قوله تعالى : { ولئن أخرنا عنهم العذاب إلى أمة معدودة } ، إلى أجل محدود ، وأصل الأمة : الجماعة ، فكأنه قال : إلى إقراض أمة ومجيء أمة أخرى { ليقولن ما يحبسه } ، أي شيء يحبسه ؟ يقولونه استعجالا للعذاب واستهزاء ، يعنون : أنه ليس بشيء . قال الله تعالى :{ ألا يوم يأتيهم } ، يعني : العذاب ، { ليس مصروفا عنهم } ، لا يكون مصروفا عنهم ، { وحاق بهم } ، نزل بهم ، } ما كانوا به يستهزئون } ، أي : وبال استهزائهم .
{ وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ } أي : إلى وقت مقدر فتباطأوه ، لقالوا من جهلهم وظلمهم { مَا يَحْبِسُهُ } ومضمون هذا تكذيبهم به ، فإنهم يستدلون بعدم وقوعه بهم عاجلا على كذب الرسول المخبر بوقوع العذاب ، فما أبعد هذا الاستدلال "
{ أَلَا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ } العذاب { لَيْسَ مَصْرُوفًا عَنْهُمْ } فيتمكنون من النظر في أمرهم .
{ وَحَاقَ بِهِمْ } أي : نزل { مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ } من العذاب ، حيث تهاونوا به ، حتى جزموا بكذب من جاء به .
شأنهم في التكذيب بالبعث ، وجهلهم بارتباطه بناموس الكون ، هو شأنهم في مسألة العذاب الدنيوي ، فهم يستعجلونه ويتساءلون عن سبب تأخيره ، إذا ما اقتضت الحكمة الأزلية أن يتأخر عنهم فترة من الوقت : ( ولئن أخرنا عنهم العذاب إلى أمة معدودة ليقولن : ما يحبسه ؟ ألا يوم يأتيهم ليس مصروفا عنهم ، وحاق بهم ما كانوا به يستهزؤون )
لقد كانت القرون الأولى تهلك بعذاب من عند الله يستأصلها ، بعد أن يأتيهم رسولهم بالخوارق التي يطلبونها ثم يمضون هم في التكذيب . ذلك أنها كانت رسالات مؤقتة لأمة من الناس ، ولجيل واحد من هذه الأمة . والمعجزة كذلك لا يشهدها إلا هذا الجيل ، ولا تبقى لتشاهدها أجيال أخرى لعلها تؤمن بها أكثر مما آمن الجيل الذي شهدها أول مرة .
فأما الرسالة المحمدية فقد كانت خاتمة الرسالات ، ولجميع الأقوام وجميع الأجيال ، وكانت المعجزة التي صاحبتها معجزة غير مادية ، فهي قابلة للبقاء ، قابلة لأن تتدبرها أجيال وأجيال ، وتؤمن بها أجيال وأجيال ، ومن ثم اقتضت الحكمة ألا تؤخذ هذه الأمة بعذاب الاستئصال . وأن يقع العذاب على أفراد منها في وقت معلوم . . وكذلك كان الحال في الأمم الكتابية قبلها من اليهود والنصارى ، فلم يعم فيهم عذاب الاستئصال .
ولكن المشركين في جهلهم بنواميس الله الخاصة بخلق الإنسان على هذا النحو من القدرة على الاختيار والاتجاه ؛ وخلق السماوات والأرض على نحو يسمح له بالعمل والنشاط والبلاء ينكرون البعث . وفي جهلهم بسنن الله في الرسالات والمعجزات والعذاب يتساءلون إذا ما أخر عنهم إلى أمة من السنوات أو الأيام - أي مجموعة منها - ما يحبسه ؟ وما يؤخره ؟ فلا يدركون حكمة الله ولا رحمته . وهو يوم يأتيهم لا يصرف عنهم ، بل يحيط بهم ، جزاء لاستهزائهم الذي يدل عليه سؤالهم واستهتارهم :
ألا يوم يأتيهم ليس مصروفا عنهم وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون .
إن عذاب الله لا تستعجله نفس مؤمنة ولا نفس جادة . وإذا ما أبطأ فهي حكمة ورحمة . ليؤمن من يتهيأ للإيمان .
وفي فترة التأجيل التي صرف الله العذاب فيها عن مشركي قريش ، كم آمن منهم من رجال حسن إسلامهم وأبلوا أحسن البلاء . وكم ولد لكفارهم من ذرية نشأت فيما بعد في الإسلام . . وهذه وتلك بعض الحكم الظاهرة والله يعلم ما بطن . ولكن البشر القاصرين العجولين لا يعلمون .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلَئِنْ أَخّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَىَ أُمّةٍ مّعْدُودَةٍ لّيَقُولُنّ مَا يَحْبِسُهُ أَلاَ يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ وَحَاقَ بِهِم مّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ } .
يقول تعالى ذكره : ولئن أخرنا عن هؤلاء المشركين من قومك يا محمد العذاب فلم نعجله لهم ، وأنسأنا في آجالهم إلى أمة معدودة ووقت محدود وسنين معلومة . وأصل الأمة ما قد بيّنا فيما مضى من كتابنا هذا أنها الجماعة من الناس تجتمع على مذهب ودين ، ثم تستعمل في معان كثيرة ترجع إلى معنى الأصل الذي ذكرت . وإنما قيل للسنين المعدودة والحين في هذا الموضع ونحوه أمة ، لأن فيها تكون الأمة . وإنما معنى الكلام : ولئن أخرنا عنهم العذاب إلى مجيء أمة وانقراض أخرى قبلها .
وبنحو الذي قلنا من أن معنى الأمة في هذا الموضع الأجل والحين قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، وحدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو نعيم ، قال : حدثنا سفيان الثوري ، عن عاصم ، عن أبي رزين ، عن ابن عباس . وحدثنا الحسن بن يحيى ، قال أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا الثوري ، عن عاصم ، عن أبي رزين ، عن ابن عباس : وَلَئِنْ أخّرْنا عَنْهُمُ العَذَابَ إلى أُمّةٍ مَعْدُودَةٍ قال : إلى أجل محدود .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن عاصم ، عن أبي رزين ، عن ابن عباس ، بمثله .
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : إلى أُمّةٍ مَعْدُودَةٍ قال : أجل معدود .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا المحاربي ، عن جويبر ، عن الضحاك ، قال : إلى أجل معدود .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : إلى أُمّةٍ مَعْدُودَةٍ قال : إلى حين .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الله ، عن ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج : وَلَئِنْ أخّرْنا عَنْهُمُ العَذَابَ إلى أُمّةٍ مَعْدُودَةٍ يقول : أمسكنا عنهم العذاب إلى أمة معدودة . قال ابن جريج : قال مجاهد : إلى حين .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : وَلَئِنْ أخّرْنا عَنْهُمُ العَذَابَ إلى أُمّةٍ مَعْدُودَةٍ يقول : إلى أجل معلوم .
وقوله : لَيَقُولُنّ ما يَحْبِسُهُ يقول : ليقولنّ هؤلاء المشركون ما يحبسه ؟ أيّ شيء يمنعه من تعجيل العذاب الذي يتوعدنا به ؟ تكذيبا منهم به ، وظنّا منهم أن ذلك إنما أخر عنهم لكذب المتوعد . كما :
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قوله : لَيَقُولُنّ ما يَحْبِسُهُ قال : للتكذيب به ، أو أنه ليس بشيء .
وقوله : ألا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفا عَنْهُمْ يقول تعالى ذكره تحقيقا لوعيده وتصحيحا لخبره : ألا يوم يأتيهم العذاب الذي يكذّبون به ليس مصروفا عنهم ، يقول : ليس يصرفه عنهم صارف ، ولا يدفعه عنهم دافع ، ولكنه يحلّ بهم فيهلكهم . وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ يقول : ونزل بهم وأصابهم الذي كانوا به يسخرون من عذاب الله . وكان استهزاؤهم به الذي ذكره الله قيلهم قبل نزوله ما يحبسه نقلاً بأنبيائه .
وبنحو الذي قلنا في ذلك كان بعض أهل التأويل . يقول ذكر من قال ذلك :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ قال : ما جاءت به أنبياؤهم من الحقّ .
وقوله تعالى : { ولئن أخرنا عنهم العذاب } الآية ، المعنى : ولئن تأخر العذاب الذي توعدتم به عن الله قالوا ما هذا الحابس لهذا العذاب ؟ على جهة التكذيب . و «الأمة » في هذه الآية : المدة كما قال { وادكر بعد أمة }{[6270]} [ يوسف : 45 ] . قال الطبري سميت بذلك المدة لأنها تمضي فيها أمة من الناس وتحدث فيها أخرى ، فهي على هذه المدة الطويلة .
ثم استفتح بالإخبار عن أن هذا العذاب يوم يأتي لا يرده ولا يصرفه . و { حاق } معناه : حل وأحاط وهي مستعملة في المكروه و { يوم } منتصب بقوله : { مصروفاً }{[6271]} .
{ ولئن أخرنا عنهم العذاب إلى أمة معدودة ليقولن ما سحبسه }
مناسبته لما قبله أن في كليهما وصف فنّ من أفانين عناد المشركين وتهكمهم بالدعوة الإسلامية ، فإذا خبّرهم الرسول صلى الله عليه وسلم بالبعث وأنّ شركهم سببٌ لتعذيبهم جعلوا كلامه سحراً ، وإذا أنذرهم بعقوبة العذاب على الإشراك استعجلوه ، فإذا تأخّر عنهم إلى أجل اقتضته الحكمة الربّانيّة استفهموا عن سبب حبسه عنهم استفهام تَهكم ظناً أن تأخره عجز .
واللام موطئة للقسم . وجملة { ليقولن مَا يَحبسه } جواب القسم مغنية من جواب الشرط .
والأمّة : حقيقتها الجماعة الكثيرة من النّاس الذين أمْرُهُمْ واحد ، وتطلق على المُدة كأنهم رَاعَوا أنّها الأمد الذي يظهر فيه جيل فأطلقت على مطلق المدة ، أي بعد مدة .
و { معدودة } معناه مقدرة ، أي مؤجلة . وفيه إيماء إلى أنّها ليست مديدة لأنّه شاع في كلام العرب إطلاق العَدّ والحساب ونحوهما على التّقليل ، لأن الشيء القليل يمكن ضبطه بالعدد ، ولذلك يقولون في عكسه : بغير حساب ، مثل { والله يرزق من يشاء بغير حساب } [ البقرة : 212 ] .
والحبس : إلزام الشيء مكاناً لا يتجاوزه . ولذلك يستعمل في معنى المنع كما هنا ، أي ما يمنع أن يصل إلينا ويحل بنا وهم يريدون التهكم .
{ أَلاَ يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ } .
هذه الجملة واقعة موقع الجواب عن كلامهم إذ يقولون ما يحبس عنا العذاب ، فلذلك فصلت كما تفصل المحاورة . وهذا تهديد وتخويف بأنّه لا يصرف عنهم ولكنه مؤخر .
وافتُتح الكلام بحرف التّنبيه للاهتمام بالخبر لتحقيقه وإدخال الروع في ضمائرهم .
وتقديم الظرف للإيماء بأنّ إتيان العذاب لا شك فيه حتى أنه يوقّت بوقت .
والمعنى : أنه حالّ بهم حلولاً لا مخلص منه بحال .
وجملة { وحَاقَ بهم } في موضع الحال أو معطوفة على خبر { ليس } .
وصيغة المضي مستعملة في معنى التحقق ، وهذا عذاب القتل يوم بدر .
وماصدق { ما كانوا به يستهزئون } هو العذاب ، وباء { به } سببية أي بسبب ذكره فإن ذكر العذاب كان سبباً لاستهزائهم حين توعدهم به النّبيء صلى الله عليه وسلم .
والإتيان بالموصول في موضع الضمير للإيماء إلى أن استهزاءهم كان من أسباب غضب الله عليهم . وتقديره إحاطة العذاب بهم بحيث لا يجدون منه مخلصاً .