الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{وَلَئِنۡ أَخَّرۡنَا عَنۡهُمُ ٱلۡعَذَابَ إِلَىٰٓ أُمَّةٖ مَّعۡدُودَةٖ لَّيَقُولُنَّ مَا يَحۡبِسُهُۥٓۗ أَلَا يَوۡمَ يَأۡتِيهِمۡ لَيۡسَ مَصۡرُوفًا عَنۡهُمۡ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُواْ بِهِۦ يَسۡتَهۡزِءُونَ} (8)

قوله تعالى : { لَّيَقُولُنَّ } : هذا الفعلُ معربٌ على المشهور لأن النونَ مفصولةٌ تقديراً ، إذا الأصلُ : ليقولونَنَّ : النون الأولى للرفع ، وبعدها نونٌ مشددة ، فاستثقلَ توالي ثلاثةِ أمثال ، فحُذِفَتْ نونُ الرفع لأنها لا تدلُّ مِن المعنى على ما تدل عليه نون التوكيد ، فالتقى ساكنان ، فحذفت الواوُ التي هي ضميرُ الفاعل لالتقائِهما ، وقد تقدَّم تحقيقُ ذلك .

و " ما يَحْبِسُه " استفهامٌ ، ف " ما " مبتدأ ، و " يحبسُه " خبره ، وفاعلُ الفعل ضميرُ اسم الاستفهام ، والمنصوب يعود على العذاب ، والمعنى : أيُّ شيءٍ من الأشياء يَحْبِسُ العذاب ؟ .

قوله : { يَوْمَ يَأْتِيهِمْ } منصوبٌ ب " مصروفاً " الذي هو خبر " ليس " ، وقد استدلَّ به جمهور البصريين على جواز تقديم خبر " ليس عليها ، ووجهُ ذلك أن تقديمَ المعمول يُؤْذن بتقديم العامل ، و " يومَ " منصوب ب " مصروفاً " وقد تقدَّم على " ليس " فليَجُزْ تقديمُ الخبرِ بطريق الأولى ؛ لأنه إذا تقدَّم الفرعُ فأَوْلَى أن يتقدَّم الأصلُ . وقد رَدَّ بعضهم هذا الدليلَ بشيئين ، أحدهما : أن الظرفَ يُتوسَّع فيه ما لا يُتوسَّع في غيره . والثاني : أن هذه القاعدةَ منخرمةٌ ، إذ لنا مواضعُ يتقدم فيها المعمولُ ولا يتقدم فيها العامل ، وأوردَ مِنْ ذلك نحوَ قوله تعالى : { فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلاَ تَقْهَرْ وَأَمَّا السَّآئِلَ فَلاَ تَنْهَرْ } [ الضحى : 9-10 ] فاليتيمَ منصوب ب " تقهرْ " ، و " السائلَ " منصوبٌ ب " تَنْهَرْ " وقد تَقَدَّما على " لا " الناهية ، ولا يتقدَّمُ العاملُ وهو المجزوم على " لا " ، وللبحث في هذه المسألة موضعٌ هو أليقُ به . قال الشيخ : " وقد تَتَبَّعْتُ جملةً من دواوين العرب فلم أظفر بتقديم خبر " ليس " عليها ولا بمعموله إلا ما دلَّ عليه ظاهرُ هذه الآية وقولِ الشاعر :

2637 فيأْبى فما يَزْدادُ إلا لَجاجَةً *** وكنتُ أَبِيَّاً في الخَفَا لستُ أُقْدِمُ

واسمُ " ليس " ضميرٌ عائد على " العذاب " ، وكذلك فاعل " يأَْتيهم " ، والتقدير : ألا ليسَ العذاب مصروفاً عنهم يوم يأتيهم العذاب . وحكى أبو البقاء عن بعضهم أن العاملَ في " يومَ يأتيهم " محذوف ، تقديره : أي : لا يُصْرَفُ عنهم العذابُ يوم يأتيهم ، ودلَّ على هذا المحذوفِ سياق الكلام .