قوله عز وجل : { وقضى ربك } ، وأمر ربك ، قاله ابن عباس وقتادة والحسن . قال الربيع بن أنس : وأوجب ربك . قال مجاهد : وأوصى ربك . وحكى عن الضحاك بن مزاحم أنه قرأها ووصى ربك . وقال : إنهم ألصقوا الواو بالصاد فصارت قافاً . { أن لا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا } أي : وأمر بالوالدين إحساناً براً بهما وعطفاً عليهما . { إما يبلغن عندك الكبر } ، قرأ حمزة و الكسائي بالألف على التثنية فعلى هذا قوله : { أحدهما أو كلاهما } ، كلام مستأنف ، كقوله تعالى { ثم عموا وصموا كثير منهم } [ المائدة – 71 ] وقوله { وأسروا النجوى الذين ظلموا } ، وقوله : { الذين ظلموا } ابتداء وقرأ الباقون { يبلغن } على التوحيد . { فلا تقل لهما أف } ، فيه ثلاث لغات ، قرأ ابن كثير و ابن عامر ، و يعقوب : بفتح الفاء ، وقرأ أبو جعفر ، ونافع ، وحفص بالكسر والتنوين والباقون بكسر الفاء غير منون ، ومعناها واحد وهي كلمة كراهية . قال أبو عبيدة : أصل التف والأف الوسخ على الأصابع إذا فتلتها . وقيل : الأف : ما يكون في المغابن من الوسخ ، والتف : ما يكون في الأصابع . وقيل : الأف : وسخ الأذن والتف وسخ الأظافر . وقيل : الأف : وسخ الظفر ، والتف : ما رفعته بيدك من الأرض من شيء حقير . { ولا تنهرهما } ، ولا تزجرهما . { وقل لهما قولاً كريماً } ، حسناً جميلاً ليناً ، قال ابن المسيب : كقول العبد المذنب للسيد الفظ . وقال مجاهد : لا تسميهما ، ولا تكنهما ، وقل : يا أبتاه يا أماه . وقال مجاهد : في هذه الآية أيضاً : إذا بلغا عندك من الكبر ما يبولان فلا تتقذرهما ، ولا تقل لهما أف حين تميط عنهما الخلاء والبول كما كانا يميطانه عنك صغيراً .
{ 23-24 } { وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا }
لما نهى تعالى عن الشرك به أمر بالتوحيد فقال : { وَقَضَى رَبُّكَ } قضاء دينيا وأمر أمرا شرعيا { أَنْ لَا تَعْبُدُوا } أحدا من أهل الأرض والسماوات الأحياء والأموات .
{ إِلَّا إِيَّاهُ } لأنه الواحد الأحد الفرد الصمد الذي له كل صفة كمال ، وله من تلك الصفة أعظمها على وجه لا يشبهه أحد من خلقه ، وهو المنعم بالنعم الظاهرة والباطنة الدافع لجميع النقم الخالق الرازق المدبر لجميع الأمور فهو المتفرد بذلك كله وغيره ليس له من ذلك شيء .
ثم ذكر بعد حقه القيام بحق الوالدين فقال : { وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا } أي : أحسنوا إليهما بجميع وجوه الإحسان القولي والفعلي لأنهما سبب وجود العبد ولهما من المحبة للولد والإحسان إليه والقرب ما يقتضي تأكد الحق ووجوب البر .
{ إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا } أي : إذا وصلا إلى هذا السن الذي تضعف فيه قواهما ويحتاجان من اللطف والإحسان ما هو معروف . { فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ } وهذا أدنى مراتب الأذى نبه به على ما سواه ، والمعنى لا تؤذهما أدنى أذية .
{ وَلَا تَنْهَرْهُمَا } أي : تزجرهما وتتكلم لهما كلاما خشنا ، { وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا } بلفظ يحبانه وتأدب وتلطف بكلام لين حسن يلذ على قلوبهما وتطمئن به نفوسهما ، وذلك يختلف باختلاف الأحوال والعوائد والأزمان .
( وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه ) . .
فهو أمر بتوحيد المعبود بعد النهي عن الشرك . أمر في صورة قضاء . فهو أمر حتمي حتمية القضاء . ولفظة( قضى ) تخلع على الأمر معنى التوكيد ، إلى جانب القصر الذي يفيده النفي والاستثناء ( ألا تعبدوا إلا إياه ) فتبدو في جو التعبير كله ظلال التوكيد والتشديد .
فإذا وضعت القاعدة ، وأقيم الأساس ، جاءت التكاليف الفردية والاجتماعية ، ولها في النفس ركيزة من العقيدة في الله الواحد ، توحد البواعث والأهداف من التكاليف والأعمال .
والرابطة الأولى بعد رابطة العقيدة ، هي رابطة الأسرة ، ومن ثم يربط السياق بر الوالدين بعبادة الله ، إعلانا لقيمة هذا البر عند الله :
( وبالوالدين إحسانا إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما : أف ولا تنهرهما وقل لهما قولا كريما ، واخفض لهما جناح الذل من الرحمة ، وقل : رب ارحمهما كما ربياني صغيرا ) .
بهذه العبارات الندية ، والصور الموحية ، يستجيش القرآن الكريم وجدان البر والرحمة في قلوب الأبناء . ذلك أن الحياة وهي مندفعة في طريقها بالأحياء ، توجه اهتمامهم القوي إلى الأمام . إلى الذرية . إلى الناشئة الجديدة . إلى الجيل المقبل . وقلما توجه اهتمامهم إلى الوراء . إلى الأبوة . إلى الحياة المولية . إلى الجيل الذاهب ! ومن ثم تحتاج البنوة إلى استجاشة وجدانها بقوة لتنعطف إلى الخلف ، وتتلفت إلى الآباء والأمهات .
إن الوالدين يندفعان بالفطرة إلى رعاية الأولاد . إلى التضحية بكل شيء حتى بالذات . وكما تمتص النابتة الخضراء كل غذاء في الحبة فإذا هي فتات ، ويمتص الفرخ كل غذاء في البيضة فإذا هي قشر ؛ كذلك يمتص الأولاد كل رحيق وكل عافية وكل جهد وكل اهتمام من الوالدين فإذا هما شيخوخة فانية - إن أمهلهما الأجل - وهما مع ذلك سعيدان !
فأما الأولاد فسرعان ما ينسون هذا كله ، ويندفعون بدروهم إلى الأمام . إلى الزوجات والذرية . . وهكذا تندفع الحياة .
ومن ثم لا يحتاج الآباء إلى توصية بالأبناء . إنما يحتاج هؤلاء إلى استجاشة وجدانهم بقوة ليذكروا واجب الجيل الذي أنفق رحيقه كله حتى أدركه الجفاف !
وهنا يجيء الأمر بالإحسان إلى الوالدين في صورة قضاء من الله يحمل معنى الأمر المؤكد ، بعد الأمر المؤكد بعبادة الله .
يقول تعالى آمرًا بعبادته وحده لا شريك له ؛ فإن القضاء هاهنا بمعنى الأمر .
قال مجاهد : { وَقَضَى } يعني : وصى ، وكذا قرأ أبيّ بن كعب ، وعبد الله بن مسعود ، والضحاك بن مزاحم : " ووصى ربك ألا تعبدوا إلا إياه " ولهذا قرن بعبادته بر الوالدين فقال : { وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا } أي : وأمر بالوالدين إحسانًا ، كما قال في الآية الأخرى : { أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ } [ لقمان : 14 ] .
وقوله : { إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ } أي : لا تسمعهما قولا سيئًا ، حتى ولا التأفيف الذي هو أدنى مراتب القول السيئ { وَلا تَنْهَرْهُمَا } أي : ولا يصدر منك إليهما فعل قبيح ، كما قال عطاء بن أبي رباح في قوله : { وَلا تَنْهَرْهُمَا } أي : لا تنفض{[17386]} يدك على والديك .
ولما نهاه عن القول القبيح والفعل القبيح ، أمره بالقول الحسن والفعل الحسن فقال : { وَقُلْ لَهُمَا قَوْلا كَرِيمًا } أي : لينًا طيبًا حسنًا بتأدب وتوقير وتعظيم .
القول في تأويل قوله تعالى { وَقَضَىَ رَبّكَ أَلاّ تَعْبُدُوَاْ إِلاّ إِيّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً إِمّا يَبْلُغَنّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لّهُمَآ أُفّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لّهُمَا قَوْلاً كَرِيماً } .
يعني بذلك تعالى ذكره حكم ربك يا محمد بأمره إياكم ألا تعبدوا إلا الله ، فإنه لا ينبغي أن يعبد غيره .
وقد اختلفت ألفاظ أهل التأويل في تأويل قوله وَقَضَى رَبّكَ وإن كان معنى جميعهم في ذلك واحدا . ذكر ما قالوا في ذلك :
حدثني عليّ بن داود ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس وَقَضَى رَبّكَ ألاّ تَعْبُدُوا إلاّ إيّاه يقول : أمر .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا الحكم بن بشير ، قال : حدثنا زكريا بن سلام ، قال : جاء رجل إلى الحسن ، فقال : إنه طلق امرأته ثلاثا ، فقال : إنك عصيتَ ربك ، وبانت منك امرأتك ، فقال الرجل : قضى الله ذلك عليّ ، قال الحسن ، وكان فصيحا : ما قضى الله : أي ما أمر الله ، وقرأ هذه الاَية وَقَضَى رَبّكَ ألاّ تَعْبُدُوا إلاّ إيّاهُ فقال الناس : تكلم الحسن في القدر .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله وَقَضَى رَبّكَ ألاّ تَعْبُدُوا إلاّ إيّاهُ : أي أمر ربك في ألا تعبدوا إلا إياه ، فهذا قضاء الله العاجل ، وكان يُقال في بعض الحكمة : من أرضى والديه : أرض خالقه ، ومن أسخط والديه ، فقد أسخط ربه .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة وَوَقَضَى رَبّكَ ألاّ تَعْبُدوا إلاّ إيّاهُ قال : أمر ألا تعبدوا إلا إياه ، وفي حرف ابن مسعود : «وَصّى رَبّكَ ألاّ تَعْبُدُوا إلاّ إيّاهُ » .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا يحيى بن عيسى ، قال : حدثنا نصير بن أبي الأشعث ، قال : ثني ابن حبيب بن أبي ثابت ، عن أبيه ، قال : أعطاني ابن عباس مصحفا ، فقال : هذا على قراءة أبيّ بن كعب ، قال أبو كريب : قال يحيى : رأيت المصحف عند نصير فيه : «وَوَصّى رَبّكَ » يعني : وقضى ربك .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد وَقَضَى رَبّكَ ألاّ تَعْبُدُوا إلاّ إيّاهُ قال : وأوصى ربك .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله وَقَضَى رَبّكَ ألاّ تَعْبُدُوا إلاّ إيّاهُ قال : أمر ألا تعبدوا إلا إياه .
حدثني الحرث ، قال : حدثنا القاسم ، قال : حدثنا هشيم ، عن أبي إسحاق الكوفي ، عن الضحاك بن مزاحم ، أنه قرأها : «وَوَصّى رَبّكَ » وقال : إنهم ألصقوا الواو بالصاد فصارت قافا .
وقوله : وَبالوَالِدَيْنِ إحْسانا يقول : وأمركم بالوالدين إحسانا أن تحسنوا إليهما وتبرّوهما . ومعنى الكلام : وأمركم أن تحسنوا إلى الوالدين فلما حذفت «أن » تعلق القضاء بالإحسان ، كما يقال في الكلام : آمرك به خيرا ، وأوصيك به خيرا ، بمعنى : آمرك أن تفعل به خيرا ، ثم تحذف «أن » فيتعلق الأمر والوصية بالخير ، كما قال الشاعر :
عَجِبْتُ مِنْ دَهْماءَ إذْ تَشْكُونا *** ومِنْ أبي دَهْماءَ إذْ يُوصِينا
*** خَيْرا بها كأننا جافُونا ***
واختلفت القرّاء في قراءة قوله إمّا يَبْلُغَنّ عِنْدَكَ الكِبَرَ أحَدُهُما أوْ كِلاهُما فقرأ ذلك عامة قرّاء أهل المدينة والبصرة ، وبعض قرّاء الكوفيين : إمّا يَبْلُغَنّ على التوحيد على توجيه ذلك إلى أحدهما لأن أحدهما واحد ، فوحدوا يَبْلُغَنّ لتوحيده ، وجعلوا قوله أوْ كِلاهُما معطوفا على الأحد . وقرأ ذلك عامة قرّاء الكوفيين : «إما يَبْلُغانّ » على التثنية وكسر النون وتشديدها ، وقالوا : قد ذكر الوالدان قبل ، وقوله : «يَبْلُغانّ » خبر عنهما بعد ما قدّم أسماءهما . قالوا : والفعل إذا جاء بعد الاسم كان الكلام أن يكون فيه دليل على أنه خبر عن اثنين أو جماعة . قالوا : والدليل على أنه خبر عن اثنين في الفعل المستقبل الألف والنون . قالوا : وقوله أحَدُهُما أوْ كِلاهُما كلام مستأنف ، كما قيل : فَعَمُوا وَصَمّوا ثم تَاب اللّهُ عَلَيْهِمْ ، ثم عَمُوا وَصَمّوا كَثِيرٌ منهُمْ وكقوله وأسَرّوا النّجْوَى ثم ابتدأ فقال الّذِينَ ظَلَمُوا .
وأولى القراءتين بالصواب عندي في ذلك ، قراءة من قرأه إما يَبْلُغَنّ على التوحيد على أنه خبر عن أحدهما ، لأن الخبر عن الأمر بالإحسان في الوالدين ، قد تناهى عند قوله وَبالوَالِدَيْنِ إحْسانا ثم ابتدأ قوله إمّا يَبْلُغَنّ عِنْدَكَ الكِبَرَ أحَدُهُما أوْ كِلاهُما .
وقوله : فَلا تَقُلْ لَهُما أُفَ يقول : فلا تؤفف من شيء تراه من أحدهما أو منهما مما يتأذّى به الناس ، ولكن اصبر على ذلك منهما ، واحتسب في الأجر صبرك عليه منهما ، كما صبرا عليك في صغرك . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا محمد بن محبب ، قال : حدثنا سفيان ، عن ليث ، عن مجاهد ، في قوله : فَلا تَقُلْ لَهُما أُفّ وَلا تَنْهَرْهُما قال : إن بلغا عندك من الكبر ما يبولان ويخرآن ، فلا تقل لهما أفّ تقذّرهما .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد : إما يَبْلُغانّ عِندك الكبر فلا تَقُل لهما أف حين ترى الأذى ، وتميط عنهما الخلاء والبول ، كما كانا يميطانه عنك صغيرا ، ولا تؤذهما .
وقد اختلف أهل المعرفة بكلام العرب في معنى «أفّ » ، فقال بعضهم : معناه : كلّ ما غلظ من الكلام وقبُح . وقال آخرون : الأفّ : وسخ الأظفار والتف كلّ ما رفعت بيدك من الأرض من شيء حقير . وللعرب في «أُفّ » لغات ستّ رفعها بالتنوين وغير التنوين وخفضها كذلك ونصبها فمن خفض ذلك بالتنوين ، وهي قراءة عامة أهل المدينة . شبهها بالأصوات التي لا معنى لها ، كقولهم في حكاية الصوت غاق غاق ، فخفضوا القاف ونوّنوها ، وكان حكمها السكون ، فإنه لا شيء يعربها من أجل مجيئها بعد حرف ساكن وهو الألف ، فكرهوا أن يجمعوا بين ساكنين ، فحرّكوا إلى أقرب الحركات من السكون ، وذلك الكسر ، لأن المجزوم إذا حرّك ، فإنما يحرّك إلى الكسر . وأما الذين خفضوا بغير تنوين ، وهي قراءة عامة قرّاء الكوفيين والبصريين ، فإنهم قالوا : إنما يدخلون التنوين فيما جاء من الأصوات ناقصا ، كالذي يأتي على حرفين مثل : مَه وصَه وبَخ ، فيتمم بالتنوين لنقصانه عن أبنيه الأسماء . قالوا : وأفّ تامّ لا حاجة بنا إلى تتمته بغيره ، لأنه قد جاء على ثلاثة أحرف . قالوا : وإنما كسرنا الفاء الثانية لئلا نجمع بين ساكنين . وأما من ضمّ ونوّن ، فإنه قال : هو اسم كسائر الأسماء التي تُعرب وليس بصوت ، وعدل به عن الأصوات . وأما من ضمّ ذلك بغير تنوين ، فإنه قال : ليس هو باسم متمكن فيُعرب بإعراب الأسماء المتمكنة ، وقالوا : نضمه كما نضمّ قوله لِلّهِ الأمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ ، وكما نضمّ الاسم في النداء المفرد ، فنقول : يا زيد . ومن نصبه بغير تنوين ، وهو قراءة بعض المكيين وأهل الشام فإنه شبهه بقولهم : مدّ يا هذا وردّ . ومن نصب بالتنوين ، فإنه أعمل الفعل فيه ، وجعله اسما صحيحا ، فيقول : ما قلت له : أفا ولا تفا . وكان بعض نحويي البصرة يقول : قُرِئت : أفّ ، وأفا لغة جعلوها مثل نعتها . وقرأ بعضهم «أُفّ » ، وذلك أن بعض العرب يقول : «أفّ لك » على الحكاية : أي لا تقل لهما هذا القول . قال : والرفع قبيح ، لأنه لم يجيء بعده بلام ، والذين قالوا : «أُفّ » فكسروا كثير ، وهو أجود . وكسر بعضهم ونوّن . وقال بعضهم : «أُفّي » ، كأنه أضاف هذا القول إلى نفسه ، فقال : أُفّي هذا لكما ، والمكسور من هذا منوّن وغير منوّن على أنه اسم غير متمكن ، نحو أمس وما أشبهه ، والمفتوح بغير تنوين كذلك . وقال بعض أهل العربية : كل هذه الحركات الستّ تدخل في «أفّ » حكاية تشبه بالاسم مرّة وبالصوت أخرى . قال : وأكثر ما تُكسر الأصوات بالتنوين إذا كانت على حرفين مثل صه ومه وبخ . وإذا كانت على ثلاثة أحرف شبهت بالأدوات «أفّ » مثل : ليت ومَدّ ، وأُفّ مثل مُدّ يُشبه بالأدوات . وإذا قال أَفّ مثل صَهّ . وقالوا سمعت مِضّ يا هذا ومِضّ . وحُكي عن الكسائي أنه قال : سمعت «ما علمك أهلك إلا مِضّ ومِضّ » ، وهذا كأفّ وأفّ . ومن قال : «أُفّا » جعله مثل سُحْقا وبُعدا .
والذي هو أولى بالصحة عندي في قراءة ذلك ، قراءة من قرأه : «فلا تَقُلْ لَهُما أُفّ » بكسر الفاء بغير تنوين لعلّتين إحداهما : أنها أشهر اللغات فيها وأفصحها عند العرب والثانية : أن حظّ كلّ ما لم يكن له معرَب من الكلام السكون فلما كان ذلك كذلك . وكانت الفاء في أفّ حظها الوقوف ، ثم لم يكن إلى ذلك سبيل لاجتماع الساكنين فيه ، وكان حكم الساكن إذا حُرّك أن يحرّك إلى الكسر حرّكت إلى الكسر ، كما قيل : مُدّ وشُدّ ورُدّ الباب .
وقوله : وَلا تَنْهَرْهُما يقول جلّ ثناؤه : ولا تزجُرهما . كما :
حدثنا محمد بن إسماعيل الأحمَسي ، قال : حدثنا محمد بن عبيد ، قال : حدثنا واصل الرّقاشَيّ ، عن عطاء ابن أبي رَباح ، في قوله : وَلا تَقُلْ لَهُما أُفَ وَلا تَنْهَرْهُما قال : لا تنفض يدك على والديك . يقال منه : نَهرَه يَنهره نَهْرا ، وانتهره ينتهره انتهارا .
وأما قوله : وَقُلْ لَهُما قَوْلاً كَرِيما فإنه يقول جلّ ثناؤه : وقل لهما قولاً جميلاً حسنا . كما :
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج وَقُلْ لَهُما قَوْلاً كَرِيما قال : أحسن ما تجد من القول .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا المتعمر بن سليمان ، عن عبد الله بن المختار ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عمر بن الخطاب قَوْلاً كَرِيما قالا : لا تمتنع من شيء يريدانه .
قال أبو جعفر : وهذا الحديث خطأ ، أعني حديث هشام بن عُروة ، إنما هو عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، ليس فيه عمر ، حدّث عن ابن عُلية وغيره ، عن عبد الله بن المختار .
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة وَقُلْ لَهُما قَوْلاً كَرِيما : أي قولاً ليّنا سهلاً .
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، مثله .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : ثني حَرْملة بن عمران ، عن أبي الهَدّاج التّجِيبي ، قال : قلت لسعيد بن المسيب : كلّ ما ذكر الله عزّ وجلّ في القرآن من برّ الوالدين ، فقد عرفته ، إلاّ قوله وَقُلْ لَهُما قَوْلاً كَرِيما ما هذا القول الكريم ؟ فقال ابن المسيب : قول العبد المذنب للسيد الفظّ .
{ وقضى ربك } أمر مقطوعا به . { ألا تعبدوا } بأن لا تعبدوا . { إلا إياه } لأن غاية التعظيم لا تحق إلا لمن له غاية العظمة ونهاية الإنعام ، وهو كالتفصيل لسعي الآخرة . ويجوز أن تكون { أن } مفسرة و{ لا } ناهية . { وبالوالدين إحسانا } وبأن تحسنوا ، أو وأحسنوا بالوالدين إحسانا لأنهما السبب الظاهر للوجود والتعيش ، ولا يجوز أن تتعلق الباء بالإحسان لأن صلته لا تتقدم عليه . { إما يبلُغنّ عندك الكبر أحدهما أو كلاهما } { إما } هي إن الشرطية زيدت عليها ما تأكيدا ولذلك صح لحوق النون المؤكدة للفعل ، وأحدهما فاعل { يبلغن } ويدل على قراءة حمزة والكسائي من ألف " يبلغان " الراجع إلى " الوالدين " ، وكلاهما عطف على أحدهما فاعلا أو بدلا ولذلك لم يجز أن يكون تأكيدا للألف ، ومعنى { عندك } أن يكونا في كنفك وكفالتك . { فلا تقل لهما أفٍّ } فلا تتضجر مما يستقذر منهما وتستثقل من مؤنتهما ، وهو صوت يدل على تضجر . وقيل هو اسم الفعل الذي هو أتضجر ، وهو مبني على الكسر لالتقاء الساكنين وتنوينه في قراءة نافع وحفص للتنكير . وقرأ ابن كثير وابن عامر ويعقوب بالفتح على التخفيف . وقرئ به منونا وبالضم للاتباع كمنذ منونا وغير منون ، والنهي عن ذلك يدل على المنع من سائر أنواع الإيذاء قياسا بطريق الأولى . وقيل عرفا كقولك : فلان لا يملك النقير والقطمير ، ولذلك منع رسول الله صلى الله عليه وسلم حذيفة من قتل أبيه وهو في صف المشركين ، نهى عما يؤذيهما بعد الأمر بالإحسان بهما . { ولا تنهرهما } ولا تزجرهما عما لا يعجبك بإغلاظ . وقيل النهي والنهر والنهم أخوات . { وقل لهما } بدل التأفيف والنهر . { قولا كريما } جميلا لا شراسة فيه .
قال أشهب: سمعت مالكا يقول: لا يقل لهما أف وإن أخذا ماله وأعنتاه، وسمعته مرة أخرى يقول: لا تشرد النظر إليهما...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يعني بذلك تعالى ذكره حكم ربك يا محمد بأمره إياكم ألا تعبدوا إلا الله، فإنه لا ينبغي أن يعبد غيره، وقد اختلفت ألفاظ أهل التأويل في تأويل قوله "وَقَضَى رَبُّكَ "وإن كان معنى جميعهم في ذلك واحدا...
عن ابن عباس "وَقَضَى رَبُّكَ أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ" يقول: أمر... وفي حرف ابن مسعود: وَصَّى رَبُّكَ ألا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ...
وقوله "وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا" يقول: وأمركم بالوالدين إحسانا أن تحسنوا إليهما وتبرّوهما. ومعنى الكلام: وأمركم أن تحسنوا إلى الوالدين...
وقوله "فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ" يقول: فلا تؤفف من شيء تراه من أحدهما أو منهما مما يتأذّى به الناس، ولكن اصبر على ذلك منهما، واحتسب في الأجر صبرك عليه منهما، كما صبرا عليك في صغرك...
وقد اختلف أهل المعرفة بكلام العرب في معنى "أفّ"؛
فقال بعضهم: معناه: كلّ ما غلظ من الكلام وقبُح.
وقال آخرون: الأفّ: وسخ الأظفار والتف كلّ ما رفعت بيدك من الأرض من شيء حقير...
وقوله "وَلا تَنْهَرْهُما" يقول جلّ ثناؤه: ولا تزجُرهما...
وأما قوله "وَقُلْ لَهُمَا قَوْلا كَرِيمًا" فإنه يقول جلّ ثناؤه: وقل لهما قولا جميلا حسنا... عن قتادة "وَقُلْ لَهُمَا قَوْلا كَرِيمًا": أي قولا ليِّنا سهلا...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه}:...
وقال القتبي: {وقضى ربك} أي ختم ربك، وهو من الفرض والإلزام، أي فرض ربك، وألزم، {ألا تعبدوا إلا إياه} وكذلك حكم، وهو أشبه...
{وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه} فرض وحتم وحكم وأمر {ألا تعبدوا إلا إياه} إلا الإله المعبود الحق المستحق للعبادة والربوبية لا تعبدوا دونه أحدا...
وتأويل حكم ربك {ألا تعبدوا إلا إياه} لما أنشأ في خلقه كل أحد آثار وحدانيته وشهادة ربوبيته استحقاق العبادة له. فذلك تأويل من قال: قضى (أي) حكم... وأما تأويل من قال: أي أمر ربك، وكلف {ألا تعبدوا إلا إياه} فيكون فيه أمر بالعبادة له، والنهي عن عبادة غيره، كأنه قال: أمر ربك أن اعبدوه ونهاكم أن تعبدوا غيره...
{وبالوالدين إحسانا} كأنه قال: وفرض عليكم أيضا، وحكم الإحسان للوالدين. ثم الإحسان في عرف الناس هو الفعل الذي ليس عليه، إنما هو فضل ومعروف يصنعه المرء إلى غيره، هذا هو الإحسان في العرف واللغة. لكن المراد من الأمر بالإحسان إلى الوالدين، هو الشكر لا ما ذكرنا من الإحسان المعروف عند الناس، وهو ما ذكر في آية أخرى {أن اشكر لي ولوالديك} (لقمان: 14) لأن الشكر، هو المكافأة والجزاء لما أنعم وصنع من المعروف... فهو والله أعلم وإن ذكر الإحسان في هذا وفي غيره من الآيات، وهو قوله: {ألا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا} (النعام: 151) وقوله في آية أخرى: {واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا} (النساء: 36) وغيرها من الآيات، فالمراد منه، والله أعلم، الشكر لهما لما ذكر في آية أخرى: {أن اشكر لي ولوالديك} (لقمان: 14) والشكر هو المكافأة. أمره أن يكافئ لهما، ويجازي بعض ما كان منهما إليه من التربية والبر عليه والعطف عليه والوقاية من كل سوء ومكروه في البطن وبعد ما خرج من البطن حتى كان يؤثرانه على نفسيهما في السرور، يجعلان نفسيهما (وقاية له من كل سوء ومحذور، فأمر الولد أن يشكر لوالديه جزاء ومكافأة لما كان إليه منهما إليه مما ذكرنا...
{إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما} ثم أمره أن يذكر الحال التي هو عليها، وهو حال طفوليته وصغره، أن كيف ربياه، وبراه، وعطفا عليه، ولانا قولا حتى لم يستقذروا منه شيئا مما يستقذر الناس بعضهم من بعض، ولم يبعدهما عنه ما يبعد الخلق بعضهم من بعض من أنواع الأذى والخبث، فأمره أن يعاملها إذا بلغا الحال التي كان هو عليها من الجهل، والضعف والعجز عن القيام بالحوائج على ما كان هو، وبلغا المبلغ الذي يستقذر منهما، ويبعد عنهما، ألا يستقذر منهما، و يبتعد عنهما كما لم يستقذرا هما منه...
{فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما} عند السؤال والحاجة إليه كما لم يفعلاهما له، بل يلين وبذل، كما لانا هما له، وخضعا... وقال بعضهم: قوله تعالى: {فلا تقل لهما أف} هو كناية عن إظهار الكراهة لهما في الوجه {ولا تنهرهما} أي لا تعنفهما في القول والكلام على ما لم يفعلا هما بك. وقال بعضهم: {أف} المراد منه هو {أف} لا غيره {ولا تنهرهما} أي لا تعنفهما، ولا تتخشن. لكنه ذكر أول حال الاستثقال والكراهة منه وآخرها، أي لا تقل لهما: أف على ما يستثقل الناس شيئا، ويكرهونه في أول حال، يرون شيئا مستثقلا مكروها، فيقولون: أف، أي لا تقل: أف لئلا يحمل ذلك على العنف والخشونة والنهر... فعلى ذلك قوله: {فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما} ذكر أول الحال وآخرها: (فأولها: {أف} وآخرها: {ولا تنهرهما} ) أي لا تظهر في وجهك من الكراهة والاستثقال (لئلا يحمل) ذلك على العنف والانتهار...
"وقل لهما قولا كريما" بعدما نهاه أن يقول لهما {أف} ونهاه أن ينهرهما. فإذا امتنع عن الأف والنهر قال بعد ذلك قولا لينا لطيفا... فإن قيل: ما الحكمة في ما قرن الله من شكر والديه شكره في غير آية من القرآن (كقوله) {أن اشكر لي ولوالديك}؟ (لقمان: 14) قيل: لأنه بهما كان نماؤه من أول حاله إلى آخر ما انتهى إليه من التغذية إليه والتربية والوقاية من كل سوء والحفظ من كل آفة وشر...
والخطاب من الله، وإن كان مع رسوله فالمراد منه غيره، لأن رسول الله معلوم أنه لم يدرك والديه في الوقت الذي أرسل فيه إليهم وخاطبه بما خاطب، دل أنه أراد بالخطاب غيره...
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
... فإن قيل هل أباح الله أن يقال لهما أف قبل أن يبلغا الكبر؟ قلنا: لا، لأن الله أوجب على الولد إطاعة الوالدين على كل حال. وحظر عليه أذاهما، وإنما خص الكبر، لأن وقت كبر الوالدين مما يضطر فيه الوالدان إلى الخدمة إذا كانا محتاجين عند الكبر...
"إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما" معناه متى بلغ واحد منهما أو هما الكبر "فلا تقل لهما أف "أي لا تؤذهما بقليل ولا كثير،
"ولا تنهرهما" أي لا تزجرهما بإغلاظ وصياح يقال: نهره... إذا أغلظ له.
"وقل لهما قولا كريما" أي شريفا تكرمهما به...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
أمَرَ بإفراده- سبحانه -بالعبادة، وذلك بالإخلاص فيما يستعمله العبدُ منها، وأن يكون مغلوباً باستيلاء سلطانِ الحقيقةِ عليه بما يَحْفَظُه عن شهودِ عبادته...
وأَمَرَ بالإحسان إلى الوالدين ومراعاةِ حقِّهما، والوقوفِ عند إشارتهما، والقيام بخدمتهما، وملازمة ما كان يعود إلى رضاهما وحُسْنِ عشرتهما ورعاية حُرْمَتهما، وألا يبديَ شواهدَ الكسلِ عند أوامرهما، وأن يَبْذُل المُكْنَةَ فيما يعود إلى حفظ قلوبهما... هذا في حال حياتهما، فأمَّا بعد وفاتهما فبِصِدْقِ الدعاء لهما، وأداءِ الصَدَقَةِ عنهما، وحِفْظِ وصيتهما على الوجه الذي فَعَلاَه، والإحسان إلى مَنْ كان مِنْ أهلِ ودِّهما ومعارفهما...
أحكام القرآن لإلكيا الهراسي 504 هـ :
قرن ذكر الوالدين بعبادة الله سبحانه، فنبه به على عظيم إنعام الله تعالى المقتضي للشكر، ونبه بعد ذلك على عظيم نعم الوالدين، وبين اختلاف الوالدين، ليكون بره بهما وإحسانه إليهما على قدر حاجاتهما فقال: {إمَا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الكِبَرَ أَحَدُهُما أَوْ كِلاَهُما}، فخص هذه الحالة بالذكر، وهي حالة حاجتهما إلى بره لتغيير الحال عليهما بالضعف النازل والكبر، فألزم في هذه الحالة من مراعاة أحوالهما أكثر مما ألزم من قبل، لأنهما قد صارا في هذه الحالة كلا عليه، فيحتاجان إلى أن يلي من أمرهما للضعف النازل منهما، ما كان يحتاجه هو في صغره أن يليان منه، فذلك معنى تخصيص هذه الحالة بالذكر، ليبين ما يلزم من مزيد البر والتعاهد، وما يتصل بخدمة وإنفاق...
ودل قوله تعالى: {فَلاَ تَقُل لَهُمَا أُف}: على وجوب صبره عليهما حتى لا يتبرم ولا يضجر، فإن العادة جارية في المتضجر عند الأمر أن يقول أف أو تف في الأمور، فبين الله سبحانه تحريم هذا القدر من التبرم على الولد عند ضعف الوالدين وحاجتهما إلى بره، ولم يقتصر تعالى على هذا القدر في بيان حقهما حتى قال: {وَلاَ تَنْهَرْهُمَا}، مؤكداً لما تقدم ودالاً به على أن الواجب في بره لهما سلوك طريقة اللين في القول، ثم قال: {وقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيماً}: والكريم من القول ما يوافق مسرة النفس، ولا ينفر عنه الطبع... ثم بين الله تعالى أن الذي يلزم لهما ليس مقصوراً على منافع الدنيا، بل يلزمه مع ذلك ما يمكن في باب الآخرة من الدعاء، لأنه لا يقدر منهما على ما سواه، فقال: {وقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبّيَانِي صَغِيراً}، بين العلة في لزوم الدعاء لهما، وبين أنه يلزم الولد من الدعاء للوالدين، أكثر مما يلزمه في غيرهما...
جهود الإمام الغزالي في التفسير 505 هـ :
الآية سيقت لقصد معلوم، وهو: الحث على توقير الوالدين وإعظامهما واحترامهما، والبر والإحسان إليهما، والتأفيف والإيذاء يناقض الإعظام الواجب...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{وقضى رَبُّكَ} وأمر أمراً مقطوعاً به {أَلاَّ تَعْبُدُواْ} أن مفسرة ولا تعبدوا نهي. أو بأن لا تعبدوا {وبالوالدين إحسانا} وأحسنوا بالوالدين إحساناً. أو بأن تحسنوا بالوالدين إحساناً...
فإن قلت: ما معنى عندك؟ قلت: هو أن يكبرا ويعجزا، وكانا كلا على ولدهما لا كافل لهما غيره، فهما عنده في بيته وكنفه، وذلك أشق عليه وأشدّ احتمالاً وصبراً، وربما تولى منهما ما كانا يتوليان منه في حال الطفولة، فهو مأمور بأن يستعمل معهما وطأة الخلق ولين الجانب والاحتمال، حتى لا يقول لهما إذا أضجره ما يستقذر منهما أو يستثقل من مؤنهما: أف، فضلاً عما يزيد عليه. ولقد بالغ سبحانه في التوصية بهما حيث افتتحها بأن شفع الإحسان إليهما بتوحيده، ونظمهما في سلك القضاء بهما معاً، ثم ضيق الأمر في مراعاتهما حتى لم يرخص في أدنى كلمة تنفلت من المتضجر مع موجبات الضجر ومقتضياته، ومع أحوال لا يكاد يدخل صبر الإنسان معها في استطاعة، {وَلاَ تَنْهَرْهُمَا}: ولا تزجرهما عما يتعاطيانه مما لا يعجبك. والنهي والنهر والنهم: أخوات {وَقُل لَّهُمَا} بدل التأفيف والنهر {قَوْلاً كَرِيمًا} جميلاً، كما يقتضيه حسن الأدب والنزول على المروءة.
أحكام القرآن لابن العربي 543 هـ :
فَفِي الصَّحِيحِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو أَنَّهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إنَّ من أَكْبَرِ الْكَبَائِرِ أَنْ يَلْعَنَ الرَّجُلُ وَالِدَيْهِ. قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَكَيْفَ يَلْعَنُ الرَّجُلُ وَالِدَيْهِ؟ قَالَ: يَسُبُّ أَبَا الرَّجُلِ فَيَسُبُّ أَبَاهُ، وَيَسُبُّ أُمَّهُ فَيَسُبُّ أُمَّهُ)...
{إمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَك الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا}: خَصَّ حَالَةَ الْكِبَرِ؛ لِأَنَّهَا بِطُولِ الْمَدَى تُوجِبُ الِاسْتِثْقَالَ عَادَةً، وَيَحْصُلُ الْمَلَلُ، وَيَكْثُرُ الضَّجَرُ، فَيَظْهَرُ غَضَبُهُ عَلَى أَبَوَيْهِ، وَتَنْتَفِخُ لَهُمَا أَوْدَاجُهُ، وَيَسْتَطِيلُ عَلَيْهِمَا بِدَالَّةِ الْبُنُوَّةِ، وَقِلَّةِ الدِّيَانَةِ... وَأَقَلُّ الْمَكْرُوهِ أَنْ يُؤَفِّفَ لَهُمَا؛ وَهُوَ مَا يُظْهِرُهُ بِتَنَفُّسِهِ الْمُرَدَّدِ من الضَّجَرِ...
القضاء معناه الحكم الجزم البت الذي لا يقبل النسخ. وإذا كان المنعم بجميع النعم هو الله لا غيره، لا جرم كان المستحق للعبادة هو الله تعالى لا غيره...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما كان سبحانه عليماً بما في الطباع من ملال الولد لهما عند أخذهما في السن، قال تعالى: {إما} مؤكداً بإدخال "ما "على الشرطية لزيادة التقرير للمعنى اهتماماً بشأن الأبوين {يبلغن عندك} أي بأن يضطر إليك فلا يكون لهما كافل غيرك {الكبر} ونفى كل احتمال يتعلق به المتعنت بقوله تعالى: {أحدهما أو كلاهما} فيعجزا بحيث يكونان في كفالتك {فلا تقل لهما أف} أي لا تتضجر منهما.. وقال الأستاذ أبو الحسن الحرالي رحمه الله في كتابه في أصول الفقه: وقد أولع الأصوليون بأن يذكروا في جملة هذا الباب -أي باب الاستدلال بالملزوم على اللازم والأدنى على الأعلى- قوله تعالى: {ولا تقل لهما أف} بناء على أن التأفيف عندهم أقل شيء يعق به الأب، وذلك حائد عن سنن البيان ووجه الحكمة، لأنه ليس في العقوق شيء أشد من التأفيف لأنه إنما يقال للمستقذر المسترذل، ولذلك عطف عليه {ولا تنهرهما} لأنه لا يلزم منه لزوم سواء ولا لزوم أحرى، ولا يصلح فيما يقع أدنى أن يعطف عليه ما يلزمه سواء أو أحرى، كما لو قال قائل: من يعمل ذرة خيراً يره، ومن يعمل قيراطاً يره، لم يصلح عطفه عليه لإفادة الأول إياه، ولعل ذلك شيء وهل فيه واهل فسلك إثره من غير اعتبار لقوله -انتهى...
ولما نهاه عن عقوقهما تقديماً لما تدرأ به المفسدة، أمره ببرهما جلباً للمصلحة، فقال تعالى: {وقل لهما} أي بدل النهر وغيره {قولاً كريماً} أي حسناً جميلاً يرضاه الله ورسوله مع ما يظهر فيه من اللين والرقة والشفقة وجبر الخاطر وبسط النفس، كما يقتضيه حسن الأدب وجميل المروءة...
فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير للشوكاني 1250 هـ :
وقال الأصمعي: الأف وسخ الأذن، والثف: وسخ الأظفار، يقال ذلك: عند استقذار الشيء، ثم كثر حتى استعملوه في كل ما يتأذون به. {قَوْلاً كَرِيمًا} أي: ليناً لطيفاً أحسن ما يمكن التعبير عنه من لطف القول وكرامته مع التأدب والحياء والاحتشام.
مجالس التذكير من كلام الحكيم الخبير لابن باديس 1359 هـ :
(القضاء) يكون بمعنى الإرادة، وهذا هو القضاء الكوني التقديري الذي لا يتخلف متعلقه فما قضاه الله لابد من كونه. ويكون القضاء بمعنى الأمر والحكم، وهذا هو القضاء الشرعي الذي يمتثله الموفقون، ويخالفه المخذولون، والذي في الآية من هذا الثاني... فالله تعالى يعلم الخلق كلهم في هذه الآية بأنه أمر أمرا عاما، وحكم حكما جازما بأن العبادة لا تكون إلا له. و جيء باسم الرب في مقام الأمر بقصر العبادة عليه تنبيها على أن الذي يستحق العبادة هو من له الربوبية بالخلق والتدبير والملك والإنعام، وليس ذلك الإله. فلا يستحق العبادة بأنواعها سواه، فهو تنبيه بوحدانية الربوبية التي من مقتضاها انفراده بالخلق والأمر الكوني والشرعي على وحدانية الألوهية التي من مقتضاها استحقاقه وحده عبادة جميع مخلوقاته...
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
{إِلَّا إِيَّاهُ} لأنه الواحد الأحد الفرد الصمد الذي له كل صفة كمال، وله من تلك الصفة أعظمها على وجه لا يشبهه أحد من خلقه، وهو المنعم بالنعم الظاهرة والباطنة الدافع لجميع النقم الخالق الرازق المدبر لجميع الأمور فهو المتفرد بذلك كله وغيره ليس له من ذلك شيء...
ثم ذكر بعد حقه القيام بحق الوالدين فقال: {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} أي: أحسنوا إليهما بجميع وجوه الإحسان القولي والفعلي لأنهما سبب وجود العبد ولهما من المحبة للولد والإحسان إليه والقرب ما يقتضي تأكد الحق ووجوب البر...
{وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا} بلفظ يحبانه وتأدب وتلطف بكلام لين حسن يلذ على قلوبهما وتطمئن به نفوسهما، وذلك يختلف باختلاف الأحوال والعوائد والأزمان...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ولفظة (قضى) تخلع على الأمر معنى التوكيد، إلى جانب القصر الذي يفيده النفي والاستثناء (ألا تعبدوا إلا إياه) فتبدو في جو التعبير كله ظلال التوكيد والتشديد... (وبالوالدين إحسانا إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما: أف ولا تنهرهما وقل لهما قولا كريما، واخفض لهما جناح الذل من الرحمة، وقل: رب ارحمهما كما ربياني صغيرا). بهذه العبارات الندية، والصور الموحية، يستجيش القرآن الكريم وجدان البر والرحمة في قلوب الأبناء. ذلك أن الحياة وهي مندفعة في طريقها بالأحياء، توجه اهتمامهم القوي إلى الأمام. إلى الذرية. إلى الناشئة الجديدة. إلى الجيل المقبل. وقلما توجه اهتمامهم إلى الوراء. إلى الأبوة. إلى الحياة المولية. إلى الجيل الذاهب! ومن ثم تحتاج البنوة إلى استجاشة وجدانها بقوة لتنعطف إلى الخلف، وتتلفت إلى الآباء والأمهات...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
وافتتحت هذه الأحكام والوصايا بفعل القضاء اهتماماً به وأنه مما أمر الله به أمراً جازماً وحكماً لازماً، وليس هو بمعنى التقدير كقوله: {وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب} [الإسراء: 4] لظهور أن المذكورات هنا مما يقع ولا يقع...
وجيء بخطاب الجماعة في قوله: {ألا تعبدوا إلا إياه} لأن النهي يتعلق بجميع الناس وهو تعريض بالمشركين... والخطاب في قوله: {ربك} للنبيء صلى الله عليه وسلم كالذي في قوله قبل: {من عطاء ربك} [الإسراء: 20]، والقرينة ظاهرة. ويجوز أن يكون لغير معين فيعم الأمة والمآل واحد... وابتدئ التشريع بالنهي عن عبادة غير الله لأن ذلك هو أصل الإصلاح، لأن إصلاح التفكير مقدم على إصلاح العمل، إذ لا يشاق العقل إلى طلب الصالحات إلا إذا كان صالحاً. وفي الحديث: « ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب»...
{وبالوالدين إحسانا إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما وقل لهما قولا كريما}. هذا أصل ثانٍ من أصول الشريعة وهو بر الوالدين. وانتصب {إحساناً} على المفعولية المطلقة مصدر نائباً عن فعله. والتقدير: وأحسنوا إحساناً بالوالدين كما يقتضيه العطف على {ألا تعبدوا إلا إياه} أي وقضى إحساناً بالوالدين... {وبالوالدين}... وتقديمه على متعلقه للاهتمام به... والتعريف في الوالدين للاستغراق باعتبار والدي كل مكلف ممن شملهم الجمع في {ألا تعبدوا}... وعطف الأمر بالإحسان إلى الوالدين على ما هو في معنى الأمر بعبادة الله لأن الله هو الخالق فاستحق العبادة لأنه أوجد الناس. ولما جعل الله الأبوين مظهرَ إيجاد الناس أمر بالإحسان إليهما، فالخالق مستحق العبادة لغناه عن الإحسان، ولأنها أعظم الشكر على أعظم منة،، وسببُ الوجود دون ذلك فهو يستحق الإحسان لا العبادة لأنه محتاج إلى الإحسان دون العبادة، ولأنه ليس بمُوجد حقيقي، ولأن الله جبل الوالدين على الشفقة على ولدهما، فأمر الولد بمجازاة ذلك بالإحسان إلى أبويه... والخطاب لغير معين فيعم كل مخاطب بقرينة العطف على {ألا تعبدوا إلا إياه} وليس خطاباً للنبيء صلى الله عليه وسلم إذ لم يكن له أبوان يومئذٍ. وإيثار ضمير المفرد هنا دون ضمير الجمع لأنه خطاب يختص بمن له أبوان من بين الجماعة المخاطبين بقوله: {ألا تعبدوا إلا إياه} فكان الإفراد أنسب به وإن كان الإفراد والجمع سواء في المقصود لأن خطاب غير المعين يساوي خطاب الجمع...
ووجه تَعدد فاعل {يبلغن} مُظهراً دون جعله بضمير التثنية بأن يقال إما يبلغَانِّ عندك الكبر، الاهتمام بتخصيص كل حالة من أحوال الوالدين بالذكر، ولم يستغن بإحدى الحالتين عن الأخرى لأن لكل حالة بواعث على التفريط في واجب الإحسان إليهما، فقد تكون حالة اجتماعهما عند الابن تستوجب الاحتمال منهما لأجل مراعاة أحدهما الذي الابن أشد حُبّاً له دون ما لو كان أحدهما منفرداً عنده بدون الآخر الذي ميله إليه أشد، فالاحتياج إلى ذكر أحدهما في هذه الصورة للتنبيه على وجوب المحافظة على الإحسان له. وقد تكون حالة انفراد أحد الأبوين عند الابن أخف كلفة عليه من حالة اجتماعهما، فالاحتياج إلى {أو كلاهما} في هذه الصورة للتحذير من اعتذار الابن لنفسه عن التقصير بأن حالة اجتماع الأبوين أحرَج عليه، فلأجل ذلك ذكرت الحالتان وأجري الحكم عليهما على السواء، فكانت جملة {فلا تقل لهما أف} بتمامها جواباً ل (إما)...
وليس المقصود من النهي عن أن يقول لهما {أف} خاصة، وإنما المقصود النهي عن الأذى الذي أقله الأذى باللسان بأوْجز كلمة، وبأنها غير دالة على أكثر من حصُول الضجر لقائلها دون شتم أو ذم، فيفهم منه النهي مما هو أشد أذى بطريق فحوى الخطاب بالأوْلى... ثم أمر بإكرام القول لهما. والكريم من كل شيء: الرفيع في نوعه...
العبادة: هي إطاعة آمر في أمره ونهيه، فتنصاع له تنفيذاً للأمر، واجتناباً للنهي، فإن ترك لك شيئاً لا أمر فيه ولا نهي فاعلم أنه ترك لك الاختيار، وأباح لك: تفعل أو لا تفعل...: التربية والرعاية في الوالدين محسة، أما التربية والرعاية من الله فمعقولة، فأمر الله لك بالإحسان إلى الوالدين دليل على وجوب عبادة الله وحده لا شريك له، فهو سبحانه الذي خلقك، وهو سبب وجودك الأول، وهو مربيك وصاحب رعايتك، وصاحب الفضل عليك قبل الوالدين... لابد أن يلتحم حق الله بحق الوالدين، وأن نأخذ أحدهما دليلاً على الآخر. ونلاحظ أن الحق تبارك وتعالى حين أمرنا بعبادته جاء بأسلوب النفي: {ألا تعبدوا}: يعني نهانا أن نعبد غيره سبحانه، أما حين تكلم عن الوالدين فلم يقل مثلاً: لا تسيئوا للوالدين، فيأتي بأسلوب نفي كسابقه، لماذا؟ قالوا: لأن فضل الوالدين واضح لا يحتاج إلى إثبات، ولا يحتاج إلى دليل عقلي، وقولك: لا تسيئوا للوالدين يجعلهما مظنة الإساءة، وهذا غير وارد في حقهما، وغير متصور منهما، وأنت إذا نفيت شيئاً عن من لا يصح أن ينفي عنه فقد ذممته...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
{إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا} فتقدّم السنّ يؤدّي إلى اختلال المزاج وسوء الخلق، وضيق الصدر، ما ينعكس على تصرفاتهما التي تتخذ جانباً سلبياً ضد الناس الذين يعيشون معهما، لا سيما أولادهما الذين يشعرون بالضيق من ذلك، فيحدث بسببه ردّ فعل سلبيٍّ تجاههما، ما يوجب صدور الإساءة منهم إليهما، لأن القوي عادةً يضغط على الضعيف ويؤذيه ويهينه، وبذلك نفهم أن الكبر ليس له خصوصيةٌ في ذاته، بل الخصوصية له بلحاظ ما يستتبعه من تصرفاتٍ تؤدي إلى ردود فعلٍ سلبيةٍ من قبل الولد...
{وَلاَ تَنْهَرْهُمَا} أي لا تغلظ عليهما بالزجر والصوت الشديد القاسي {وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيماً} بالكلمة الحلوة اللطيفة التي تحمل الحب والعطف والحنان وتوحي بالانفتاح والاحترام والإعزاز والكرامة والابتسامة المشرقة والنظرة الحنونة...