اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَلَئِنۡ أَخَّرۡنَا عَنۡهُمُ ٱلۡعَذَابَ إِلَىٰٓ أُمَّةٖ مَّعۡدُودَةٖ لَّيَقُولُنَّ مَا يَحۡبِسُهُۥٓۗ أَلَا يَوۡمَ يَأۡتِيهِمۡ لَيۡسَ مَصۡرُوفًا عَنۡهُمۡ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُواْ بِهِۦ يَسۡتَهۡزِءُونَ} (8)

قال الحسنُ : حكم الله أنه لا يعذب أحداً من هذه الأمة بعذاب الاستئصال ، وأخَّر ذلك العذاب إلى القيامة ؛ فلمَّا أخَّر عنهم ذلك العذاب قالوا على سبيل الاستهزاء : ما الذي حبسهُ عنَّا ؟{[18691]} .

وقيل : المرادُ بالعذاب : ما نزل بهم يوم بدرٍ .

وأصل " الأمَّة " الجماعة ، قال تعالى : { وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِّنَ الناس } [ القصص : 23 ] وقوله : { وادكر بَعْدَ أُمَّةٍ } [ يوسف : 45 ] ، أي : انقضاء أمة ، فكأنَّهُ قال : إلى انقراض أمةٍ ومجيء أخرى .

وقيل : اشتقاق الأمَّةِ من الأمِّ ، وهو القصد ، كأنَّهُ يعني الوقت المقصود بإيقاع الموعود فيه . { لَّيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ } أي شيء يحبسه ، يقولون ذلك ، استعجالاً للعذابِ واستهزاءً ، يعنُون أنه ليس بشيء .

قوله : " لَيَقولُنَّ " هذا الفعلُ معربٌ على المشهورِ ؛ لأنَّ النُّون مفصولةٌ تقديراً ، إذ الأصل : " لَيَقُولُوننَّ " النون الأولى للرفع ، وبعدها نونٌ مشددة ، فاستثقل توالي ثلاثةِ أمثال ، فحذفت نونُ الرفع ؛ لأنَّها لا تدلُّ من المعنى على ما تدلُّ عليه نون التَّوكيد ، فالتقى ساكنان ، فحذفت الواوُ التي هي ضميرُ الفاعل لالتقائهما ، وقد تقدَّم تحقيقُ ذلك .

و " مَا يَحْبِسُهُ " استفهامٌ ، ف " ما " مبتدأ ، و " يَحْبِسُهُ " خبره ، وفاعل الفعل ضميرُ اسم الاستفهام ، والمنصوبُ يعودُ على العذابِ ، والمعنى : أيُّ شيءٍ من الأشياء يحبسُ العذاب ؟ قوله : " ألا يَوْمَ يَأتيهِمْ " " يَوْمَ " منصوبٌ ب " مَصْرُوفاً " الذي هو خبرُ " ليس " ، وقد استدلَّ به جمهور البصريين على جواز تقديم خبر " ليس " عليهما ، ووجهُ ذلك أنَّ تقديم المعمول يُؤذن بتقديم العامل ، و " يوم " منصوب ب " مَصْرُوفاً " وقد تقدَّم على " ليس " فليَجُزْ تقديمُ الخبر بطريق الأولى ، لأنَّه إذا تقدَّم الفرعُ فأولى أن يتقدَّم الأصلُ .

وقد ردَّ بعضهم هذا الدليل بشيئين :

أحدهما : أنَّ الظرف يُتوسَّعُ فيه ما لا يتوسَّع في غيره .

والثاني : أنَّ هذه القاعدة مُنْخرمةٌ ، إذ لنا مواضع يتقدَّمُ فيها المعمولُ ولا يتقدم فيها العاملُ ، وأورد من ذلك نحو قوله تعالى : { فَأَمَّا اليتيم فَلاَ تَقْهَرْ وَأَمَّا السآئل فَلاَ تَنْهَرْ } [ الضحى : 9 ، 10 ] ف " اليتيمَ " منصوبٌ ب " تَقْهَرْ " ، و " السَّائِل " منصوبٌ ب " تَنْهَرْ " وقد تقدَّما على " لا " النَّاهية ، ولا يتقدَّمُ العاملُ - وهو المجزومُ - على " لا " ، وللبحث في هذه المسألة موضعق أليقُ به .

قال أبُو حيَّان : وقد تتبَّعت جملة من دواوين العرب فلم أظفر بتقديم خبر " ليسَ " عليها ، ولا بمعموله إلاَّ ما دلَّ عليه ظاهرُ هذه الآية وقول الشاعر : [ الطويل ]

فَيَأبَى فما يَزْدَادُ إلاَّ لجَاجَةً *** وكُنْتُ أبِيّاً في الخَنَى لسْتُ أقْدِمُ{[18692]}

واسمُ " ليس " ضميرٌ عائدٌ على " العذاب " ، وكذلك فاعل " يأتيهم " ، والتقدير : ألا ليس العذاب مصرُوفاً عنهم يوم يأتيهم العذاب .

وحكى أبو البقاءِ{[18693]} عن بعضهم أنَّ العامل في " يَوْمَ يأتيهم " محذوفٌ تقديره : أي : لا يصرفُ عنهم العذابُ يوم يأتيهم ، ودلَّ على المحذوف سياق الكلام .

قال : { وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ } وذكر " حَاقَ " بلفظ الماضي مبالغة في التَّأكيد والتقرير وأنَّ خبر الله تعالى واقعٌ لا محالة .


[18691]:ذكره الرازي في "تفسيره" (17/151).
[18692]:ينظر البيت في البحر المحيط 5/206 وروح المعاني 12/15 والدر المصون 4/82.
[18693]:ينظر: الإملاء لأبي البقاء 2/35.