قوله تعالى : { هل ينظرون } . أي هل ينتظر التاركون الدخول في السلم والمتبعون خطوات الشيطان ، يقال : نظرته وانتظرته ، بمعنى واحد ، فإذا كان النظر مقروناً بذكر الله أو بذكر الوجه أو إلى ، لم يكن إلا بمعنى الرؤية .
قوله تعالى : { إلا أن يأتيهم الله في ظلل } . جمع ظلة .
قوله تعالى : { من الغمام } . وهو السحاب الأبيض الرقيق ، سمي غماماً لأنه يغم أي يستر ، وقال مجاهد : هو غير السحاب ، ولم يكن إلا لبني إسرائيل في تيههم : قال مقاتل : كهيئة الضباب أبيض ، قال الحسن : في سترة من الغمام فلا ينظر إليهم أهل الأرض .
قوله تعالى : { والملائكة } . قرأ أبو جعفر بالخفض عطفاً على الغمام ، تقديره : " مع الملائكة " ، تقول العرب : " أقبل الأمير في العسكر " ، أي مع المعسكر ، وقرأ الباقون بالرفع على معنى : إلا أن تأتيهم الله والملائكة في ظلل من الغمام ، والأولى في هذه الآية وما شاكلها ، أن يؤمن الإنسان بظاهرها ويكل علمها إلى الله تعالى ، أو يعتقد أن الله عز اسمه منزه عن سمات الحدوث ، على ذلك مضت أئمة السلف وعلماء السنة . قال الكلبي : هذا من المكتوم الذي لا يفسر ، وكان مكحول و الزهري والأوزاعي ومالك وابن المبارك وسفيان الثوري والليث بن سعد وأحمد وإسحاق يقولون فيه وفي أمثاله : أمرها كما جاء بلا كيف ، قال سفيان بن عيينة : كل ما وصف الله به نفسه في كتابه فتفسيره قراءته ، والسكوت عليه ، ليس لأحد أن يفسره إلا الله تعالى ورسوله . قوله تعالى : { وقضي الأمر } . أي وجب العذاب ، وفرغ من الحساب ، وذلك فصل الله القضاء بالحق بين الخلق يوم القيامة .
قوله تعالى : { وإلى الله ترجع الأمور } . قرأ ابن عامر وحمزة والكسائي ويعقوب بفتح التاء ، وكسر الجيم وقرأ الباقون بضم التاء وفتح الجيم .
{ هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ }
وهذا فيه من الوعيد الشديد والتهديد ما تنخلع له القلوب ، يقول تعالى : هل ينتظر الساعون في الفساد في الأرض ، المتبعون لخطوات الشيطان ، النابذون لأمر الله إلا يوم الجزاء بالأعمال ، الذي قد حشي من الأهوال والشدائد والفظائع ، ما يقلقل قلوب الظالمين ، ويحق به الجزاء السيئ على المفسدين .
وذلك أن الله تعالى يطوي السماوات والأرض ، وتنثر الكواكب ، وتكور الشمس والقمر ، وتنزل الملائكة الكرام ، فتحيط بالخلائق ، وينزل الباري [ تبارك ] تعالى : { فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ } ليفصل بين عباده بالقضاء العدل .
فتوضع الموازين ، وتنشر الدواوين ، وتبيض وجوه أهل السعادة وتسود وجوه أهل الشقاوة ، ويتميز أهل الخير من أهل الشر ، وكل يجازى بعمله ، فهنالك يعض الظالم على يديه إذا علم حقيقة ما هو عليه .
وهذه الآية وما أشبهها دليل لمذهب أهل السنة والجماعة ، المثبتين للصفات الاختيارية ، كالاستواء ، والنزول ، والمجيء ، ونحو ذلك من الصفات التي أخبر بها تعالى ، عن نفسه ، أو أخبر بها عنه رسوله صلى الله عليه وسلم ، فيثبتونها على وجه يليق بجلال الله وعظمته ، من غير تشبيه ولا تحريف ، خلافا للمعطلة على اختلاف أنواعهم ، من الجهمية ، والمعتزلة ، والأشعرية ونحوهم ، ممن ينفي هذه الصفات ، ويتأول لأجلها الآيات بتأويلات ما أنزل الله عليها من سلطان ، بل حقيقتها القدح في بيان الله وبيان رسوله ، والزعم بأن كلامهم هو الذي تحصل به الهداية في هذا الباب ، فهؤلاء ليس معهم دليل نقلي ، بل ولا دليل عقلي ، أما النقلي فقد اعترفوا أن النصوص الواردة في الكتاب والسنة ، ظاهرها بل صريحها ، دال على مذهب أهل السنة والجماعة ، وأنها تحتاج لدلالتها على مذهبهم الباطل ، أن تخرج عن ظاهرها ويزاد فيها وينقص ، وهذا كما ترى لا يرتضيه من في قلبه مثقال ذرة من إيمان .
وأما العقل فليس في العقل ما يدل على نفي هذه الصفات ، بل العقل دل على أن الفاعل أكمل من الذي لا يقدر على الفعل ، وأن فعله تعالى المتعلق بنفسه والمتعلق بخلقه هو كمال ، فإن زعموا أن إثباتها يدل على التشبيه بخلقه ، قيل لهم : الكلام على الصفات ، يتبع الكلام على الذات ، فكما أن لله ذاتا لا تشبهها الذوات ، فلله صفات لا تشبهها الصفات ، فصفاته تبع لذاته ، وصفات خلقه ، تبع لذواتهم ، فليس في إثباتها ما يقتضي التشبيه بوجه .
ويقال أيضا ، لمن أثبت بعض الصفات ، ونفى بعضا ، أو أثبت الأسماء دون الصفات : إما أن تثبت الجميع كما أثبته الله لنفسه ، وأثبته رسوله ، وإما أن تنفي الجميع ، وتكون منكرا لرب العالمين ، وأما إثباتك بعض ذلك ، ونفيك لبعضه ، فهذا تناقض ، ففرق بين ما أثبته ، وما نفيته ، ولن تجد إلى الفرق سبيلا ، فإن قلت : ما أثبته لا يقتضي تشبيها ، قال لك أهل السنة : والإثبات لما نفيته لا يقتضي تشبيها ، فإن قلت : لا أعقل من الذي نفيته إلا التشبيه ، قال لك النفاة : ونحن لا نعقل من الذي أثبته إلا التشبيه ، فما أجبت به النفاة ، أجابك به أهل السنة ، لما نفيته .
والحاصل أن من نفى شيئا وأثبت شيئا مما دل الكتاب والسنة على إثباته ، فهو متناقض ، لا يثبت له دليل شرعي ولا عقلي ، بل قد خالف المعقول والمنقول .
بعد ذلك يتخذ السياق أسلوبا جديدا في التحذير من عاقبة الانحراف عن الدخول في السلم واتباع خطوات الشيطان . فيتحدث بصيغة الغيبة بدلا من صيغة الخطاب :
( هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام والملائكة ؟ وقضي الأمر ، وإلى الله ترجع الأمور ) . .
وهو سؤال استنكاري عن علة انتظار المترددين المتلكئين الذين لا يدخلون في السلم كافة . ما الذي يقعد بهم عن الاستجابة ؟ ماذا ينتظرون ؟ وماذا يرتقبون ؟ تراهم سيظلون هكذا في موقفهم حتى يأتيهم الله - سبحانه - في ظلل من الغمام وتأتيهم الملائكة ؟ وبتعبير آخر : هل ينتظرون ويتلكأون حتى يأتيهم اليوم الرعيب الموعود ، الذي قال الله سبحانه : إنه سيأتي فيه في ظلل من الغمام ، ويأتي الملائكة صفا لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمن وقال صوابا ؟
وفجأة - وبينما نحن أمام السؤال الاستنكاري الذي يحمل طابع التهديد الرعيب - نجد أن اليوم قد جاء ، وأن كل شيء قد انتهى ، وأن القوم أمام المفاجأة التي كان يلوح لهم بها ويخوفهم إياها :
وطوي الزمان ، وأفلتت الفرصة ، وعزت النجاة ، ووقفوا وجها لوجه أمام الله ؛ الذي ترجع إليه وحده الأمور :
إنها طريقة القرآن العجيبة ، التي تفرده وتميزه من سائر القول . الطريقة التي تحيي المشهد وتستحضره في التو واللحظة ، وتقف القلوب إزاءه وقفة من يرى ويسمع ويعاني ما فيه !
فإلى متى يتخلف المتخلفون عن الدخول في السلم ؛ وهذا الفزع الأكبر ينتظرهم ؟ بل هذا الفزع الأكبر يدهمهم ! والسلم منهم قريب . السلم في الدنيا والسلم في الآخرة يوم تشقق السماء بالغمام ونزل الملائكة تنزيلا . يوم يقوم الروح والملائكة صفا لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمن وقال صوابا . يوم يقضي الأمر . . وقد قضي الأمر ! ( وإلى الله ترجع الأمور ) . .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.