معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{ٱنفِرُواْ خِفَافٗا وَثِقَالٗا وَجَٰهِدُواْ بِأَمۡوَٰلِكُمۡ وَأَنفُسِكُمۡ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِۚ ذَٰلِكُمۡ خَيۡرٞ لَّكُمۡ إِن كُنتُمۡ تَعۡلَمُونَ} (41)

قوله تعالى : { انفروا خفافا وثقالا } ، قال الحسن والضحاك ، ومجاهد ، وقتادة ، وعكرمة : شبانا وشيوخا . وعن ابن عباس : نشاطا وغير نشاط . وقال عطية العوفي : ركبانا ومشاة . وقال أبو صالح : خفافا من المال ، أي فقراء ، وثقالا أي : أغنياء . وقال ابن زيد : الثقيل الذي له الضيعة ، فهو ثقيل يكره أن يدع ضيعته ، والخفيف لا ضيعة له . ويروى عن ابن عباس قال : خفافا أهل المسيرة من المال ، وثقالا أهل العسرة . وقيل : خفافا من السلاح ، أي : مقلين منه ، وثقالا أي : مستكثرين منه . وقال الحكم بن عتيبة : مشاغيل وغير مشاغيل . وقال مرة الهمذاني : أصحاء ومرضى . وقال يمان بن رباب : عزابا ومتأهلين . وقيل : خفافا من حاشيتكم وأتباعكم ، وثقالا مستكثرين بهم . وقيل : خفافا مسرعين خارجين ساعة سماع النفير ، وثقالا بعد التروي فيه والاستعداد له . " وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون " ، قال الزهري : خرج سعيد بن المسيب إلى الغزو وقد ذهبت إحدى عينيه ، فقيل له : إنك عليل صاحب ضر ، فقال : استنفر الله الخفيف والثقيل ، فإن لم يمكني الحرب كثرت السواد وحفظت المتاع . وقال عطاء الخراساني عن ابن عباس : نسخت هذه الآية بقوله : { وما كان المؤمنون لينفروا كافة } . وقال السدي : لما نزلت هذه الآية اشتد شأنها على الناس فنسخها الله تعالى وأنزل : { ليس على الضعفاء ولا على المرضى } الآية .

 
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{ٱنفِرُواْ خِفَافٗا وَثِقَالٗا وَجَٰهِدُواْ بِأَمۡوَٰلِكُمۡ وَأَنفُسِكُمۡ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِۚ ذَٰلِكُمۡ خَيۡرٞ لَّكُمۡ إِن كُنتُمۡ تَعۡلَمُونَ} (41)

{ 41 - 42 } { انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لَاتَّبَعُوكَ وَلَكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ }

يقول تعالى لعباده المؤمنين -مهيجا لهم على النفير في سبيله فقال : { انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا } أي : في العسر واليسر ، والمنشط والمكره ، والحر والبرد ، وفي جميع الأحوال .

{ وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ } أي : ابذلوا جهدكم في ذلك ، واستفرغوا وسعكم في المال والنفس ، وفي هذا دليل على أنه -كما يجب الجهاد في النفس- يجب الجهاد في المال ، حيث اقتضت الحاجة ودعت لذلك .

ثم قال : { ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ } أي : الجهاد في النفس والمال ، خير لكم من التقاعد عن ذلك ، لأن فيه رضا اللّه تعالى ، والفوز بالدرجات العاليات عنده ، والنصر لدين اللّه ، والدخول في جملة جنده وحزبه .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{ٱنفِرُواْ خِفَافٗا وَثِقَالٗا وَجَٰهِدُواْ بِأَمۡوَٰلِكُمۡ وَأَنفُسِكُمۡ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِۚ ذَٰلِكُمۡ خَيۡرٞ لَّكُمۡ إِن كُنتُمۡ تَعۡلَمُونَ} (41)

38

وفي ظلال هذا المثل الواقع المؤثر يدعوهم إلى النفرة العامة ، لا يعوقهم معوق . ولا يقعد بهم طارئ ، إن كانوا يريدون لأنفسهم الخير في هذه الأرض وفي الدار الاخرة :

( انفروا خفافاً وثقالاً وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله . ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون ) . .

انفروا في كل حال ، وجاهدوا بالنفوس والأموال ، ولا تتلمسوا الحجج والمعاذير ، ولا تخضعوا للعوائق والتعلات .

( ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون ) .

وأدرك المؤمنون المخلصون هذا الخير ، فنفروا والعوائق في طريقهم ، والأعذار حاضرة لو أرادوا التمسك بالأعذار . ففتح اللّه عليهم القلوب والأرضين ، وأعز بهم كلمة اللّه ، وأعزهم بكلمة اللّه ، وحقق على أيديهم ما يعد خارقة في تاريخ الفتوح .

قرأ أبو طلحة - رضي اللّه عنه - سورة براءة فأتى على هذه الآية فقال : أرى ربنا استنفرنا شيوخاً وشباناً ، جهزوني يا بني . فقال بنوه : يرحمك اللّه قد غزوت مع رسول اللّه [ ص ] وعلى آله وسلم حتى مات ، ومع أبي بكر حتى مات ، ومع عمر حتى مات ، فنحن نغزو عنك . فأبى فركب البحر فمات ، فلم يجدوا له جزيرة يدفنونه فيها إلا بعد تسعة أيام ، فلم يتغير ، فدفنوه بها .

وروى ابن جرير بإسناده - عن أبي راشد الحراني قال : " وافيت المقداد بن الأسود فارس رسول اللّه - [ ص ] - جالساً على تابوت من توابيت الصيارفة ، وقد فضل عنها من عظمه يريد الغزو ؛ فقلت له قد قد أعذر اللّه إليك . فقال : أتت علينا سورة البعوث . "

( انفروا خفافاً وثقالاً ) .

وروى كذلك بإسناده - عن حيان بن زيد الشرعبي قال : نفرنا مع صفوان بن عمرو ، وكان والياً على حمص قبل الأفسوس إلى الجراجمة فرأيت شيخا كبيراً هما ، قد سقط حاجباه على عينيه من أهل دمشق على راحلته فيمن أغار ، فأقبلت إليه فقلت : يا عم لقد أعذر اللّه إليك . قال : فرفع حاجبيه فقال يا ابن أخي استنفرنا اللّه ، خفافاً وثقالاً . ألا إنه من يحبه اللّه يبتليه ، ثم يعيده فيبقيه ، وإنما يبتلي اللّه من عباده من شكر وصبر وذكر ، ولم يعبد إلا اللّه عز وجل .

وبمثل هذا الجد في أخذ كلمات اللّه انطلق الإسلام في الأرض ، يخرج الناس من عبادة العباد إلى عبادة اللّه وحده ، وتمت تلك الخارقة في تلك الفتوح التحريرية الفريدة .

 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{ٱنفِرُواْ خِفَافٗا وَثِقَالٗا وَجَٰهِدُواْ بِأَمۡوَٰلِكُمۡ وَأَنفُسِكُمۡ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِۚ ذَٰلِكُمۡ خَيۡرٞ لَّكُمۡ إِن كُنتُمۡ تَعۡلَمُونَ} (41)

القول في تأويل قوله تعالى : { انْفِرُواْ خِفَافاً وَثِقَالاً وَجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ } .

واختلف أهل التأويل في معنى الخفة والثّقل اللذين أمر الله من كان به أحدهما بالنّفر معه ، فقال بعضهم : معنى الخفة التي عناها الله في هذا الموضع : الشباب ، ومعنى الثقل : الشيخوخة . ذكر من قال ذلك :

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا حكام ، عن عنبسة ، عن رجل ، عن الحسن ، في قوله : انْفِرُوا خِفافا وَثِقالاً قال : شيبا وشُبانا .

حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا حفص ، عن عمرو ، عن الحسن ، قال : شيوخا وشبانا .

قال : حدثنا ابن عيينة ، عن عليّ بن زيد ، عن أنس ، عن أبي طلحة : انْفِرُوا خِفافا وَثِقالاً قال : كهولاً وشبانا ، ما أسمع الله عذرَ أحدا فخرج إلى الشام فجاهد حتى مات .

حدثنا ابن حُميد ، قال : حدثنا حكام ، عن عنبسة ، عن المغيرة بن النعمان ، قال : كان رجل من النخع وكان شيخا بادِنا ، فأراد الغزو فمنعه سعد بن أبي وقاص ، فقال : إن الله يقول : انْفِرُوا خِفافا وَثِقالاً فأذن له سعد ، فقتل الشيخ ، فسأل عنه بعد عُمر ، فقال : ما فعل الشيخ الذي كان من بني هاشم ؟ فقالوا قُتِلَ يا أمير المؤمنين .

حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا يزيد بن هارون ، عن إسماعيل ، عن أبي صالح ، قال : الشاب والشيخ .

قال : حدثنا أبو أسامة ، عن مالك بن مغول ، عن إسماعيل ، عن عكرمة ، قال : الشاب والشيخ .

قال : حدثنا المحاربيّ ، عن جويبر ، عن الضحاك : كهولاً وشبانا .

قال : حدثنا حَيْوة أبو يزيد ، عن يعقوب القُمّي ، عن جعفر بن حميد ، عن بشر بن عطية : كهولاً وشبانا .

حدثنا الوليد ، قال : حدثنا عليّ بن سهل ، قال : حدثنا الوليد بن مسلم ، عن بكير بن معروف ، عن مقاتل بن حيان ، في قوله : انْفِرُوا خِفافا وَثِقالاً قال : شبانا وكهولاً .

حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : انْفِرُوا خِفافا وَثِقالاً قال : شبابا وشيوخا ، وأغنياء ومساكين .

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قال : قال الحسن : شيوخا وشبانا .

حدثني سعيد بن عمرو ، قال : حدثنا بقية ، قال : حدثنا جرير ، قال : ثني حبان بن زيد الشرعبي ، قال : نفرنا مع صفوان بن عمرو وكان واليا على حمص قِبَلَ الأفسوس إلى الجراجمة ، فلقيت شيخا كبيرا هِمّا ، قد سقط حاجباه على عينيه من أهل دمشق على راحلته فيمن أغار ، فأقبلت عليه فقلت : يا عمّ لقد أعذرَ الله إليك قال : فرفع حاجبيه فقال : يا ابن أخي استنفرنا الله خفافا وثقالاً ، من يحبه الله يبتليه ثم يعيده فيبقيه ، وإنما يبتلي الله من عباده من شكر وصبر وذكر ولم يعبد إلا الله .

حدثنا أحمد بن إسحاق ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا إسماعيل ، عن أبي صالح : انْفِرُوا خِفافا وَثِقالاً قال : كل شيخ وشاب .

وقال آخرون : معنى ذلك مشاغيل وغير مشاغيل . ذكر من قال ذلك :

حدثنا ابن بشار وابن وكيع ، قالا : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن منصور ، عن الحكم ، في قوله : انْفِرُوا خِفافا وَثِقالاً قال : مشاغيل وغير مشاغيل .

وقال آخرون : معناه : انفروا أغنياء وفقراء . ذكر من قال ذلك :

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا حكام ، عن عنبسة ، عمن ذكره ، عن أبي صالح : انْفِرُوا خِفافا وَثِقالاً قال : أغنياء وفقراء .

وقال آخرون : معناه : نِشَاطا وغير نِشاط . ذكر من قال ذلك :

حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : انْفِرُوا خِفافا وَثِقالاً يقول : انفروا نِشَاطا وغير نِشَاط .

حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : خِفافا وَثِقالاً قال : نِشَاطا وغير نِشاط .

وقال آخرون : معناه : ركبانا ومشاة . ذكر من قال ذلك :

حدثنا عليّ بن سهل ، قال : حدثنا الوليد ، قال : قال أبو عمرو : إذا كان النفر إلى دروب الشأم نفر الناس إليها خفافا ركبانا ، وإذا كان النفر إلى هذه السواحل ونفروا إليها خفافا وثقالاٍ ركبانا ومشاة .

وقال آخرون : معنى ذلك : ذَا ضَيْعة ، وغير ذي ضيعة . ذكر من قال ذلك :

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : انْفِرُوا خِفافا وَثِقالاً قال : الثقيل الذي له الضيعة ، فهو ثقيل يكره أن يضيع ضيعته ويخرج ، والخفيف الذي لا ضيعة له فقال الله : انْفِرُوا خِفافا وَثِقالاً .

حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا المعتمر ، عن أبيه ، قال : زعم حضرميّ أنه ذكر له أن ناسا كانوا عسى أن يكون أحدهم عليلاً أو كبيرا ، فيقول : إني أحسبه قال : أنا لا آثم فأنزل الله : انْفِرُوا خِفافا وَثِقالاً .

حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا ابن علية ، قال : حدثنا أيوب ، عن محمد ، قال : شهد أبو أيوب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بدرا ، ثم لم يتخلف عن غزاة للمسلمين إلا وهو في أخرى إلا عاما واحدا وكان أبو أيوب يقول : انْفِرُوا خِفافا وَثِقالاً فلا أجدني إلا خفيفا أو ثقيلاً .

حدثنا عليّ بن سهل ، قال : حدثنا الوليد بن مسلم ، قال : حدثنا جرير ، عن عثمان ، عن راشد بن سعد ، عمن رأى المقداد بن الأسود فارس رسول الله صلى الله عليه وسلم على تابوت من توابيت الصيارفة بمحص ، وقد فضل عنه من عظمه ، فقلت له : لقد أعذر الله إليك فقال : أتت علينا سورة البحوث انْفِرُوا خِفافا وَثِقالاً .

حدثنا سعيد بن عمرو السّكونيّ ، قال : حدثنا بقية بن الوليد ، قال : حدثنا جرير ، قال : ثني عبد الرحمن بن ميسرة ، قال : ثني أبو رائد الحبرانيّ ، قال : وافيت المقداد بن الأسود فارس رسول الله صلى الله عليه وسلم جالسا على تابوت من توابيت الصيارفة بحمص ، قد فضل عنه من عظمه ، يريد الغزو ، فقلت له : لقد أعذر الله إليك فقال : أتت علينا سورة البحوث : انْفِرُوا خِفافا وَثِقالاً .

قال أبو جعفر : وأولى الأقوال في ذلك عندنا بالصواب أن يقال : إن الله تعالى ذكره أمر المؤمنين بالنفر لجهاد أعدائه في سبيله خفافا وثقالاً وقد يدخل في الخفاف كلّ من كان سهلاً عليه النفر لقوّة بدنه على ذلك وصحة جسمه وشبابه ، ومن كان ذا تيسر بمال وفراغ من الاشتغال وقادرا على الظهر والركاب . ويدخل في الثقال كلّ من كان بخلاف ذلك من ضعيف الجسم وعليله وسقيمه ، ومن معمر من المال ومشتغل بضيغة ومعاش ، ومن كان لا ظهر له ولا ركاب ، والشيخ وذو السنّ والعيال . فإذ كان قد يدخل في الخفاف والثقال من وصفنا من أهل الصفات التي ذكرنا ولم يكن الله جلّ ثناؤه خصّ من ذلك صنفا دون صنف في الكتاب ، ولا على لسان الرسول صلى الله عليه وسلم ، ولا نصب على خصوصه دليلاً ، وجب أن يقال : إن الله جلّ ثناؤه أمر المؤمنين من أصحاب رسوله بالنفر للجهاد في سبيله خفافا وثقالاً مع رسوله صلى الله عليه وسلم على كلّ حال من أحوال الخفة والثقل .

حدثنا أحمد بن إسحاق ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا إسرائيل ، عن سعيد بن مسروق ، عن مسلم بن صبيح قال : أوّل ما نزل من براءة : انْفِرُوا خِفافا وَثِقالاً .

حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن أبيه ، عن أبي الضحى ، مثله .

حدثنا الحرث ، قال : حدثنا القاسم ، قال : حدثنا حجاج ، عن ابن جرير ، عن مجاهد ، قال : إن أوّل ما نزل من براءة : لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرةٍ قال : يعرّفهم نصره ، ويوطنهم لغزوة تبوك .

القول في تأويل قوله تعالى : وجَاهَدُوا بأمْوَالِكمْ وأنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إنْ كُنْتُمْ تعْلَمُونَ .

يقول تعالى ذكره للمؤمنين به وبرسوله من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم : جاهدوا أيها المؤمنون الكفار بأموالكم ، فأنفقوها في مجاهدتهم على دين الله الذي شرعه لكم ، حتى ينقادوا لكم فيدخلوا فيه طوعا أو كرها ، أو يعطوكم الجزية عن يد صغارا إن كانوا أهل كتاب ، أو تقتلوهم وأنْفُسِكُمْ يقول : وبأنفسكم فقاتلوهم بأيديكم يخزهم الله وينصركم عليهم . ذلكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ يقول : هذا الذي آمركم به من النفر في سبيل الله تعالى خفافا وثقالاً وجهاد أعدائه بأموالكم وأنفسكم خير لكم من التثاقل إلى الأرض إذا استنفرتم والخلود إليها والرضا بالقليل من متاع الحياة الدنيا عوضا من الاَخرة ، إن كنتم من أهل العلم بحقيقة ما بين لكم من فضل الجهاد في سبيل الله على القعود عنه .

 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{ٱنفِرُواْ خِفَافٗا وَثِقَالٗا وَجَٰهِدُواْ بِأَمۡوَٰلِكُمۡ وَأَنفُسِكُمۡ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِۚ ذَٰلِكُمۡ خَيۡرٞ لَّكُمۡ إِن كُنتُمۡ تَعۡلَمُونَ} (41)

{ انفروا خفافا } لنشاطكم له . { وثقالا } عنه لمشقته عليكم ، أو لقلة عيالكم ولكثرتها أو ركبانا ومشاة ، أو خفافا وثقالا من السلاح ، أو صحاحا ومراضا ولذلك لما قال ابن أم مكتوم لرسول الله صلى الله عليه وسلم : أعلي أن أنفر قال " نعم " . حتى نزل { ليس على الأعمى حرج } . { وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله } بما أمكن لكم منهما كليهما أو أحدهما . { ذلكم خير لكم } من تركه . { إن كنتم تعلمون } الخير علمتم أنه خير ، أو إن كنتم تعلمون أنه خير إذ إخبار الله تعالى به صدق فبادروا إليه .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{ٱنفِرُواْ خِفَافٗا وَثِقَالٗا وَجَٰهِدُواْ بِأَمۡوَٰلِكُمۡ وَأَنفُسِكُمۡ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِۚ ذَٰلِكُمۡ خَيۡرٞ لَّكُمۡ إِن كُنتُمۡ تَعۡلَمُونَ} (41)

هذا أمر من الله عز وجل أمة محمد صلى الله عليه وسلم بالنفر إلى الغزو فقال بعض الناس هذا أمر عام لجميع المؤمنون تعين به الفرض على الأعيان في تلك المدة ، ثم نسخه الله عز وجل ، بقوله : { وما كان المؤمنون لينفروا كافة }{[5662]} ، روي ذلك عن الحسن وعكرمة ، وقال جل الناس : بل هذا حض والأمر في نفسه موقوف على فرض الكفاية ولم يقصد بالآية فرضه على الأعيان ، وأما قوله { خفافاً وثقالاً } فنصب على الحال من الضمير في قوله { انفروا } ، ومعنى الخفة والثقل هنا مستعار لمن يمكنه السفر{[5663]} بسهولة ومن يمكنه بصعوبة ، وأما من لا يمكنه كالعمي ونحوهم فخارج عن هذا .

وروي أن ابن أم مكتوم جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : أعليَّ أن أنفر ؟ فقال له نعم ، حتى نزلت { ليس على الأعمى حرج }{[5664]} ، وذكر الناس من معاني الخفة والثقل أشياء لا وجه لتخصيص بعضها دون بعض ، بل هي وجوه متفقة ، فقيل «الخفيف » الغني «والثقيل » الفقير : قاله مجاهد ، وقيل الخفيف الشاب والثقيل الشيخ قاله الحسن وجماعة ، وقيل الخفيف النشيط والثقيل الكاسل ، قاله ابن عباس وقتادة ، وقيل المشغول ومن لا شغل له قاله الحكم بن عيينة وزيد بن علي ، وقيل الذي له ضيعة هو الثقيل ومن لا ضيعة له هو الخفيف قاله ابن زيد : وقيل الشجاع هو الخفيف والجبان هو الثقيل حكاه النقاش ، وقيل الرجل هو الثقيل والفارس هو الخفيف قاله الأوزاعي .

قال القاضي أبو محمد : وهذان الوجهان الآخران ينعكسان ، وقد قيل ذلك ولكنه بحسب وطأتهم على العدو فالشجاع هو الثقيل وكذلك الفارس والجبان هو الخفيف وكذلك الراجل وكذلك ينعكس الفقير والغني فيكون الغني هو الثقيل بمعنى صاحب الشغل ومعنى هذا أن الناس أمروا جملة .

وهذه الأقوال إنما هي على معنى المثال في الثقل والخفة ، وقال أبو طلحة : ما أسمع الله عذراً أحداً وخرج إلى الشام فجاهد حتى مات .

وقال أبو أيوب : ما أجدني أبداً إلا ثقيلاً أو خفيفاً ، وروي أن بعض الناس رأى في غزوات الشام رجلاً سقط حاجباه على عينيه من الكبر ، فقال له يا عم إن الله قد عذرك ، فقال يا ابن أخي إنَّا قد أمرنا بالنفر خفافاً وثقالاً ، وأسند الطبري عمن رأى المقداد بن الأسود بحمص وهو على تابوت صراف وقد فضل على التابوت من سمنه وهو يتجهز للغزو فقال له لقد عذرك الله ، فقال أتت علينا سورة البعوث { انفروا خفافاً وثقالاً } ، وروي سورة البحوث ، وقوله تعالى : { بأموالكم وأنفسكم } وصف لأكمل ما يكون من الجهاد وأنفسه عند الله تعالى : فحض على كمال الأوصاف ، وقدمت الأموال في الذكر إذ هي أول مصرف وقت التجهيز فرتب الأمر كما هو في نفسه ، ثم أخبر أن ذلك لهم خير للفوز برضى الله وغلبة العدو ووراثة الأرض ، وفي قوله : { إن كنتم تعلمون } تنبيه وهز للنفوس .


[5662]:- من الآية (12) من سورة (التوبة).
[5663]:- في بعض النسخ: لمن يمكنه النّفر.
[5664]:- تكررت- فهي في الآية (61) من سورة (النور)، وفي الآية (17) من سورة (الفتح) وهي المقصودة هنا.