قوله تعالى : { فلما أن جاء البشير } ، وهو المبشر عن يوسف ، قال ابن مسعود : جاء البشير بين يدي العير . قال ابن عباس : هو يهوذا . قال السدي : قال يهوذا : أنا ذهبت بالقميص ملطخا بالدم إلى يعقوب فأخبرته أن يوسف أكله الذئب ، فأنا أذهب إليه اليوم بالقميص فأخبره أن ولده حي فأفرحه كما أحزنته . قال ابن عباس : حمله يهوذا وخرج حافيا حاسرا يعدو ومعه سبعة أرغفة لم يستوف أكلها حتى أتى أباه ، وكانت المسافة ثمانين فرسخا . وقيل : البشير مالك بن ذعر .
قوله تعالى : { ألقاه على وجهه } ، يعني : ألقى البشير قميص يوسف على وجه يعقوب ، { فارتد بصيرا } فعاد بصيرا بعد ما كان عمي وعادت إليه قوته بعد الضعف ، وشبابه بعد الهرم وسروره بعد الحزن .
قوله تعالى : { قال ألم أقل لكم إني أعلم من الله ما لا تعلمون } ، من حياة يوسف وأن الله يجمع بيننا . وروي أنه قال للبشير : كيف تركت يوسف ؟ قال : إنه ملك مصر ، فقال يعقوب : ما أصنع بالملك على أي دين تركته ؟ قال : على دين الإسلام ، قال : الآن تمت النعمة .
{ فَلَمَّا أَنْ جَاءَ الْبَشِيرُ } بقرب الاجتماع بيوسف وإخوته وأبيهم ، { أَلْقَاهُ } أي : القميص { عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيرًا } أي : رجع على حاله الأولى بصيرا ، بعد أن ابيضت عيناه من الحزن ، فقال لمن حضره من أولاده وأهله الذين كانوا يفندون رأيه ، ويتعجبون منه منتصرا عليهم ، متبجحا بنعمة الله عليه : { أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ } حيث كنت مترجيا للقاء يوسف ، مترقبا لزوال الهم والغم والحزن .
القول في تأويل قوله تعالى : { فَلَمّآ أَن جَآءَ الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَىَ وَجْهِهِ فَارْتَدّ بَصِيراً قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لّكُمْ إِنّيَ أَعْلَمُ مِنَ اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } .
يقول تعالى ذكره : فلما أن جاء يعقوبَ البشيرُ من عند ابنه يوسف ، وهو المبشر برسالة يوسف ، وذلك بريد فيما ذكر كان يوسف يردّه إليه ، وكان البريد فيما ذكر والبشير يهوذا بن يعقوب أخا يوسف لأبيه . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : فَلَمّا أنْ جاءَ البَشِيرُ ألْقاهُ على وَجْهِهِ يقول : البشير : البريد .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا جويبر عن الضحاك : فَلَمّا أنْ جاءَ البَشِيرُ قال : البريد .
حدثنا الحسن بن محمد ، قال : حدثنا محمد بن يزيد الواسطي ، عن جويبر ، عن الضحاك : فَلَمّا أنْ جاءَ البَشِيرُ قال : البريد .
قال : حدثنا شبابة ، قال : حدثنا ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : فَلَمّا أنْ جاءَ البَشِيرُ قال : يهوذا بن يعقوب .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : البَشِيرُ قال : يهوذا بن يعقوب .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قال : يهوذا بن يعقوب .
قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الله ، عن ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قال : هو يهوذا بن يعقوب .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج : فَلَمّا أنْ جاءَ البَشِيرُ قال : يهوذا بن يعقوب كان البشير .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الله بن الزبير ، عن سفيان ، عن ابن جريج ، عن مجاهد : فَلَمّا أنْ جاءَ البَشِيرُ قال : هو يهوذا بن يعقوب .
قال سفيان : وكان ابن مسعود يقرأ : وجاء البشير من بين يدي العير .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا المحاربي ، عن جويبر ، عن الضحاك : فَلَمّا أنْ جاءَ البَشِيرُ قال : البريد هو يهوذا بن يعقوب .
قال : حدثنا عمرو ، عن أسباط ، عن السديّ ، قال : قال يوسف : اذْهَبُوا بقَمِيصِي هَذَا فألْقُوهُ على وَجْهِ أبي يَأْتِ بَصِيرا وأْتُونِي بأهْلِكُمْ أجمَعِينَ قال يهوذا : أنا ذهبت بالقميص ملطخا بالدم إلى يعقوب فأخبرته أن يوسف أكله الذئب ، وأنا أذهب اليوم بالقميص وأخبره أنه حيّ فأفرّحه كما أحزنته . فهو كان البشير .
حدثنا أحمد بن إسحاق ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا هشيم ، عن جويبر ، عن الضحاك : فَلَمّا أنْ جاءَ البَشِيرُ قال : البريد .
وكان بعض أهل العربية من أهل الكوفة يقول : «أن » في قوله : فَلَمّا أنْ جاءَ البَشِيرُ وسقوطها بمعنى واحد ، وكان يقول هذا في «لما » و «حتى » خاصة ، ويذكر أن العرب تدخلها فيهما أحيانا وتسقطها أحيانا ، كما قال جلّ ثناؤه : ولَمّا أنْ جاءَتْ رُسُلُنا ، وقال في موضع آخر : ولَمّا جاءَتْ رُسُلُنا وقال : هي صلة لا موضع لها في هذين الموضعين ، يقال : حتى كان كذا وكذا ، وحتى أن كان كذا وكذا .
وقوله : ألْقاهُ على وَجْههِ يقول : ألقى البشير قميص يوسف على وجه يعقوب . كما :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : فَلَمّا أنْ جاءَ البَشِيرُ ألقى القميص على وجهه .
وقوله : فارْدَتدّ بَصِيرا يقول : رجع وعاد مبصرا بعينيه بعد ما قد عمي . قالَ أَلمْ أقُلْ لَكُمْ إنّي أعْلَمُ مِنَ اللّهِ ما لا تَعْلَمُونَ يقول عزّ وجلّ : قال يعقوب لمن كان بحضرته حينئذٍ من ولده : ألم أقل لكم يا بنيّ إنى أعلم من الله أنه سيردّ عليّ يوسف ، ويجمع بيني وبينه ، وكنتم لا تعلمون أنتم من ذلك ما كنت أعلمه ، لأن رؤيا يوسف كانت صادقة ، وكان الله قد قضى أن أخِرّ أنا وأنتم له سجودا ، فكنت موقنا بقضائه .
{ فلما أن جاءه البشير ألقاه على وجهه فارتد بصسرا } .
{ أن } في قوله : { فلما أن جاء البشير } مزيدة للتأكيد . ووقوع { أنْ } بعد { لمّا } التوقيتية كثير في الكلام كما في « مغني اللّبيب » .
وفائدة التأكيد في هذه الآية تحقيق هذه الكرامة الحاصلة ليعقوب عليه السلام لأنها خارق عادة ، ولذلك لم يؤت ب { أن } في نظائر هذه الآية مما لم يكن فيه داع للتأكيد .
والبشير : فعيل بمعنى مُفعل ، أي المُبشر ، مثل السميع في قول عمرو بن معديكرب :
والتبشير : المبادرة بإبلاغ الخبر المسرّ بقصد إدخال السرور . وتقدم عند قوله تعالى : { يبشرّهم ربهم برحمة منه } في سورة براءة ( 21 ) . وهذا البشير هو يهوذا بن يعقوب عليه السلام تقدم بين يدي العِير ليكون أول من يخبر أباه بخبر يوسف عليه السلام .
وارتد : رجع ، وهو افتعال مطاوع ردّه ، أي رد الله إليه قوة بصره كرامة له وليوسف عليهما السلام وخارق للعادة . وقد أشرت إلى ذلك عند قوله تعالى : { وابيضّت عيناه من الحزن } [ سورة يوسف : 84 ] .
{ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَّكُمْ إنى أَعْلَمُ مِنَ الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ }
جواب للبشارة لأنها تضمنت القول ، ولذلك جاء فعل { قال } مفصولاً غير معطوف لأنه على طريقة المحاورات ، وكان بقية أبنائه قد دخلوا فخاطبهم بقوله : { ألم أقل لكم إني أعلم من الله ما لا تعلمون } فبيّن لهم مجمل كلامه الذي أجابهم به حين قالوا : { تالله تفتأ تذكر يوسف } [ يوسف : 85 ] الخ .