .

{ وعلى الأعراف رجال يعرفون كلاًّ بسيماهم } أي وعلى أعراف الحجاب وهو السّور المضروب { رجال يعرفون كلاًّ } من فريقي الجنة والنار بعلامتهم التي ميّزهم الله بها من ابيضاض وجوه واسوداد وجوه أو بغير ذلك من العلامات أو بعلامتهم التي يلهمهم الله معرفتها و { الأعراف } تل بين الجنة والنار ، قاله ابن عباس ، وقال مجاهد : حجاب بين الجنة والنار ، وقيل : هو أحد ممثل بين الجنة والنارروي هذا في حديث وفي آخر « أنّ أحداً على ركن من أركان الجنة » ، وقيل : أعالي السّور الذي ضرب بين الجنة والنار قاله الزمخشري ، والرجال قوم تساوت حسناتهم وسيئاتهم وقفوا هنالك ما شاء الله ، لم تبلغ حسناتهم بهم دخول الجنة ولا سيئاتهم دخول النار ، وروي في مسند ابن أبي خيثمة عن جابر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حديث فيه قيل يا رسول الله فمن استوت حسناته وسيئاته قال : « أولئك أصحاب الأعراف لم يدخلوها وهم يطمعون » ، وقاله ابن مسعود وابن عباس وحذيفة وأبو هريرة ، قال حذيفة بن اليمان أيضاً هم قوم أبطأت بهم صغائرهم إلى آخر الناس ، وقيل غزاة جاهدوا من غير إذن والديهم فقتلوا في المعركة وهذا مرويّ عن الرسول أنهم حبسوا عن الجنة بمعصية آبائهم وأعتقهم الله من النار لأنهم قتلوا في سبيله ، وقيل : قوم رضي عنهم آباؤهم دون أمهاتهم أو بالعكس ، وقيل : هم أولاد الزنا ، وقيل : أولاد المشركين ، وقيل : الذين كانوا في الأسر ولم يبدّلوا دينهم ، وقيل : علماء شكوا في أرزاقهم ، وقال الزمخشري : رجال من المسلمين من آخرهم دخولاً في الجنة لقصور أعمالهم كأنهم المرجئون لأمر الله يحبسون بين الجنة والنار إلى أن يأذن الله لهم في دخول الجنة ، وقال ابن عطية : واللازم من الآية أنّ على أعراف ذلك السور أو على مواضع مرتفعة عن الفريقين حيث شاء الله رجالاً من أهل الجنة يتأخر دخولهم ويقع لهم ما وصف من الاعتبار في الفريقين { يعرفون كلا } بعلامتهم وهي بياض الوجوه وحسنها في أهل الجنة وسوادها وقبحها في أهل النار انتهى ، والأقوال السابقة تحتاج إلى دليل واضح في التخصيص والجيّد منها هو الأوّل لحديث جابر ولتفسير جماعة من الصحابة وهذه الأقوال هي على قول من قال إنّ { الأعراف } هو بين الجنة والنار ، وفي شعر أمية بن الصّلت :

وآخرون على الأعراف قد طمعوا *** في جنّة حفّها الرمّان والخضر

وقال قوم : إنه الصراط ، وقيل : موضع على الصراط ، وقال قوم : هو جبل في وسط الجنة أو أعلاها واختلف هؤلاء في تفسير رجال ، وقال أبو مجلز : ملائكة في صور رجال ذكور وسمّوا رجالاً لقوله :

{ ولو جعلناه ملكاً لجعلناه رجلاً } وقال مجاهد والحسن هم فضلاء المؤمنين وعلماؤهم ، وقيل : هم الشهداء وقاله الكرماني : واختاره النحّاس ، وقال هو أحسن ما قيل فيه ، وقيل : حمزة والعبّاس وعلي وجعفر الطيّار ، وروي هذا عن ابن عباس ، وقيل : هم الأنبياء .

{ ونادى أصحاب الجنة أن سلام عليكم لم يدخلوها وهم يطمعون .

وإذا صرفت أبصارهم تلقاء أصحاب النار قالوا ربّنا لا تجعلنا مع القوم الظالمين } .

الظاهر أن الضمير في ونادوا إلى آخر الآية عائد على الرّجال الذين على الأعراف وعلى هذا لا يمكن أن تكون تلك الضمائر للأنبياء ولا لشيء مما فسر به أنهم على جبل في وسط الجنة أو أعلى الجنة وفي غاية البعد ما تؤول من ذلك ليصح شيء من تلك الأقوال أنهم أجلسوا على تلك الأماكن المرتفعة ليشاهدوا أحوال الفريقين فيلحقهم السرّور بتلك الأحوال ثم إذا استقر الفريقان نقلوا إلى أمكنتم التي أعدّت لهم في الجنة فمعنى { لم يدخلوها } لم يدخلوا منازلهم المعدّة لهم فيها ومعنى { وهم يطمعون } يتيقّنون ما أعدّ الله لهم من الزلفى وقد جاء الطمع بمعنى اليقين قال { والذي أطمع أن يغفر لي خطيئتي يوم الدين } وطمع ابراهيم عليه السلام يقين .

وقال الشاعر :

وإني لأطمع أنّ الإله *** قدير بحسن يقيني يقيني

وأما قول من قال : إنّ الأعراف جبل بين الجنة والنار فقد طعن فيه القاضي والجبائي وقالا : هو فاسد لأنّ قوله { بما كنتم تعملون } يدلّ على أنّ كل من دخل الجنة لا بد أن يكون مستحقاً لدخولها وذلك يمنع من القول بوجود أقوام لا يستحقّون الجنة ولا النار ثم يدخلون الجنة بمحض الفضل لا بسبب الاستحقاق ولأن كونهم من أهل الأعراف يدّل على ميزهم من جميع أهل القيامة فإنّ إجلاسهم على الأماكن المرتفعة العالية على أهل الجنة والنار تشريف عظيم لا يليق إلا بالأشراف ومن تساوت حسناته وسيئاته درجته قاصرة لا يليق بهم ذلك التشريف ، وأجيب بأنه يحتمل أن يكون ونودوا خطاب مع أقوام معينين فلا يلزم أن تكون أهل الجنة والنار و { أنّ سلام } يحتمل أن { أن } تكون تفسرية ومخففة من الثقيلة ولم يدخلوها حال من المفعول أي ناداهم وهم في هذه الحال يعني أهل الجنة وهم يطمعون جملة خبريّة لا موضع لها من الإعراب أي نادوا أهل الجنة غير داخليها ثم أخبر أنهم طامعون في دخولها قال معناه أبو البقاء ، وقيل : المعنى ونادى أصحاب الأعراب أصحاب الجنة بالسلام وهم قد دخلوا الجنة وأهل الأعراف لم يدخلوها فيكون قوله { لم يدخلوها } حالاً من ضمير ونادوا العائد على أهل الأعراف فقط وهذا تأويل ابن مسعود وقتادة والسدّي وغيرهم ، وقال ابن مسعود : والله ما جعل الله ذلك الطمع في قلوبهم إلا لخير أراده بهم وهذا هو الأظهر والأليق بمساق الآية ، وقال ابن مسعود أيضاً : إنما طمع أصحاب الأعراف لأنّ النور الذي كان في أيديهم لم يطفأ حين طفىء نور ما بأيدي المنافقين ، وقيل : { وهم يطمعون } حال من ضمير الفاعل في { يدخلوها } والمعنى لم يدخلوها في حال طمع لها بل كانوا في حال يأس وخوف لكن عمّهم عفو الله .

وقال الزمخشري : ( فإن قلت ) : ما محل قوله { لم يدخلوها وهم يطمعون } ؟ ( قلت ) : لا محلّ له لأنه استئناف كأنّ سائلاً سأل عن أصحاب الأعراف فقيل له { لم يدخلوها وهم يطمعون } يعني أنّ دخولهم الجنة استأخر عن دخول أهل الجنة فلم يدخلوها لكونهم محبوسين وهم يطمعون لم ييأسوا ويجوز أن يكون له محل بأن يقع صفة انتهى ، وهذا توجيه ضعيف للفصل بين الموصوف وصفته بجملة ونادوا وليست جملة اعتراض وقرأ ابن النحوي وهم طامعون ، وقرأ إياد بن لقيط وهم ساخطون ، وقرأ الأعمش وإذا قلبت { أبصارهم } والضمير في أبصارهم عائد على رجال الأعراف يسلّمون على أهل الجنّة وإذا نظروا إلى أهل النّار دعوا الله في التخلّص منها قاله ابن عباس وجماعة ، وقال أبو مجلز : الضمير لأهل الجنة وهم لم يدخلوها بعد