قوله تعالى : { فلما قضينا عليه الموت } أي : على سليمان . قال أهل العلم : كان سليمان عليه السلام يتجرد في بيت المقدس السنة والسنتين ، والشهر والشهرين ، وأقل من ذلك وأكثر . يدخل فيه طعامه وشرابه ، فأدخل في المرة التي مات فيها ، وكان بدء ذلك أنه كان لا يصبح يوماً إلا نبتت في محراب بيت المقدس شجرة ، فيسألها : ما اسمك ؟ فتقول : اسمي كذا ، فيقول : لأي شيء أنت ؟ فتقول : لكذا وكذا ، فيأمر بها فتقطع ، فإن كانت نبتت لغرس غرسها ، وإن كانت لدواء كتب ، حتى نبتت الخروبة ، فقال لها : ما أنت ؟ قالت : الخروبة ، قال : لأي شيء نبت ؟ قالت : لخراب مسجدك ، فقال سليمان : ما كان الله ليخربه وأنا حي ، أنت التي على وجهك هلاكي وخراب بيت المقدس ! فنزعها وغرسها في حائط له ، ثم قال : اللهم عم على الجن موتي حتى يعلم الإنس أن الجن لا يعلمون الغيب ، وكانت الجن تخبر الإنس أنهم يعلمون من الغيب أشياء ويعلمون ما في غد ، ثم دخل المحراب فقام يصلي متكئاً على عصاه فمات قائماً وكان للمحراب كوى بين يديه وخلفه ، فكانت الجن يعملون تلك الأعمال الشاقة التي كانوا يعملون في حياته ، وينظرون إليه يحسبون أنه حي ، ولا ينكرون احتباسه عن الخروج إلى الناس لطول صلاته قبل ذلك ، فمكثوا يدأبون له بعد موته حولاً كاملاً حتى أكلت الأرضة عصا سليمان ، فخر ميتاً فعلموا بموته . قال ابن عباس : فشكرت الجن الأرضة فهم يأتونها بالماء والطين في جوف الخشب ، فذلك قوله : { ما دلهم على موته إلا دابة الأرض } وهي الأرضة التي { تأكل منسأته } يعني : عصاه ، قرأ أهل المدينة ، وأبو عمرو : منسأته بغير همز ، وقرأ الباقون بالهمز ، وهما لغتان ، ويسكن ابن عامر الهمز ، وأصلها من : نسأت الغنم ، أي : زجرتها وسقتها ، ومنه : نسأ الله في أجله ، أي : أخره . { فلما خر } أي : سقط على الأرض ، { تبينت الجن } أي : علمت الجن وأيقنت ، { أن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين } أي : في التعب والشقاء مسخرين لسليمان وهو ميت يظنونه حياً ، أراد الله بذلك أن يعلم الجن أنهم لا يعلمون الغيب ، لأنهم كانوا يظنون أنهم يعلمون الغيب ، لغلبة الجهل عليهم . وذكر الأزهري : أن معناه ( تبينت الجن ) أي : ظهرت وانكشفت الجن للإنس ، أي : ظهر أمرهم أنهم لا يعلمون الغيب ، لأنهم كانوا قد شبهوا على الإنس ذلك ، وفي قراءة ابن مسعود ، وابن عباس : تبينت الإنس أن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين ، أي : علمت الإنس وأيقنت ذلك . وقرأ يعقوب : تبينت بضم التاء وكسر الياء أي : أعلمت الإنس الجن ، ذكر بلفظ ما لم يسم فاعله ، وتبين لازم ومتعد . وذكر أهل التاريخ أن سليمان كان عمره ثلاثاً وخمسين سنة ، ومدة ملكه أربعون سنة ، وملك يوم ملك وهو ابن ثلاث عشرة سنة ، وابتداء في بناء بيت المقدس لأربع سنين مضين من ملكه .
فلم يزل الشياطين يعملون لسليمان ، عليه الصلاة والسلام ، كل بناء ، وكانوا قد موهوا على الإنس ، وأخبروهم أنهم يعلمون الغيب ، ويطلعون على المكنونات ، فأراد اللّه تعالى أن يُرِيَ العباد كذبهم في هذه الدعوى ، فمكثوا يعملون على عملهم ، وقضى اللّه الموت على سليمان عليه السلام ، واتَّكأ على عصاه ، وهي المنسأة ، فصاروا إذا مروا به وهو متكئ عليها ، ظنوه حيا ، وهابوه .
فغدوا على عملهم كذلك سنة كاملة على ما قيل ، حتى سلطت دابة الأرض على عصاه ، فلم تزل ترعاها ، حتى باد وسقط فسقط سليمان عليه السلام وتفرقت الشياطين وتبينت الإنس أن الجن { لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ } وهو العمل الشاق عليهم ، فلو علموا الغيب ، لعلموا موت سليمان ، الذي هم أحرص شيء عليه ، ليسلموا مما هم فيه .
ثم نمضي مع نصوص القصة القرآنية في المشهد الأخير منها . مشهد وفاة سليمان والجن ماضية تعمل بأمره فيما كلفها عمله ؛ وهي لا تعلم نبأ موته ، حتى يدلهم على ذلك أكل الأرضة لعصاه ، التي كان مرتكزاً عليها ، وسقوطه :
( فلما قضينا عليه الموت ما دلهم على موته إلا دابة الأرض تأكل منسأته ، فلما خر تبينت الجن أن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين ) . .
وقد روي أنه كان متكئاً على عصاه حين وافاه أجله ؛ والجن تروح وتجيء مسخرة فيما كلفها إياه من عمل شاق شديد ؛ فلم تدرك أنه مات ، حتى جاءت دابة الأرض . قيل إنها الأرضة ، التي تتغذى بالأخشاب ، وهي تلتهم أسقف المنازل وأبوابها وقوائمها بشراهة فظيعة ، في الأماكن التي تعيش فيها . وفي صعيد مصر قرى تقيم منازلها دون أن تضع فيها قطعة خشب واحدة خوفاً من هذه الحشرة التي لا تبقي على المادة الخشبية ولا تذر . فلما نخرت عصا سليمان لم تحمله فخرّ على الأرض . وحينئذ فقط علمت الجن موته . وعندئذ ( تبينت الجن أن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين ) . .
فهؤلاء هم الجن الذين يعبدهم بعض الناس . هؤلاء هم سخرة لعبد من عباد الله . وهؤلاء هم محجوبون عن الغيب القريب ؛ وبعض الناس يطلب عندهم أسرار الغيب البعيد !
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.