قوله تعالى : { أو كالذي مر على قرية } . وهذه الآية منسوقة على الآية الأولى ، تقديره ( ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه ) وهل رأيت الذي مر على قرية ؟ وقيل : تقديره هل رأيت الذي حاج إبراهيم في ربه ؟ وهل رأيت كالذي مر على قرية ؟ واختلفوا في ذلك المار ، فقال قتادة وعكرمة والضحاك : هو عزيز بن شرخياً ، وقال وهب بن منبه ، هو أرمياء بن حلقيا ، وكان بن سبط هارون ، وهو الحضر وقال مجاهد : هو كافر شك البعث . واختلفوا في تلك القرية فقال وهب وعكرمة وقتادة : هي بيت المقدس ، وقال الضحاك : هي الأرض المقدسة ، وقال الكلبي : هي دير سابر أباد ، وقال السدي : مسلم أباد ، وقيل :دير هرقل ، وقيل : هي الأرض التي أهلك الله فيها الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف وقيل : هي قرية العنب وهي على فرسخين من بيت المقدس .
قوله تعالى : { وهي خاوية } . ساقطة يقال : " خوي البيت " بكسر الواو يخوي خوى ، مقصوراً إذا سقط وخوى البيت بالفتح خواءً ممدوداً إذا خلا .
قوله تعالى : { على عروشها } . سقوفها ، واحدها عرش وقيل : كل بناء عرش ، ومعناه : أن السقوف سقطت ثم وقعت الحيطان عليها .
قوله تعالى : { قال أنى يحيي هذه الله بعد موتها } . وكان السبب في ذلك على ما روى محمد بن إسحاق بن منبه أن الله تعالى بعث أرمياء إلى ناشية بن أموص ملك بني إسرائيل ليسدده في ذلك ويأتيه بالخبر من الله عز وجل ، فعظمت الأحداث في بني إسرائيل ، وركبوا المعاصي فأوحى الله تعالى إلى أرمياء : أن ذكر قومك نعمي وعرفهم أحداثهم وادعهم إلي ، فقال أرمياء : إني ضعيف إن لم تقوني ، عاجز إن لم تبلغني ، مخذول إن لم تنصرني ، فقال الله عز وجل : أنا ألهمك ، فقام أرمياء فيهم ولم يدر ما يقول فألهمه الله في الوقت خطبة بليغة طويلة بين لهم ثواب الطاعة وعقاب المعصية ، وقال في آخرها عن الله تعالى : " وإني أحلف بعزتي لأقبضن لهم فتنة بتحير فيها الحكيم ، ولأسلطن عليهم جباراً فارسياً ألبسه الهيبة وأنزع من صدره الرحمة يتبعه عدد مثل سواد الليل المظلم " ، ثم أوحى الله تعالى إلى إرمياء " إني مهلك بني إسرائيل ، وبافث من أهل بابل " ، وهم من ولد بافث ابن نوح عليه السلام ، فلما سمع أرمياء ذلك صاح وبكى وشق ثيابه ونبذ الرماد على رأسه ، فلما سمع الله تضرعه وبكاءه ناداه : يا أرمياء أشق عليك ما أوحيت إليك ؟ قال : نعم يا رب أهلكني قبل أن أرى في بني إسرائيل ما لا أسر به فقال الله تعالى : وعزتي لا أهلك بني إسرائيل حتى يكون الأمر في ذلك من قبلك ، ففرح أرمياء بذلك وطابت نفسه ، فقال : لا والذي بعث موسى بالحق لا أرضى بهلاك بني إسرائيل ، ثم أتى الملك فأخبره بذلك ، وكان ملكاً صالحاً . فاستبشر وفرح فقال : إن يعذبنا ربنا فبذنوب كثيرة وإن عفا عنا فبرحمته . ثم إ نهم لبثوا بعد الوحي ثلاث سنين لم يزدادوا إلا معصية وتمادياً في الشر وذلك حين اقترب هلاكهم ، فقل الوحي ، ودعاهم الملك إلى التوبة ، فلم يفعلوا ، فسلط الله عليهم بختنصر ، فخرج في ست مائة ألف راية يريد أهل بيت المقدس ، فلما فصل سائراً أتى الملك الخبر ، فقال لأرمياء : أين ما زعمت أن الله أوحى إليك ؟ فقال أرمياء : إن الله لا يخلف الميعاد وأنا به واثق فلما قرب الأجل بعث الله إلى أرمياء ملكاً قد تمثل له رجلاً من بني إسرائيل فقال له أرمياء : من أنت ؟ قال : أنا رجل من بني إسرائيل أتيتك أستفتيك في أهل رحمي ، وصلت أرحامهم ، ولم آت إليهم إلا حسناً ، ولا يزيدهم إكرامي إياهم إلا إسخاطاً لي فأفتني فيهم ، قال : أحسن فبما بينك وبين الله وصلهم وأبشر بخير . فانصرف الملك فمكث أياماً ثم أقبل إليه في صورة ذلك الرجل ، فقعد بين يديه فقال له أرمياء : من أنت ؟ قال : أنا الرجل الذي أتيتك أستفتيك في شأن أهلي ؟ فقال له أرمياء : أما طهرت أخلاقهم بعدلك ؟ قال : يا نبي الله والذي بعثك بالحق ما أعلم كرامة يأتيها أحد من الناس إلى رحمة إلا قدمتها إليهم وأفضل ، فقال له النبي أرمياء عليه الصلاة والسلام : ارجع إليهم أسأل الله الذي يصلح عباده الصالحين أن يصلحهم ، فانصرف الملك ، فمكث أياماً وقد نزل بختنصر وجنوده حول بيت المقدس بأكثر من الجراد ، ففزع منهم بنو إسرائيل فقال ملكهم لأرمياء : يا نبي الله أين ما وعدك الله ؟ قال : إني بربي واثق ، ثم أقبل الملك إلى أرمياء وهو قاعد على جدار بيت المقدس يضحك ويستبشر بنصر ربه الذي وعده ، فقعد بين يديه فقال له أرمياء : من أنت ؟ فقال : أنا الذي أتيتك في شأن أهلي مرتين ، فقال النبي : ألم يأن لهم أن يفيقوا من الذي هم فيه ؟ فقال الملك : يا نبي الله كل شيء كان يصيبني منهم قبل اليوم كنت أصبر عليه ، فاليوم رأيتهم في عمل لا يرضي الله ، فقال النبي : على أي عمل رأيتهم ؟ قال : على عمل عظيم من سخط الله ، فغضب الله وأتيتك لأخبرك ، وإني أسألك بالله الذي بعثك بالحق نبياً إلا ما دعوت الله عليهم ليهلكهم ، فقال أرمياء : يا مالك السماوات والأرض ، إن كانوا على حق وصواب فأبقهم ، وإن كانوا على عمل لا ترضاه فأهلكهم ، فلما خرجت الكلمة من فم أرمياء ، أرسل الله صاعقة من السماء في بيت المقدس فالتهب مكان القربان وخسف بسبعة أبواب من أبوابها ، فلما رأى ذلك أرمياء صاح وشق ثيابه ونبذ الرماد على رأسه وقال : يا مالك السماوات أين ميعادك الذي وعدتني ؟ فنودي أنه لم يصبهم ما أصابهم إلا بفتياك ودعائك ، فاستيقن النبي عليه السلام أنها فتياه ، وأن ذلك السائل كان رسول ربه ، فطار أرمياء حتى خالط الوحوش . ودخل بختنصر وجنوده بيت المقدس ووطئ الشام وقتل بني إسرائيل حتى أفناهم ، وخرب بيت المقدس ، ثم أمر جنوده أن يملأ كل رجل منهم ترسه فيقذفه في بيت المقدس ، ففعلوا حتى ملؤوه ، ثم أمرهم أن يجمعوا من كان في بلدان بيت المقدس فاجتمع عندهم صغيرهم وكبيرهم من بني إسرائيل ، فاختار منهم سبعين ألف صبي فقسمهم بين الملوك الذين كانوا معه ، فأصاب كل رجل منهم أربعة غلمان ، وكان من أولئك الغلمان دانيال وحنانيا ، وفرق من بقي من بني إسرائيل ثلاث فرق ، فثلثاً قتلهم ، وثلثاً سباهم ، وثلثاً أقرهم بالشام ، وكانت هذه الواقعة الأولى التي أنزلها الله في بني إسرائيل بظلمهم ، فلما ولى عنهم بختنصر راجعاً إلى بابل ومعه سبايا بني إسرائيل أقبل أرمياء على حمار له معه عصير عنب في ركوة ، وسلة تين حتى غشي إيلياء ، فلما وقف عليها ورأى خرابها قال : " أنى يحيي هذه الله بعد موتها " .
وقال الذي قال إن المار كان عزيراً : وأن بختنصر لما خرب بيت المقدس وقدم بسبي بني إسرائيل ببابل كان فيهم عزير ، ودانيال وسبعة آلاف من أهل بيت داود ، فلما نجا عزير من بابل ارتحل على حمار له حتى نزل دير هرقل على شط دجلة ، فطاف في القرية فلم ير فيها أحداً ، وعامة شجرها حامل فأكل من الفاكهة ، واعتصر من العنب فشرب منه ، وجعل فضل الفاكهة في سلة ، وفضل العصير في زق ، فلما رأى خراب القرية وهلاك أهلها قال : ( نى يحيي هذه الله بعد موتها ) قالها تعجباً لا شكاً في البعث .
رجعنا إلى حديث وهب قال : ثم ربط أرمياء حماره بحبل جديد ، فألقى الله تعالى عليه النوم ، فلما نام نزع الله منه الروح مائة عام ، وأمات حماره ، وعصيره وتينه عنده ، فأعمى الله عنه العيون فلم يره أحد ، وذلك ضحىً ، ومنع الله السباع والطير لحمه ، فلما مضى من موته سبعون سنة أرسل الله ملكاً إلى ملك من ملوك فارس يقال له فوشك فقال : إن الله يأمرك أن تنفر بقومك فتعمر بيت المقدس وإيلياء حتى يعود أعمر ما كان ، فانتدب الملك بألف قهرمان ، مع كل قهرمان ثلاثمائة ألف عامل ، وجعلوا يعمرونه ، فأهلك الله بختنصر ببعوضة دخلت دماغه ، ونجى الله من بقي من بني إسرائيل ، ولم يمت ببابل أحد وردهم جميعاً إلى بيت المقدس ونواحيه ، وعمروها ثلاثين سنة ، وكثروا حتى عادوا على أحسن ما كانوا عليه ، فلما مضت المائة أحيا الله منه عينيه ، وسائر جسده ميت ، ثم أحيا جسده وهو ينظر إليه ، ثم نظر إلى حماره فإذا عظامه متفرقة بيض تلوح ، فسمع صوتاً من السماء : أيتها العظام البالية إن الله يأمرك أن تجتمعي ، فاجتمع بعضها إلى بعض ، واتصل بعضها ببعض ثم نودي : إن الله يأمرك أن تكتسي لحماً وجلداً ، فكانت كذلك ثم نودي : إن الله يأمرك أن تحيا ، فقام بإذن الله ونهق ، وعمر الله أرمياء فهو الذي يرى في الفلوات فذلك .
قوله تعالى : { فأماته الله مائة عام ثم بعثه } . أي أحياه .
قوله تعالى : { قال كم لبثت } . أي : كم مكثت ؟ يقال : لما أحياه الله بعث إليه ملكاً فسأله ، كم لبثت ؟ .
قوله تعالى : { قال لبثت يوماً } . وذلك أن الله تعالى أماته ضحى في أول النهار وأحياه بعد مائة عام في آخر النهار قبل غيبوبة الشمس ، فقال : كم لبثت ؟ قال : لبثت يوماً وهو يرى أن الشمس قد غربت ، ثم التفت فرأى بقية من الشمس .
قوله تعالى : { أو بعض يوم } . بل بعض يوم .
قوله تعالى : { قال } . له الملك .
قوله تعالى : { بل لبثت مائة عام فانظر إلى طعامك } . يعني التين .
قوله تعالى : { وشرابك }ز يعني العصير .
قوله تعالى : { لم يتسنه } . أي لم يتغير ، فكان التين كأنه قطف من ساعته ، والعصير كأنه عصر من ساعته . قال الكسائي : كأنه لم تأت عليه السنون . وقرأ حمزة والكسائي ويعقوب " لم يتسن " بحذف الهاء في الوصل وكذلك ( فبهداهم اقتده ) . وقرأ الآخرون بالهاء فيهما وصلاً ووقفاً ، فمن أسقط الهاء في الوصل جعل الهاء صلة زائدة وقال : أصله " يتسنى " فحذف الياء بالجزم ، وأبدل منه هاء في الوقف ، وقال أبو عمرو : هم من التسنن بنونين : وهو التغير كقوله تعالى : ( من حمإ مسنون ) أي متغير فعوضت من إحدى النونين ياء كقوله تعالى : ( ثم ذهب إلى أهله يتمطى ) أي يتمطط ، وقوله ( وقد خاب من دساها ) وأصله " دسسها " ومن أثبت الهاء في الحالين جعل الهاء أصلية لام الفعل وهذا على قول من جعل أصل السنة " السنهة " وتصغيرها سنيهة ، والفعل من المسانهة وإنما قال : لم يتسنه ولم يثنه مع أنه أخبر عن شيئين ردا للمتغير إلى أقرب اللفظين به ، وهو الشراب واكتفى بذكر أحد المذكورين لأنه في معنى الآخر .
قوله تعالى : { وانظر إلى حمارك } . فنظر فإذا هو عظام بيض فركب الله تعالى العظام بعضها على بعض فكساه اللحم ، والجلد وأحياه وهو ينظر .
قوله تعالى : { ولنجعلك آية للناس } . قيل الواو زائدة مقحمة . وقال الفراء : أدخلت الواو فيه دلالة على أنها شرط لفعل بعدها معناه : ولنجعلك آية ، عبرة ودلالة على البعث ، بعد الموت قاله أكثر المفسرين ، وقال الضحاك وغيره : إنه عاد إلى قريته شاباً وأولاده وأولاد شيوخ وعجائز وهو أسود الرأس واللحية .
قوله تعالى : { وانظر إلى العظام كيف ننشزها } . قرأ أهل الحجاز والبصرة " ننشرها " بالراء معناه نحييها يقال : أنشر الله الميت إنشاراً ونشرة ونشوراً قال الله تعالى : ( ثم إذا شاء أنشره ) وقال في اللازم ( وإليه النشور ) وقرأ الآخرون : بالزاي أي نرفعها من الأرض ، ونردها إلى مكانها من الجسد ونركب بعضها على بعض ، وإنشاز الشيء رفعه وإزعاجه ، يقال : أنشزته فنشز أي رفعته فارتفع . واختلفوا في معنى الآية ، فقال الأكثرون : أراد به عظام حماره ، وقال السدي : إن الله تعالى أحيا عزيراً ثم قال له : انظر إلى حمارك قد هلك وبليت عظامه ، فبعث الله تعالى ريحاً فجاءت بعظام الحمار من كل سهل وجبل ، وقد ذهبت بها الطير والسباع ، فاجتمعت فركب بعضها في بعض وهو ينظر ، فصار حماراً من عظام ليس فيه لحم ولا دم .
قوله تعالى : { ثم نكسوها لحماً } . ثم كسا العظام لحماً ودماً ، فصار حماراً لا روح فيه ، ثم أقبل ملك يمشي حتى أخذ بمنخر الخمار فنفخ فيه فقام الحمار ونهق بإذن الله . وقال قوم : أراد به عظام هذا الرجل ، وذلك أن الله تعالى لم يمت حماره بل أماته هو فأحيا الله عينيه ورأسه ، وسائر جسده ميت ، ثم قال : انظر إلى حمارك فنظر فرأى حماره قائماً كهيئته يوم ربطه ، حياً لم يطعم ولم يشرب مائة عام ، ونظر الرمة في عنقه جديدة لم تتغير ، وتقدير الآية : وانظر إلى حمارك وانظر إلى عظامك كيف ننشزها وهذا قول قتادة عن كعب والضحاك عن ابن عباس رضي الله عنهما والسدي عن مجاهد عن ابن عباس رضي الله عنهما ، لما أحيا الله تعالى عزيراً بعد ما أماته مائة سنة ركب حماره حتى أتى محلته ، فأنكره الناس ومنازله فانطلق على وهم حتى أتى منزله فإذا هو بعجوز عمياء مقعدة قد أتى عليها مائة وعشرون سنة كانت عرفته وعقلته فقال لها عزير : يا هذه هذا منزل عزير ؟ قالت : نعم هذا منزل عزير وبكت وقالت : ما رأيت أحداً من كذا وكذا سنة يذكر عزيراً قال : فإني أنا عزير ، قالت : سبحان الله : فإن عزيراً قد فقدناه من مائة سنة لم نسمع له بذكر قال : فإني أنا عزير كان الله أماتني مائة سنة ثم بعثني ، قالت : فإن عزيراً كان رجلاً مستجاب الدعوة ويدعو للمريض ولصاحب البلاء بالعافية ، فادع الله أن يرد لي بصري حتى أراك ، فإن كنت عزيراً عرفتك ، فدعا ربه ومسح بيده على عينيها فصحتا وأخذ بيدها وقال : قومي بإذن الله تعالى ، فأطلق الله رجليها فقامت صحيحة ، فنظرت إليه فقالت : أشهد أنك عزير ، فانطلقت إلى بني إسرائيل وهم في أنديتهم ومجالسهم وابن لعزير شيخ كبير ابن مائة سنة وثماني عشرة سنة وبنو بنيه شيوخ في المجلس ، فنادت : هذا عزير قد جاءكم ، فكذبوها ، فقالت : أنا فلانة مولاتكم دعا لي ربه فرد علي بصري وأطلق رجلي وزعم أن الله كان أماته مائة سنة ثم بعثه ، فنهض الناس فأقبلوا إليه فقال ولده : كان لأبي شامة سوداء مثل الهلال بين كتفيه ، فكشف عن كتفيه فإذا هو عزير .
وقال السدي والكلبي : لما رجع عزير إلى قومه وقد أحرق بختنصر التوراة ولم يكن من الله عهد بين الخلق ، فبكى عزير على التوراة ، فأتاه ملك بإناء فيه ماء فسقاه من ذلك الماء فمثلت التوراة في صدره فرجع إلى بني إسرائيل وقد علمه الله التوراة ، وبعثه نبياً ، فقال : أنا عزير فلم يصدقوه فقال : إني عزير قد بعثني الله إليكم لأجدد لكم توراتكم قالوا : أملها علينا ؟ فأملاها عليهم من ظهر قلبه ، فقالوا : ما جعل الله التوراة في صدر رجل بعد ما ذهبت إلا أنه ابنه ، فقالوا : عزير ابن الله ، وستأتي القصة في سورة براءة إن شاء الله تعالى . قوله تعالى : { فلما تبين له } . ذلك عياناً .
قوله تعالى : { قال أعلم } . قرأ حمزة والكسائي مجزوماً موصولا على الأمر على معنى : قال الله تعالى له : اعلم ، وقرأ الآخرون " أعلم " بقطع الألف ورفع الميم على الخبر عن عزير أنه قال : لما رأى ذلك أعلم .
{ أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }
وهذا أيضا دليل آخر على توحد الله بالخلق والتدبير والإماتة والإحياء ، فقال : { أو كالذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها } أي : قد باد أهلها وفني سكانها وسقطت حيطانها على عروشها ، فلم يبق بها أنيس بل بقيت موحشة من أهلها مقفرة ، فوقف عليها ذلك الرجل متعجبا و { قال أنى يحيي هذه الله بعد موتها } استبعادا لذلك وجهلا بقدرة الله تعالى ، فلما أراد الله به خيرا أراه آية في نفسه وفي حماره ، وكان معه طعام وشراب ، { فأماته الله مائة عام ثم بعثه قال كم لبثت قال لبثت يوما أو بعض يوم } استقصارا لتلك المدة التي مات فيها لكونه قد زالت معرفته وحواسه وكان عهد حاله قبل موته ، فقيل له { بل لبثت مائة عام فانظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنه } أي : لم يتغير بل بقي على حاله على تطاول السنين واختلاف الأوقات عليه ، ففيه أكبر دليل على قدرته حيث أبقاه وحفظه عن التغير والفساد ، مع أن الطعام والشراب من أسرع الأشياء فسادا { وانظر إلى حمارك } وكان قد مات وتمزق لحمه وجلده وانتثرت عظامه ، وتفرقت أوصاله { ولنجعلك آية للناس } على قدرة الله وبعثه الأموات من قبورهم ، لتكون أنموذجا محسوسا مشاهدا بالأبصار ، فيعلموا بذلك صحة ما أخبرت به الرسل { وانظر إلى العظام كيف ننشزها } أي : ندخل بعضها في بعض ، ونركب بعضها ببعض { ثم نكسوها لحما } فنظر إليها عيانا كما وصفها الله تعالى ، { فلما تبين له } ذلك وعلم قدرة الله تعالى { قال أعلم أن الله على كل شيء قدير } والظاهر من سياق الآية أن هذا رجل منكر للبعث أراد الله به خيرا ، وأن يجعله آية ودليلا للناس لثلاثة أوجه أحدها قوله { أنى يحيي هذه الله بعد موتها } ولو كان نبيا أو عبدا صالحا لم يقل ذلك ، والثاني : أن الله أراه آية في طعامه وشرابه وحماره ونفسه ليراه بعينه فيقر بما أنكره ، ولم يذكر في الآية أن القرية المذكورة عمرت وعادت إلى حالتها ، ولا في السياق ما يدل على ذلك ، ولا في ذلك كثير فائدة ، ما الفائدة الدالة على إحياء الله للموتى في قرية خربت ثم رجع إليها أهلها أو غيرهم فعمروها ؟ ! وإنما الدليل الحقيقي في إحيائه وإحياء حماره وإبقاء طعامه وشرابه بحاله ، والثالث في قوله : { فلما تبين له } أي : تبين له أمر كان يجهله ويخفى عليه ، فعلم بذلك صحة ما ذكرناه ، والله أعلم .
{ أَوْ كَالّذِي مَرّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنّىَ يُحْيِي هََذِهِ اللّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللّهُ مِئَةَ عَامٍ ثُمّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَل لّبِثْتَ مِئَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنّهْ وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنّاسِ وَانْظُرْ إِلَى العِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمّ نَكْسُوهَا لَحْماً فَلَمّا تَبَيّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنّ اللّهَ عَلَى كُلّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } .
يعني تعالى ذكره بقوله : { أوْ كالّذِي مَرّ على قَرْيَةٍ } نظير الذي عنى بقوله : { ألَمْ تَرَ الّذِي حاجّ إبْرَاهِيمَ فِي رَبّهَ } من تعجيب محمد صلى الله عليه وسلم منه .
وقوله : { أوْ كالّذِي مَرّ على قَرْيَةٍ } عطف على قوله : { ألَمْ تَرَ إلى الّذِي حاجّ إبْرَاهِيمَ فِي رَبّهِ } . وإنما عطف قوله : { أوْ كالّذِي } على قوله : { إلى الّذِي حاجّ إبْرَاهِيمَ فِي رَبّهِ } وإن اختلف لفظاهما ، لتشابه معنييهما ، لأن قوله : { ألَمْ تَرَ إلى الّذِي حاجّ إبْرَاهِيمَ فِي رَبّهِ } بمعنى : هل رأيت يا محمد كالذي حاجّ إبراهيم في ربه ، ثم عطف عليه بقوله : { أوْ كالّذِي مَرّ على قَرْيَةٍ } لأن من شأن العرب العطف بالكلام على معنى نظير له قد تقدمه وإن خالف لفظه لفظه . وقد زعم بعض نحويي البصرة أن «الكاف » في قوله : { أوْ كالّذِي مَرّ على قَرْيَةٍ } زائدة ، وأن المعنى : ألم ترى إلى الذي حاجّ إبراهيم ، أو الذي مرّ على قرية . وقد بينا قبل فيما مضى أنه غير جائز أن يكون في كتاب الله شيء لا معنى له بما أغنى عن إعادته في هذا الموضعت .
واختلف أهل التأويل في الذي مرّ على قرية وهي خاوية على عروشها ، فقال بعضهم : هو عُزَيْر . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن أبي إسحاق ، عن ناجية بن كعب : { أوْ كالّذِي مَرّ على قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ على عُرُوشِها } قال : عزير .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا يحيى بن واضح ، قال : حدثنا أبو خزيمة ، قال : سمعت سليمان بن بريدة في قوله : { أوْ كالّذِي مَرّ عَلَى قَرْيَةٍ } قال : هو عزير .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : { أوْ كالّذِي مَرّ على قَرْيَةٍ وَهِيَ خاويَةٌ على عُرُوشِها } قال : ذكر لنا أنه عزير .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ( مثله ) .
حدثت عن عمار ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه قوله : { أوْ كالّذِي مَرّ على قَرْيَةٍ } قال : قال الربيع : ذكر لنا والله أعلم أن الذي أتى على القرية هو عزير .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين قال : ثني حجاج عن ابن جريج ، عن عكرمة : { أوْ كالّذِي مَرّ على قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِها } قال : عزير .
حدثني موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط عن السدي : { أوْ كالّذِي مَرّ على قَرْيَةٍ } قال : عزير .
حدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد بن سليمان ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : { أوْ كالّذي مَرّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ على عُرُوشِهَا } إنه هو عزير .
حدثني يونس ، قال : قال لنا سلم الخواص : كان ابن عباس يقول : هو عزير .
وقال آخرون : هو إرميا بن حلقيّا وزعم محمد بن إسحاق أن إرميا هو الخضر .
حدثنا بذلك ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، قال : حدثنا ابن إسحاق ، قال : اسم الخضر فيما كان وهب بن منبه يزعم عن بني إسرائيل ، إرميا بن حلَقيّا ، وكان من سبط هارون بن عمران .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : حدثنا عبد الصمد بن معقل أنه سمع وهب بن منبه يقول في قوله : { أنّى يُحْيِي هَذِهِ اللّهُ بَعْدَ مَوْتِها } أن إرميا لما خرِب بيت المقدس وحرقت الكتب ، وقف في ناحية الجبل ، فقال : { أَنى يُحْيِي هَذِهِ اللّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا } .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، قال : ثني ابن إسحاق ، عمن لا يتهم ، عن وهب بن منبه ، قال : هو إرميا .
حدثني محمد بن عسكر ، قال : حدثنا إسماعيل بن عبد الكريم ، قال : سمعت عبد الصمد بن معقل ، عن وهب بن منبه ، مثله .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى بن ميمون ، عن قيس بن سعد ، عن عبد الله بن عبيد بن عمير في قول الله : { أوْ كالّذِي مَرّ على قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ على عُرُوشِها } قال : كان نبيا وكان اسمه إرميا .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن قيس بن سعد ، عن عبد الله بن عبيد ، مثله .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : أخبرني بكر بن مضر قال : يقولون والله أعلم : إنه إرميا .
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال : إن الله تعالى ذكره عجّب نبيه صلى الله عليه وسلم ممن قال إذ رأى قرية خاوية على عروشها : { أنّى يُحْيِي هَذِهِ اللّهُ بَعْدَ مَوْتِها } مع علمه أنه ابتدأ خلقها من غير شيء ، فلم يقنعه علمه بقدرته على ابتدائها ، حتى قال : أنى يحييها الله بعد موتها ! ولا بيان عندنا من الوجه الذي يصحّ من قبله البيان على اسم قائل ذلك ، وجائز أن يكون ذلك عزيرا ، وجائز أن يكون إرميَا ، ولا حاجة بنا إلى معرفة اسمه ، إذ لم يكن المقصود بالآية تعريف الخلق اسم قائل ذلك . وإنما المقصود بها تعريف المنكرين قدرة الله على إحيائه خلقه بعد مماتهم ، وإعادتهم بعد فنائهم ، وأنه الذي بيده الحياة والموت من قريش ، ومن كان يكذّب بذلك من سائر العرب ، وتثبيت الحجة بذلك على من كان بين ظهراني مهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم من يهود بني إسرائيل بإطلاعه نبيه محمد صلى الله عليه وسلم على ما يزيل شكهم في نبوّته ، ويقطع عذرهم في رسالته ، إذ كانت هذه الأنباء التي أوحاها إلى نبيه محمد صلى الله عليه وسلم في كتابه من الأنباء التي لم يكن يعلمها محمد صلى الله عليه وسلم وقومه ، ولم يكن علم ذلك إلا عند أهل الكتاب ، ولم يكن محمد صلى الله عليه وسلم وقومه منهم ، بل كان أميا وقومه أميون ، فكان معلوما بذلك عند أهل الكتاب من اليهود الذين كانوا بين ظهراني مهاجره أن محمدا صلى الله عليه وسلم لم يعلم ذلك إلا بوحي من الله إليه . ولو كان المقصود بذلك الخبر عن اسم قائل ذلك لكانت الدلالة منصوبة عليه نصبا يقطع العذر ويزيل الشك ، ولكن القصد كان إلى ذمّ قيله ، فأبان تعالى ذكره ذلك لخلقه .
واختلف أهل التأويل في القرية التي مرّ عليها القائل : { أنّى يُحْيِي هَذِهِ اللّهُ بَعْدَ مَوْتِها } فقال بعضهم : هي بيت المقدس . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سهل بن عسكر ومحمد بن عبد الملك ، قالا : حدثنا إسماعيل بن عبد الكريم ، قال : ثني عبد الصمد بن معقل أنه سمع وهب بن منبه ، قال : لما رأى إرميا هدم بيت المقدس كالجبل العظيم ، قال : { أنّى يُحْيِي هَذِهِ اللّهُ بَعْدَ مَوْتِها } .
ثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا عبد الصمد بن معقل أنه سمع وهب بن منبه ، قال : هي بيت المقدس .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، قال : ثني ابن إسحاق عمن لا يتهم أنه سمع وهب بن منبه يقول ذلك .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قال : ذكر لنا أنه بيت المقدس ، أتى عزير بعد ما خرّبه بختنصر البابلي .
حدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ ، قال : حدثنا عبيد بن سليمان ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : { أوْ كالّذِي مَرّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ على عُرُوشِها } أنه مرّ على الأرض المقدسة .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن عكرمة في قوله : { أوْ كالّذِي مَرّ على قَرْيَةٍ } قال : القرية : بيت المقدس ، مرّ بها عُزَيْر بعد إذ خرّبها بختنصر .
حدثت عن عمار ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع : { أوْ كالّذِي مَرّ عَلى قَرْيَةٍ } قال : القرية بيت المقدس ، مرّ عليها عزير وقد خرّبها بختنصر .
وقال آخرون : بل هي القرية التي كان الله أهلك فيها الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت ، فقال لهم ( الله ) موتوا . ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قول الله تعالى ذكره : { ألَمْ تَرَى إلى الّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ } قال : قرية كان نزل بها الطاعون ، ثم اقتصّ قصتهم التي ذكرناها في موضعها عنه ، إلى أن بلغ فقال لهم الله موتوا في المكان الذي ذهبوا يبتغون فيه الحياة ، فماتوا ثم أحياهم الله { إنّ اللّهَ لَذُو فَضْلٍ على النّاسِ ولكنّ أكْثَرَ النّاسِ لا يَشْكُرُونَ } . قال : ومرّ بها رجل وهي عظام تلوح ، فوقف ينظر ، فقال { أنّى يُحْيِي هَذِهِ اللّهُ بَعْدَ مَوْتِها ، فَأماتَهُ اللّهُ مائَةَ عامٍ ثُمّ بَعَثَهُ } إلى قوله { لَمْ يَتَسَنّه } .
والصواب من القول في ذلك كالقول في اسم القائل : { أنّى يُحْيِي هَذِهِ اللّهُ بَعْدَ مَوْتِها } سواء لا يختلفان .
( القول في تأويل قوله تعالى : { وَهِيَ خاوِيَةٌ على عُرُوشِها } .
يعني تعالى ذكره بقوله : { وَهِيَ خَاوِيَةٌ } وهي خالية من أهلها وسكانها ، يقال من ذلك : خوت الدار تَخْوي خَواءً وخُوِيّا ، وقد يقال للقرية : خَوِيَت ، والأول أعرب وأفصح . وأما في المرأة إذا كانت نفساء فإنه يقال : خَوِيَتْ تَخْوَى خَوًى منقوصا ، وقد يقال فيها : خَوَتْ تَخْوِي ، كما يقال في الدار ، وكذلك خَوِيَ الجوف يَخْوَى خَواءً شَديدا ، ولو قيل في الجوف ما قيل في الدار وفي الدار ما قيل في الجوف كان صوابا ، غير أن الفصيح ما ذكرت . وأما العروش : فإنها الأبنية والبيوت ، واحدها عَرْش ، وجمع قليله أَعْرُش ، وكل بناء فإنه عرش ، ويقال : عرش فلان ( دارا ) يعرِش ويعرُش ، وعرّش تعريشا ، ومنه قول الله تعالى ذكره : { وَما كانُوا يَعْرِشُونَ } يعني يبنون ، ومنه قيل عريش مكة ، يعني به : خيامها وأبنيتها .
وبمثل الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، قال : قال ابن جريج ، قال ابن عباس : خاوية : خراب . قال ابن جريج : بلغنا أن عزيرا خرج فوقف على بيت المقدس وقد خرّبه بختنصر ، فوقف فقال : أبعد ما كان لك من القدس والمقاتِلة والمال ما كان ! فحزن .
حدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ ، قال : حدثنا عبيد بن سليمان ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : { وَهِيَ خَاوِيَةٌ على عُرُوشِها } قال : هي خراب .
حدثت عن عمار ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع ، قال : مرّ عليها عزير وقد خرّبها بختنصر .
حدثني موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : { وَهِيَ خَاوِيَةٌ على عُرُوشِها } يقول : ساقطة على سقفها .
القول في تأويل قوله تعالى : { قالَ أنّى يُحْيِي هَذِهِ اللّهُ بَعْدَ مَوْتِها فأماتَهُ اللّهُ مِائَةَ عامٍ } .
ومعنى ذلك فيما ذكرت : أن قائله لما مرّ ببيت المقدس ، أو بالموضع الذي ذكر الله أنه مرّ به خرابا بعد ما عهده عامرا ، قال : { أنّى يُحْيِي هَذِهِ اللّهُ بَعْدَ مَوْتِها } ؟ فقال بعضهم : كان قيله ما قال من ذلك شكّا في قدرة الله على إحيائه . فأراه الله قدرته على ذلك بضربه المثل له في نفسه ، ثم أراه الموضع الذي أنكر قدرته على عمارته وإحيائه ، أحيا ما رآه قبل خرابه ، وأعمر ما كان قبل خرابه . وذلك أن قائل ذلك كان فيما ذكر لنا عهده عامرا بأهله وسكانه ، ثم رآه خاويا على عروشه ، قد باد أهله وشتتهم القتل والسباء ، فلم يبق منهم بذلك المكان أحد ، وخربت منازلهم ودورهم ، فلم يبق إلا الأثر . فلما رآه كذلك بعد الحال التي عهده عليها ، قال : على أيّ وجه يحيي هذه الله بعد خرابها فيعمرها ! استنكارا فيما قاله بعض أهل التأويل . فأراه كيفية إحيائه ذلك بما ضربه له في نفسه ، وفيما كان من شرابه وطعامه ، ثم عرّفه قدرته على ذلك وعلى غيره بإظهاره إحياء ما كان عجبا عنده في قدرة الله إحياؤه لرأي عينه حتى أبصره ببصره ، فلما رأى ذلك قال : { أعْلَمُ أنّ اللّهَ على كُلّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عمن لا يتهم ، عن وهب بن منبه اليماني أنه كان يقول : قال الله لإرميا حين بعثه نبيا إلى بني إسرائيل : يا إرميا من قبل أن أخلقك اخترتك ، ومن قبل أن أصوّرك في رحم أمك قدستك ، ومن قبل أن أخرجك من بطنها طهرتك ، ومن قبل أن تبلغ السعي نبأتك ، ومن قبل أن تبلغ الأشد اخترتك ، ولأمر عظيم اجتبيتك ، فبعث الله تعالى ذكره إرميا إلى ملك بني إسرائيل يسدّده ويرشده ، ويأتيه بالخبر من الله فيما بينه وبينه¹ قال : ثم عظمت الأحداث في بني إسرائيل ، وركبوا المعاصي ، واستحلوا المحارم ، ونسوا ما كان الله صنع بهم ، وما نجاهم من عدوّهم سنحاريب ، فأوحى الله إلى إرميا : أن ائت قومك من بني إسرائيل ، فاقصص عليهم ما آمرك به ، وذكرهم نعمتي عليهم وعرّفهم أحداثهم ، ثم ذكر ما أرسل الله به إرميا إلى قومه من بني إسرائيل ، قال : ثم أوحى الله إلى إرميا : إني مهلك بني إسرائيل بيافث ، ويافث أهل بابل ، وهم من ولد يافث بن نوح¹ فلما سمع إرميا وحي ربه ، صاح وبكى وشقّ ثيابه ، ونبذ الرماد على رأسه ، فقال : ملعون يوم ولدت فيه ، ويوم لقيت التوراة ، ومن شرّ أيامي يوم ولدت فيه ، فما أبقيت آخر الأنبياء إلا لما هو شرّ عليّ ، لو أراد بي خيرا ما جعلني آخر الأنبياء من بني إسرائيل ، فمن أجلي تصيبهم الشقوة والهلاك¹ فلما سمع الله تضرّع الخضر وبكاءه وكيف يقول : ناداه : إرميا أشقّ عليك ما أوحيت إليك ؟ قال : نعم يا ربّ أهلكني في بني إسرائيل ما لا أسرّ به ، فقال الله : وعزتي العزيزة لا أهلك بيت المقدس وبني إسرائيل حتى يكون الأمر من قبلك في ذلك ، ففرح عند ذلك إرميا لما قال له ربه ، وطابت نفسه ، وقال : لا والذي بعث موسى وأنبياءه بالحقّ ، لا آمر ربي بهلاك بني إسرائيل أبدا ، ثم أتى ملك بني إسرائيل ، وأخبره بما أوحى الله إليه ، ففرح واستبشر ، وقال : إن يعذّبنا ربنا فبذنوب كثيرة قدمناها لأنفسنا ، وإن عفا عنا فبقدرته¹ ثم إنهم لبثوا بعد هذا الوحي ثلاث سنين لم يزدادوا إلا معصية ، وتمادوا في الشرّ ، وذلك حين اقترب هلاكهم ، فقلّ الوحي ، حتى لم يكونوا يتذكرون الاَخرة ، وأمسك عنهم حين ألهتهم الدنيا وشأنها ، فقال ملكهم : يا بني إسرائيل انتهوا عما أنتم عليه قبل أن يمسكم بأس من الله ، وقبل أن يبعث عليكم ملوك لا رحمة لهم بكم ، فإن ربكم قريب التوبة ، مبسوط اليدين بالخير ، رحيم من تاب إليه ، فأبوا عليه أن ينزعوا عن شيء مما هم عليه ، وإن الله ألقى في قلب بختنصر بن نعون بن زادان أن يسير إلى بيت المقدس ، ثم يفعل فيه ما كان جده سنحاريب أراد أن يفعله ، فخرج في ستمائة ألف راية يريد أهل بيت المقدس¹ فلما فصل سائرا أتى ملك بني إسرائيل الخبر أن بختنصر أقبل هو وجنوده يريدكم ، فأرسل الملك إلى إرميا ، فجاءه فقال : يا إرميا أين ما زعمت لنا أن ربنا أوحى إليك أن لا يهلك أهل بيت المقدس حتى يكون منك الأمر في ذلك ، فقال إرميا للملك : إن ربي لا يخلف الميعاد ، وأنا به واثق¹ فلما اقترب الأجل ، ودنا انقطاع ملكهم ، وعزم الله على هلاكهم ، بعث الله ملكا من عنده ، فقال له : اذهب إلى إرميا فاستفته ، وأمره بالذي يستفتيه فيه ، فأقبل المَلك إلى إرميا ، وقد تمثل له رجلاً من بني إسرائيل ، فقال له إرميا : من أنت ؟ قال : رجل من بني إسرائيل أستفتيك في بعض أمري ، فأذن له ، فقال الملك : يا نبيّ الله أتيتك أستفتيك في أهل رحمي ، وصلت أرحامهم بما أمرني الله به ، لم آت إليهم إلا حسَنا ، ولم آلهم كرامة ، فلا تزيدهم كرامتي إياهم إلا إسخاطا لي ، فأفتني فيهم يا نبيّ الله ، فقال له : أحسن فيما بينك وبين الله ، وصل ما أمرك الله به أن تصل ، وأبشر بخير ، فانصرف عنه الملك¹ فمكث أياما ثم أقبل إليه في صورة ذلك الرجل الذي جاءه ، فقعد بين يديه ، فقال له إرميا : من أنت ؟ قال : أنا الرجل الذي أتيتك في شأن أهلي ، فقال له نبيّ الله ، أو ما طهرت لك أخلاقهم بعد ، ولم تر منهم الذي تحب ، فقال : يا نبيّ الله ، والذي بعثك بالحقّ ما أعلم كرامة يأتيها أحد من الناس إلى أهل رحمه إلا وقد أتيتها إليهم وأفضل من ذلك ، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم : ارجع إلى أهلك فأحسن إليهم ، اسأل الله الذي يصلح عباده الصالحين أن يصلح ذات بينكم ، وأن يجمعكم على مرضاته ، ويجنبكم سخطه ، فقال الملك من عنده ، فلبث أياما ، وقد نزل بختنصر بجنوده حول بيت المقدس أكثر من الجراد ، ففزع بنو إسرائيل فزعا شديدا ، وشقّ ذلك على ملك بني إسرائيل ، فدعا إرميا ، فقال : يا نبيّ الله ، أين ما وعدك الله ، إني بربي واثق ، ثم إن الملك أقبل إلى إرميا وهو قاعد على جدار بيت المقدس يضحك ويستبشر بنصر ربه الذي وعده ، فقعد بين يديه ، فقال له إرميا : من أنت ؟ قال : أنا الذي كنت استفتيك في شأن أهلي مرتين ، فقال له النبيّ صلى الله عليه وسلم : أو لم يأن لهم أن يفيقوا من الذي هم فيه ؟ فقال الملك : يا نبيّ الله كل شيء كان يصيبني منهم قبل اليوم كنت أصبر عليه ، وأعلم أنما قصدهم في ذلك سخطي ، فلما أتيتهم اليوم رأيتهم في عمل لا يرضي الله ، ولا يحبه الله ، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم : على أيّ عمل رأيتهم ؟ قال : يا نبيّ الله رأيتهم على عمل عظيم من سخط الله ، ولو كانوا على مثل ما كانوا عليه قبل اليوم لم يشتدّ عليهم غضبي ، وصبرت لهم ورجوتهم ، ولكن غضبت اليوم لله ولك ، فأتيتك لأخبرك خبرهم ، وإني أسألك بالله الذي بعثك بالحقّ إلا ما دعوت عليهم ربك أن يهلكهم ، فقال إرميا : يا مالك السموات والأرض ، إن كانوا على حقّ وصواب فأبقهم ، وإن كانوا على سخطك وعمل لا ترضاه ، فأهلكهم¹ فلما خرجت الكلمة من في إرميا أرسل الله صاعقة من السماء في بيت المقدس ، فالتهب مكان القربان وخُسف بسبعة أبواب من أبوابها¹ فلما رأى ذلك إرميا صاح وشقّ ثيابه ، ونبذ الرماد على رأسه ، فقال : يا ملك السماء ، ويا أرحم الراحمين أين ميعادك الذي وعدتني ؟ فنودي إرميا إنه لم يصبهم الذي أصابهم إلا بفتياك التي أفتيت بها رسولنا ، فاستيقن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنها فتياه التي أفتى بها ثلاث مرات ، وأنه رسول ربه ، فطار إرميا حتى خالط الوحوش ، ودخل بختنصر وجنوده بيت المقدس ، فوطىء الشام وقتل بني إسرائيل حتى أفناهم ، وخرّب بيت المقدس ، ثم أمر جنوده أن يملأ كل رجل منهم ترسه ترابا ثم يقذفه في بيت المقدس ، فقذفوا فيه التراب حتى ملئوه ، ثم انصرف راجعا إلى أرض بابل ، واحتمل معه سبايا بني إسرائيل ، وأمرهم أن يجمعوا من كان في بيت المقدس كلهم ، فاجتمع عنده كل صغير وكبير من بني إسرائيل ، فاختار منهم تسعين ألف صبي فلما خرجت غنائم جنده ، وأراد أن يقسمهم فيهم ، قالت له الملوك الذي كانوا معه : أيها الملك ، لك غنائمنا كلها ، واقسم بيننا هؤلاء الصبيان الذين اخترتهم من بني إسرائيل ، ففعل ، فأصاب كل واحد منهم أربعة غلمة ، وكان من أولئك الغلمان : دانيال ، وعزاريا ، ومسايل ، وحنانيا . وجعلهم بختنصر ثلاث فرق : فثلثا أقرّ بالشام ، وثلثا سبي ، وثلثا قتل ، وذهب بأسبية بيت المقدس حتى أقدمها بابل وبالصبيان التسعين الألف حتى أقدمهم بابل ، فكانت هذه الواقعة الأولى التي ذكر الله تعالى ذكره نبيّ الله بأحداثهم وظلمهم ، فلما ولى بختنصر عنه راجعا إلى بابل بمن معه من سبايا بني إسرائيل ، أقبل إرميا على حمار له معه عصير من عنب في زكرة وسلة تين ، حتى أتى إيليا ، فلما وقف عليها ، ورأى ما بها من الخراب دخله شك ، فقال : { أَنّى يُحْيِي هَذِهِ اللّهُ بَعْدَ مَوْتِها فأماتَهُ اللّهُ مِائَةَ عامٍ } وحماره وعصيره وسلة تينه عنده حيث أماته الله ، ومات حماره معه ، فأعمى الله عنه العيون ، فلم يره أحد ، ثم بعثه الله تعالى ، فقال له : { كَمْ لَبِثْتَ قالَ لَبِثْتُ يَوْما أوْ بَعْضَ يَوْمٍ قالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عامٍ فَانْظُرْ إلى طَعَامِكَ وَشرَابِكَ لَمْ يَتَسَنّه } يقول : لم يتغير { وَانْظُرْ إلى حِمارِكَ وَلِنَجْعَلَك آيَةً للنّاسِ وَانْظُرْ إلى العِظامِ كَيْفَ نُنْشِزُها ثُمّ نَكْسُوها لَحْما } فنظر إلى حماره يتصل بعضه إلى بعض ، وقد مات معه بالعروق والعصب ، ثم كيف كسي ذلك منه اللحم ، حتى استوى ، ثم جرى فيه الروح ، فقام ينهق ، ونظر إلى عصيره وتينه ، فإذا هو على هيئته حين وضعه لم يتغير . فلما عاين من قدرة الله ما عاين قال : أعلم أن الله على كل شيء قدير ، ثم عمر الله إرميا بعد ذلك ، فهو الذي يرى بفلوات الأرض والبلدان .
حدثني محمد بن عسكر وابن زَنْجُوَيْه ، قالا : حدثنا إسماعيل بن عبد الكريم ، قال : ثني عبد الصمد بن معقل أنه سمع وهب بن منبه يقول : أوحى الله إلى إرميا وهو بأرض مصر أن الحق بأرض إيليا ، فإن هذه ليست لك بأرض مقام ، فركب حماره ، حتى إذا كان ببعض الطريق ، ومعه سلة من عنب وتين ، وكان معه سقاء جديد ، فملأه ماء ، فلما بدا له شخص بيت المقدس وما حوله من القرى والمساجد ، ونظر إلى خراب لا يوصف ، ورأى هَدم بيت المقدس كالجبل العظيم ، قال : { أَنّى يُحْيِي هَذِهِ اللّهُ بَعْدَ مَوْتِها } وسار حتى تبوأ منها منزلاً ، فربط حماره بحبل جديد . وعلق سقاءه ، وألقى الله عليه السبات¹ فلما نام نزع الله روحه مائة عام¹ فلما مرّت من المائة سبعون عاما ، أرسل الله ملكا إلى ملك من ملوك فارس عظيم يقال له يوسك ، فقال : إن الله يأمرك أن تنفر بقومك فتعمر بيت المقدس وإيلياء وأرضها ، حتى تعود أعمر ما كانت ، فقال الملك : أنظرني ثلاثة أيام حتى أتأهب لهذا العمل ولما يصلحه من أداء العمل ، فأنظره ثلاثة أيام ، فانتدب ثلاثمائة قهرمان ، ودفع إلى كل قهرمان ألف عامل ، وما يصلحه من أداة العمل ، فسار إليها قهارمته ، ومعهم ثلاثمائة ألف عامل¹ فلما وقعوا في العمل ردّ الله روح الحياة في عين إرميا ، وأخر جسده ميتا ، فنظر إلى إيليا وما حولها من القرى والمساجد والأنهار والحروث تعمل وتعمر وتجدّد ، حتى صارتا كما كانت . وبعد ثلاثين سنة تمام المائة ، ردّ إليه الروح ، فنظر إلى طعامه وشرابه لم يتسنّه ، ونظر إلى حماره واقفا كهيئته يوم ربطه لم يطعم ولم يشرب ، ونظر إلى الرّمة في عنق الحمار لم تتغير جديدة ، وقد أتى على ذلك ريح مائة عام وبرد مائة عامر وحرّ مائة عام ، لم تتغير ولم تنتقض شيئا ، وقد نحل جسم إرميا من البلى ، فأنبت الله له لحما جديدا ، ونشزَ عظامه وهو ينظر ، فقال له الله : { انْظُرْ إلى طَعامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنّهْ وَانْظُرْ إلى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً للنّاسِ وَانْظُرْ إلى العِظامِ كَيْفَ نُنْشِزُها ثُمّ نَكْسُوها لَحْما فَلَمّا تَبَيّنَ لَه قالَ أعْلَمُ أنّ اللّه على كُلّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا عبد الصمد بن معقل أنه سمع وهب بن منبه يقول في قوله : { أنّى يُحْيِي هَذِهِ اللّهُ بَعْدَ مَوْتِها } إن إرميا لما خرب بيت المقدس وحرقت الكتب ، وقف في ناحية الجبل ، فقال : { أنّى يُحْيِي هَذِهِ اللّهُ بَعْدَ مَوْتِها فأماتَهُ اللّهُ مِائَةَ عامٍ } ثم ردّ الله من ردّ من بني إسرائيل على رأس سبعين سنة من حين أماته يعمرونها ثلاثين سنة تمام المائة¹ فلما ذهبت المائة ردّ الله روحه وقد عُمّرت على حالها الأولى ، فجعل ينظر إلى العظام كيف تلتام بعضها إلى بعض ، ثم نظر إلى العظام كيف تكسى عصبا ولحما . { فَلَمّا تَبَيّنَ } له ذلك { قالَ أعْلَمُ أنّ اللّهَ عَلى كلّ شيءٍ قَدِيرٌ } فقال الله تعالى ذكره : { انْظُرْ إلى طعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنّهْ } قال : فكان طعامه تينا في مكتل ، وقُلّة فيها ماء .
حدثني موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : { أوْ كالّذِي مَرّ عَلى قَرْيَةٍ وَهِيَ خاوِيَةٌ على عُرُوشِها } وذلك أن عزيرا مرّ جائيا من الشام على حمار له معه عصير وعنب وتين¹ فلما مرّ بالقرية فرآها ، وقف عليها وقلب يده وقال : كيف يحيي هذه الله بعد موتها ؟ ليس تكذيبا منه وشكّا . فأماته الله وأمات حماره ، فهلكا ومرّ عليهما مائة سنة . ثم إن الله أحيا عزيرا فقال له : كم لبثت ؟ قال له : لبثت يوما أو بعض . قيل له : بل لبثت مائة عام ، فانظر إلى طعامك من التين والعنب ، وشرابك من العصير { لَمْ يَتَسَنّهْ } . . . الآية .
القول في تأويل قوله تعالى : { ثُمّ بَعَثَهُ قالَ كَمْ لَبِثْتَ قالَ لَبِثْتُ يَوْما أوْ بَعْضَ يَوْمٍ قال بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عامٍ } .
يعني تعالى ذكره بقوله : { ثُمّ بَعَثَهُ } ثم أثاره حيا من بعد مماته . وقد دللنا على معنى البعث فيما مضى قبل .
وأما معنى قوله : { كَمْ لَبِثْتَ } فإن كم استفهام في كلام العرب عن مبلغ العدد ، وهو في هذا الموضع نصب ب«لبثت » ، وتأويله : قال الله له : كم قدر الزمان الذي لبثت ميتا قبل أن أبعثك من مماتك حيا ؟ قال المبعوث بعد مماته : لبثت ميتا إلى أن بعثتني حيا يوما واحدا أو بعض يوم . وذكر أن المبعوث هو إرميا أو عزير ، أو من كان ممن أخبر الله عنه هذا الخبر . وإنما قال : { لَبِثْتُ يَوْما أوْ بَعْضَ يَوْمٍ } لأن الله تعالى ذكره كان قبض روحه أول النهار ، ثم ردّ روحه آخر النهار بعد المائة عام فقيل له : كم لبثت ؟ قال : لبثت يوما¹ وهو يرى أن الشمس قد غربت فكان ذلك عنده يوما لأنه ذكر أنه قبض روحه أول النهار وسئل عن مقدار لبثه ميتا آخر النهار وهو يرى أن الشمس قد غربت ، فقال : لبثت يوما ، ثم رأى بقية من الشمس قد بقيت لم تغرب ، فقال : أو بعض يوم ، بمعنى : بل بعض يوم ، كما قال تعالى ذكره : { وأرْسَلْنَاهُ إلى مِائَةِ ألْفٍ أوْ يَزِيدُونَ } بمعنى : بل يزيدون . فكان قوله : { أوْ بَعْضَ يَوْمٍ } رجوعا منه عن قوله : { لَبِثْتُ يَوْما } .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال جماعة من أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : { ثُمّ بَعَثَهُ قالَ كَمْ لَبِثْتَ قالَ لَبِثْتُ يَوْما أوْ بَعْضَ يَوْمٍ } قال : ذكر لنا أنه مات ضحى ، ثم بعثه قبل غيبوبة الشمس ، فقال : لبثت يوما . ثم التفت فرأى بقية من الشمس ، فقال : أو بعض يوم . فقال : بل لبثت مائة عام .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة : { أنّى يُحْيِي هَذِهِ اللّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا } قال : مرّ على قرية فتعجب ، فقال : أنى يحيي هذه الله بعد موتها ! فأماته الله أوّل النهار ، فلبث مائة عام ، ثم بعثه في آخر النهار ، فقال : كم لبثت ؟ قال : لبثت يوما أو بعض يوم ، قال : بل لبثت مائة عام .
حدثت عن عمار بن الحسن ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، قال : قال الربيع : أماته الله مائة عام ، ثم بعثه ، قال : كم لبثت ؟ قال : لبثت يوما أو بعض يوم . قال : بل لبثت مائة عام .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، قال : قال ابن جريج : لما وقف على بيت المقدس وقد خرّبه بختنصر ، قال : أنى يحيي هذه الله بعد موتها ! كيف يعيدها كما كانت ؟ فأماته الله . قال : وذكر لنا أنه مات ضحى ، وبعث قبل غروب الشمس بعد مائة عام ، فقال : كم لبثت ؟ قال : يوما . فلما رأى الشمس ، قال : أو بعض يوم .
القول في تأويل قوله تعالى : { فانْظُرْ إلى طَعامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنّهْ } .
يعني تعالى ذكره بقوله : { فانْظُرْ إلى طَعامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنّهْ } لم تغيره السنون التي أتت عليه . وكان طعامه فيما ذكر بعضهم سلة تين وعنب وشرابه قلة ماء . وقال بعضهم : بل كان طعامه سلة عنب وسلة تين وشرابه زقّ من عصير . وقال آخرون : بل كان طعامه سلة تين ، وشرابه دن خمر أو زُكْرَة خمر . وقد ذكرنا فيما مضى قول بعضهم في ذلك ونذكر ما فيه فيما يستقبل إن شاء الله .
وأما قوله { لَمْ يَتَسَنّهْ } ففيه وجهان من القراءة : أحدهما : «لم يتسنّ » بحذف الهاء في الوصل وإثباتها في الوقف . ومن قرأه كذلك فإنه يجعل الهاء في يتسنه زائدة صلة كقوله : { فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ } وجعل فعلت منه : تسنيت تسنيا ، واعتلّ في ذلك بأن السنة تجمع سنوات ، فيكون تفعلت على نهجه . ومن قال في السنة سنينة فجائز على ذلك وإن كان قليلاً أن يكون تسننت تفعلت ، أبدلت النون ياء لما كثرت النونات كما قالوا : تظنيت وأصله الظن¹ وقد قال قوم : هو مأخوذ من قوله : { من حَمَإٍ مَسْنُونٍ } وهو المتغير . وذلك أيضا إذا كان كذلك ، فهو أيضا مما بدلت نونه ياء ، وهو قراءة عامة قرّاء الكوفة . والاَخر منهما : إثبات الهاء في الوصل والوقف ، ومن قرأه كذلك فإنه يجعل الهاء في يتسنه لام الفعل ويجعلها مجزومة بلم ، ويجعل فعلت منه تسنّهت ، ويفعل : أتسنّه تسنّها ، وقال في تصغير السنة : سُنَيْهة ، ومنه : أسنهت عند القوم ، وتسنهت عندهم : إذا أقمت سنة ، هذه قراءة عامة قراء أهل المدينة والحجاز .
والصواب من القراءة عندي في ذلك ، إثبات الهاء في الوصل والوقف ، لأنها مثبتة في مصحف المسلمين ، ولإثباتها وجه صحيح في كلتا الحالتين في ذلك .
ومعنى قوله : { لَمْ يَتَسَنّهْ } لم يأت عليه السنون فيتغير ، على لغة من قال : أسنهتُ عندكم أَسْنِهُ : إذا أقام سنة ، وكما قال الشاعر :
ولَيْسَتْ بِسَنْهاءٍ وَلا رُجّبِيّةٍولكنْ عَرايا في السّنِينَ الجوائِح
فجعل الهاء في السنة أصلاً ، وهي اللغة الفصحى ، وغير جائز حذف حرف من كتاب الله في حال وقف أو وصل لإثباته وجه معروف في كلامها .
فإن اعتلّ معتلّ بأن المصحف قد ألحقت فيه حروف هنّ زوائد على نية الوقف ، والوجه في الأصل عند القراءة حذفهن ، وذلك كقوله : { فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِه } وقوله : { يا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتابِيَهْ } فإن ذلك هو مما لم يكن فيه شك أنه من الزوائد ، وأنه ألحق على نية الوقف . فأما ما كان محتملاً أن يكون أصلاً للحرف غير زائد فغير جائز ، وهو في مصحف المسلمين مثبت صرفه إلى أنه من الزوائد والصلات . على أن ذلك وإن كان زائدا فيما لا شك أنه من الزوائد ، فإن العرب قد تصل الكلام بزائد ، فتنطق به على نحو منطقها به في حال القطع ، فيكون وصلها إياه وقطعها سواء . وذلك من فعلها دلالة على صحة قراءة من قرأ جميع ذلك بإثبات الهاء في الوصل والوقف ، غير أن ذلك وإن كان كذلك فلقوله : { لَمْ يَتَسَنّهْ } حكم مفارق حكم ما كان هاؤه زائدا لا شك في زيادته فيه .
ومما يدلّ على صحة ما قلنا ، من أن الهاء في يتسنه من لغة من قال : «قد أسنهت » و«المسانهة » ، ما :
حدثت به عن القاسم بن سلام ، قال : حدثنا ابن مهدي ، عن أبي الجراح ، عن سليمان بن عمير ، قال : ثني هانىء مولى عثمان ، قال : كنت الرسول بين عثمان وزيد بن ثابت ، فقال زيد : سله عن قوله : لم يتسنّ ، أو لم يتسنه ؟ فقال عثمان : اجعلوا فيها هاء .
حدثت عن القاسم ، وحدثنا محمد بن محمد العطار ، عن القاسم ، وحدثنا أحمد والعطار جميعا ، عن القاسم ، قال : حدثنا ابن مهدي ، عن ابن المبارك ، قال : ثني أبو وائل شيخ من أهل اليمن عن هانىء البربري ، قال : كنت عند عثمان وهم يعرضون المصاحف ، فأرسلني بكتف شاة إلى أبيّ بن كعب فيها : «لم يَتَسَنّ » و«فَأَمْهِل الكَافِرِينَ » و«لا تَبْدِيلَ للخَلْقِ » . قال : فدعا بالدواة ، فمحا إحدى اللامين وكتب : { لا تبديل لخلق الله } ومحا «فأَمهل » وكتب : { فمهل الكافرين } وكتب : «لم يتسنه » ألحق فيها الهاء .
ولو كان ذلك من «يتسنى » أو «يتسنن » لما ألحق فيه أبيّ هاء لا موضع لها فيه ، ولا أمر عثمان بإلحاقها فيها . وقد رُوي عن زيد بن ثابت في ذلك نحوُ الذي رُوِي فيه عن أبيّ بن كعب .
واختلف أهل التأويل في تأويل قوله { لَمْ يَتَسَنّهْ } فقال بعضهم بمثل الذي قلنا فيه من أن معناه لم يتغير . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة بن المفضل ، عن محمد بن إسحاق ، عمن لا يتهم ، عن وهب بن منبه : { لَمْ يَتَسَنّهْ } لم يتغير .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : { لَمْ يَتَسَنّهْ } لم يتغير .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، مثله .
حدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : { فانْظُرْ إلى طَعامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنّهْ } يقول : فانظر إلى طعامك من التين والعنب ، وشرابك من العصير لم يتسنه ، يقول : لم يتغير فيمحض التين والعنب ، ولم يختمر العصير هما حلوان كما هما . وذلك أنه مرّ جائيا من الشام على حمار له معه عصير وعنب وتين ، فأماته الله ، وأمات حماره ، ومرّ عليهما مائة سنة .
حدثت عن الحسين بن الفرج ، قال : سمعت أبا معاذ ، قال : أخبرنا عبيد بن سليمان ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : { فانْظُرْ إلى طَعامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنّهْ } يقول : لم يتغير ، وقد أتى عليه مائة عام .
حدثني المثنى ، قال : أخبرنا إسحاق ، قال : حدثنا أبو زهير ، عن جويبر ، عن الضحاك ، بنحوه .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس قوله : { لَمْ يَتَسَنّهْ } لم يتغير .
حدثنا سفيان ، قال : حدثنا أبي ، عن النضر ، عن عكرمة : { لَمْ يَتَسَنّهْ } لم يتغير .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد : { لَمْ يَتَسَنّهْ } لم يتغير في مائة سنة .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : أخبرني بكر بن مضر ، قال : يزعمون في بعض الكتب أن إرميا كان بإيليا حين خرّبها بختنصر ، فخرج منها إلى مصر فكان بها ، فأوحى الله إليه أن اخرج منها إلى بيت المقدس . فأتاها فإذا هي خربة ، فنظر إليها فقال : أنى يحيي هذه الله بعد موتها ! فأماته الله مائة عام ثم بعثه ، فإذا حماره حيّ قائم على رباطه ، وإذا طعامه سلّ عنب وسلّ تين لم يتغير عن حاله . قال يونس : قال لنا سلم الخواص : كان طعامه وشرابه سَلّ عنب وسَلّ تين وزِقّ عصير .
وقال آخرون : معنى ذلك : لم ينتن . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد قوله : { لَمْ يَتَسَنّهْ } لم ينتن .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
حدثني القاسم ، قال : حدثنا الحسن ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قال مجاهد قوله : { إلى طَعامِكَ } قال : سلّ تين ، { وَشَرَابِكَ } دنّ خمر ، { لَمْ يَتَسَنّهْ } يقول : لم ينتن .
وأحسب أن مجاهدا والربيع ومن قال في ذلك بقولهما رأوا أن قوله : { لَمْ يَتَسَنّهْ } من قول الله تعالى ذكره : { مِنْ حَمَإِ مَسْنُونٍ } بمعنى المتغير الريح بالنتن من قول القائل : تسنّن . وقد بينت الدلالة فيما مضى على أن ذلك ليس كذلك .
فإن ظنّ ظانّ أنه من الأَسَن من قول القائل : أسن هذا الماء يَأْسَنُ أَسَنّا ، كما قال الله تعالى ذكره : { فِيهَا أنهارٌ مِنْ ماءٍ غَيْرَ آسِنٍ } فإن ذلك لو كان كذلك لكان الكلام : فانظر إلى طعامك وشرابك لم يتأسن ، ولم يكن يتسنه . فإنه منه ، غير أنه ترك همزه ، قيل : فإنه وإن ترك همزه فغير جائز تشديد نونه ، لأن النون غير مشددة ، وهي في يتسنه مشددة ، ولو نطق من يتأسن بترك الهمزة لقيل يَتَسّنْ بتخفيف نونه بغير هاء تلحق فيه ، ففي ذلك بيان واضح أنه غير جائز أن يكون من الأَسَن .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَانْظُرْ إلى حِمَارِكَ } .
اختلف أهل التأويل في تأويل قوله : { وَانْظُرْ إلى حِمارِكَ } فقال بعضهم : معنى ذلك : وانظر إلى إحيائي حمارك ، وإلى عظامه كيف أنشزها ثم أكسوها لحما .
ثم اختلف متأوّلو ذلك في هذا التأويل ، فقال بعضهم : قال الله تعالى ذكره ذلك له بعد أن أحياه خلقا سويّا ، ثم أراد أن يحيي حماره¹ تعريفا منه تعالى ذكره له كيفية إحيائه القرية التي رآها خاوية على عروشها ، فقال : { أنّى يُحْيِي هَذِهِ اللّهُ بَعْدَ مَوْتِها } مستنكرا إحياء الله إياها . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عمن لا يتهم ، عن وهب بن منبه ، قال : بعثه الله فقال : { كَمْ لَبثتَ قالَ لبثتُ يوما أوْ بعضُ يومٍ } إلى قوله : { ثُمّ نَكْسُوهَا لَحْما } قال : فنظر إلى حماره يتصل بعض إلى بعض ، وقد كان مات معه بالعروق والعصب ، ثم كسا ذلك منه اللحم حتى استوى ثم جرى فيه الروح ، فقام ينهق . ونظر إلى عصيره وتينه ، فإذا هو على هيئته حين وضعه لم يتغير . فلما عاين من قدرة الله ما عاين ، قال : { أعْلَمُ أنّ اللّهَ على كُلّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } .
حدثني موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : ثم إن الله أحيا عزيرا ، فقال : كم لبثت ؟ قال : لبثت يوما أو بعض يوم . قال : بل لبثت مائة عام ، فانظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنه ، وانظر إلى حمارك قد هلك وبليت عظامه ، وانظر إلى عظامه كيف ننشزها ثم نكسوها لحما . فبعث الله ريحا ، فجاءت بعظام الحمار من كل سهل وجبل ذهبت به الطير والسباع ، فاجتمعت ، فركب بعضها في بعض وهو ينظر ، فصار حمارا من عظام ليس له لحم ولا دم . ثم إن الله كسا العظام لحما ودما ، فقام حمارا من لحم ودم وليس فيه روح . ثم أقبل ملك يمشي حتى أخذ بمنخر الحمار ، فنفخ فيه فنهق الحمار ، فقال : أعلم أنه الله على كل شيء قدير .
فتأويل الكلام على ما تأوله قائل هذا القول : وانظر إلى إحيائنا حمارك ، وإلى عظامه كيف ننشزها ثم نكسوها لحما ، ولنجعلك آية للناس . فيكون في قوله : { وَانْظُرْ إلى حِمَارِكَ } متروك من الكلام ، استغني بدلالة ظاهره عليه من ذكره ، وتكون الألف واللام في قوله : { وَانْظُرْ إلى العِظامِ } بدلاً من الهاء المرادة في المعنى ، لأن معناه : وانظر إلى عظامه : يعني إلى عظام الحمار .
وقال آخرون منهم : بل قال الله تعالى ذكره ذلك له بعد أن نفخ فيه الروح في عينه ، قالوا : وهي أول عضو من أعضائه نفخ الله فيه الروح ، وذلك بعد أن سوّاه خلقا سويا ، وقبل أن يحيى حماره . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قال : كان هذا رجلاً من بني إسرائيل نفخ الروح في عينيه ، فنظر إلى خلقه كله حين يحييه الله ، وإلى حماره حين يحييه الله .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد مثله .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : بدأ بعينيه فنفخ فيهما الروح ، ثم بعظامه فأنشزها ، ثم وصل بعضها إلى بعض ، ثم كساها العصب ، ثم العروق ، ثم اللحم . ثم نظر إلى حماره ، فإذا حماره قد بلي وابيضت عظامه في المكان الذي ربطه فيه ، فنودي : يا عظام اجتمعي ، فإن الله منزل عليك روحا ! فسعى كل عظم إلى صاحبه ، فوصل العظام ، ثم العصب ، ثم العروق . ثم اللحم ، ثم الجلد ، ثم الشعر ، وكان حماره جَذَعا ، فأحياه الله كبيرا قد تشنن ، فلم يبق منه إلا الجلد من طول الزمن ، وكان طعامه سلّ عنب وشرابه دنّ خمر . قال ابن جريج عن مجاهد : نفخ الروح في عينيه ، ثم نظر بهما إلى خلقه كله حين نشره الله ، وإلى حماره حين يحييه الله .
وقال آخرون : بل جعل الله الروح في رأسه وبصره وجسده ميتا ، فرأى حماره قائما كهيئته يوم ربطه وطعامه وشرابه كهيئته يوم حلّ البقعة ، ثم قال الله له : انظر إلى عظام نفسك كيف ننشزها . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سهل بن عسكر ، قال : حدثنا إسماعيل بن عبد الكريم ، قال : ثني عبد الصمد بن معقل أنه سمع وهب بن منبه يقول : ردّ الله روح الحياة في عين إرمياء وآخر جسده ميت ، فنظر إلى طعامه وشرابه لم يتسنه ، ونظر إلى حماره واقفا كهيئته يوم ربطه ، لم يطعم ولم يشرب ، ونظر إلى الرمة في عنق الحمار لم تتغير جديدة .
حدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ ، قال : حدثنا عبيد بن سليمان ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : { فَأماتَهُ اللّهُ مِائَةَ عامٍ ثُمّ بَعَثَهُ } فنظر إلى حماره قائما قد مكث مائة عام ، وإلى طعامه لم يتغير قد أتى عليه مائة عام . { وَانْظُرْ إلى العِظامِ كَيْفَ نُنْشِرُها ثُمّ نَكْسُوها لَحْما } فكان أول شيء أحيا الله منه رأسه ، فجعل ينظر إلى سائر خلقه يخلق .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا أبو زهير ، عن جويبر ، عن الضحاك في قوله : { فأمَاتَهُ اللّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمّ بَعَثَهُ } فنظر إلى حماره قائما ، وإلى طعامه وشرابه لم يتغير ، فكان أول شيء خلق منه رأسه ، فجعل ينظر إلى كل شيء منه يوصل بعضه إلى بعض . فلما تبين له ، قال : أعلم أن الله على كل شيء قدير .
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قال : ذكر لنا أنه أول ما خلق الله منه رأسه ، ثم ركبت فيه عيناه ، ثم قيل له : انظر ! فجعل ينظر ، فجعلت عظامه تواصل بعضها إلى بعض ، وبعين نبيّ الله عليه السلام كان ذلك . فقال : أعلم أن الله على كل شيء قدير .
حدثت عن عمار ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع : { وَانْظُرْ إلى طَعامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنّهْ وَانْظُرْ إلى حِمَارِكَ } وكان حماره عنده كما هو ، { وَلِنَجْعَلَكَ آيَة للنّاسِ وَانْظُرْ إلى العِظامِ كَيْفَ نُنْشِزُها } . قال الربيع : ذكر لنا والله أعلم أنه أول ما خلق منه عيناه ، ثم قيل انظر ، فجعل ينظر إلى العظام يتواصل بعضها إلى بعض وذلك بعينيه . فقيل : أعلم أن الله على كل شيء قدير .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : أخبرنا ابن زيد قال قوله : { وَانْظُرْ إلى طَعامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنّهْ وَانْظُرْ إلى حِمارِكَ } واقفا عليك منذ مائة سنة ، { وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنّاسِ وَانْظُرْ إلى العِظامِ } يقول : وانظر إلى عظامك كيف نحييها حين سألتنا كيف نحيي هذه الأرض بعد موتها . قال : فجعل اللّهُ الروح في بصره وفي لسانه ، ثم قال : ادع الاَن بلسانك الذي جعل الله فيه الروح ، وانظر ببصرك ! قال : فكان ينظر إلى الجمجمة ، قال : فنادى : ليلحق كل عظم بأليفه ، قال : فجاء كل عظم إلى صاحبه ، حتى اتصلت وهو يراها ، حتى إن الكسرة من العظم لتأتي إلى الموضع الذي انكسرت منه ، فتلصق به حتى وصل إلى جمجمته ، وهو يرى ذلك . فلما اتصلت شدّها بالعصب والعروق ، وأجرى عليها اللحم والجلد ، ثم نفخ فيها الروح ، ثم قال : { انْظُرْ إلى العِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُها ثُمّ نَكْسُوهَا لَحْما فَلَمّا تَبَيّنَ لَهُ } ذلك { قالَ أعْلَمُ أنّ اللّهَ عَلَى كُلّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } . قال : ثم أمر فنادى تلك العظام التي قال : { أنّى يُحْيِي هَذِهِ اللّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا } كما نادى عظام نفسه ، ثم أحياها الله كما أحياه .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : أخبرني بكر بن مضر ، قال : يزعمون في بعض الكتب أن الله أمات إرمياء مائة عام ، ثم بعثه ، فإذا حماره حيّ قائم على رباطه . قال : وردّ الله إليه بصره وجعل الروح فيه قبل أن يبعث بثلاثين سنة ، ثم نظر إلى بيت المقدس وكيف عمر وما حوله . قال : فيقولون والله أعلم : إنه الذي قال الله تعالى ذكره : { أوْ كالّذِي مَرّ على قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ } . . . الآية .
ومعنى الآية على تأويل هؤلاء : وانظر إلى حمارك ، ولنجعلك آية للناس ، وانظر إلى عظامك كيف ننشزها بعد بلاها ، ثم نكسوها لحما ، فنحييها بحياتك ، فتعلم كيف يحيي الله القرى وأهلها بعد مماتها .
( وأولى الأقوال في هذه الآية بالصواب قول من قال : إن الله تعالى ذكره بعث قائلَ { أنّى يُحْيِي هَذِهِ اللّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا } من مماته ، ثم أراه نظير ما استنكر من إحياء الله القرية التي مرّ بها بعد مماتها عيانا من نفسه وطعامه وحماره ، فجعل تعالى ذكره ما أراه من إحيائه نفسه وحماره مثلاً لما استنكر من إحيائه أهل القرية التي مرّ بها خاوية على عروشها ، وجعل ما أراه من العبرة في طعامه وشرابه عبرة له وحجة عليه في كيفية إحيائه منازل القرية وجنانها ، وذلك هو معنى قول مجاهد الذي ذكرناه قبل .
وإنما قلنا ذلك أولى بتأويل الآية ، لأن قوله : { وَانْظُرْ إلى العِظامِ } إنما هو بمعنى : وانظر إلى العظام التي تراها ببصرك كيف ننشزها ، ثم نكسوها لحما ، وقد كان حماره أدركه من البلى في قول أهل التأويل جميعا نظير الذي لحق عظام من خوطب بهذا الخطاب ، فلم يمكن صرف معنى قوله : { وَانْظُرْ إلى العِظامِ } إلى أنه أمر له بالنظر إلى عظام الحمر دون عظام المأمور بالنظر إليها ، ولا إلى أنه أمر له بالنظر إلى عظام نفسه دون عظام الحمار .
وإذا كان ذلك كذلك ، وكان البلى قد لحق عظامه وعظام حماره ، كان الأولى بالتأويل أن يكون الأمر بالنظر إلى كل ما أدركه طرفه مما قد كان البلى لحقه لأن الله تعالى ذكره جعل جميع ذلك عليه حجة وله عبرة وعظة .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنّاسِ } .
يعني تعالى ذكره بذلك : { وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً للنّاسِ } أمتناك مائة عام ثم بعثناك . وإنما أدخلت الواو مع اللام التي في قوله : { وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً للنّاسِ } وهو بمعنى «كي » ، لأن في دخولها في كي وأخواتها دلالة على أنها شرط لفعل بعدها ، بمعنى : ولنجعلك كذا وكذا فعلنا ذلك ، ولو لم تكن قبل اللام أعني لام كي واو كانت اللام شرطا للفعل الذي قبلها ، وكان يكون معناه : وانظر إلى حمارك ، لنجعلك آية للناس . وإنما عنى بقوله : { وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً } ولنجعلك حجة على من جهل قدرتي ، وشكّ في عظمتي ، وأنا القادر على فعل ما أشاء من إماتة وإحياء ، وإفناء وإنشاء ، وإنعام وإذلال ، وإقتار وإغناء ، بيدي ذلك كله ، لا يملكه أحد دوني ، ولا يقدر عليه غيري .
وكان بعض أهل التأويل يقول : كان آية للناس بأنه جاء بعد مائة عام إلى ولده وولد ولده شابا وهم شيوخ . ذكر من قال ذلك :
حدثني المثنى ، قال : أخبرنا إسحاق ، قال : حدثنا قبيصة بن عقبة ، عن سفيان ، قال : سمعت الأعمش يقول : { وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً للنّاسِ } قال : جاء شابا وولده شيوخ .
وقال آخرون : معنى ذلك أنه جاء وقد هلك من يعرفه ، فكان آية لمن قدم عليه من قومه . ذكر من قال ذلك :
حدثني موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي ، قال : رجع إلى أهله ، فوجد داره قد بيعت وبنيت ، وهلك من كان يعرفه ، فقال : اخرجوا من داري ! قالوا : ومن أنت ؟ قال : أنا عزير . قالوا : أليس قد هلك عزير منذ كذا وكذا ؟ قال : فإن عزيرا أنا هو ، كان من حالي وكان . فلما عرفوا ذلك ، خرجوا له من الدار ودفعوها إليه .
والذي هو أولى بتأويل الآية من القول ، أن يقال : إن الله تعالى ذكره ، أخبر أنه جعل الذي وصف صفته في هذه الآية حجة للناس ، فكان ذلك حجة على من عرفه من ولده وقومه ممن علم موته ، وإحياء الله إياه بعد مماته ، وعلى من بعث إليه منهم .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَانْظُرْ إلى العِظامِ كَيْفَ نُنْشِزُها } .
قد دللنا فيما مضى قبل على أن العظام التي أمر بالنظر إليها هي عظام نفسه وحماره ، وذكرنا اختلاف المختلفين في تأويل ذلك وما يعني كل قائل بما قاله في ذلك بما أغنى عن إعادته .
وأما قوله : { كَيْفَ نُنْشِزُها } فإن القراء اختلفت في قراءته ، فقرأ بعضهم : { وَانْظُرْ إلى العِظامِ كَيْفَ نُنْشِزُها } بضم النون وبالزاي ، وذلك قراءة عامة قراءة الكوفيين ، بمعنى : وانظر كيف نركب بعضها على بعض ، وننقل ذلك إلى مواضع من الجسم . وأصل النشز : الارتفاع ، ومنه قيل : قد نشز الغلام إذا ارتفع طوله وشبّ ، ومنه نشوز المرأة على زوجها ، ومن ذلك قيل للمكان المرتفع من الأرض : نَشَزٌ وَنَشْزٌ وَنَشاز ، فإذا أردت أنك رفعته ، قلت : أنشزته إنشازا ، ونشز هو : إذا ارتفع . فمعنى قوله : { وَانْظُرْ إلى العِظامِ كَيْفَ نُنْشِزُها } في قراءة من قرأ ذلك بالزاي : كيف نرفعها من أماكنها من الأرض فنردّها إلى أماكنها من الجسم .
وممن تأول ذلك هذا التأويل جماعة من أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس في قوله : { كَيْفَ نُنْشِزُها } كيف نخرجها .
حدثني موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : { كَيْفَ نُنْشِزُها } قال : نحركها .
وقرأ ذلك آخرون : «وَانْظُرْ إلى العِظامِ كَيْفَ نُنْشِرُها » بضم النون ، قالوا من قول القائل : أنشر الله الموتى فهو ينشرهم إنشارا . وذلك قراءة عامة قراء أهل المدينة ، بمعنى : وانظر إلى العظام كيف نحييها ثم نكسوها لحما . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : «كَيْفَ نُنْشِرُها » قال : انظر إليها حين يحييها الله .
حدثني المثنى قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة مثله .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : «وَانْظُرْ إلى العِظامِ كَيْفَ نُنْشِرُها » قال : كيف نحييها .
واحتجّ بعض قراء ذلك بالراء وضم نون أوله بقوله : { ثُمّ إذَا شاءَ أنْشَرَهُ } فرأى أن من الصواب إلحاق قوله : «وَانْظُرْ إلى العِظامِ كَيْفَ نُنْشِرُها » به . وقرأ ذلك بعضهم : «وَانْظُرْ إلى العِظامِ كَيْفَ نَنْشُرُها » بفتح النون من أوله وبالراء¹ كأنه وجه ذلك إلى مثل معنى نشر الشيء وطيّه . وذلك قراءة غير محمودة ، لأن العرب لا تقول : نشر الموتى ، وإنما تقول : أنشر الله الموتى ، فنَشَرُوا هم بمعنى : أحياهم فحيوا هم . ويدلّ على ذلك قوله : { ثُمّ إذَا شاءَ أنْشَرَهُ } وقوله : { آلهَةً مِنَ الأرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ } . وعلى أنه إذا أريد به حي الميت وعاش بعد مماته ، قيل : نشر ، ومنه قول أعشى بني ثعلبة :
حتى يَقُولَ النّاسُ ممّا رَأوْايا عَجَبَا للمَيّتِ النّاشِرِ وروي سماعا من العرب : كان به جربٌ فنشر ، إذا عاد وحيي . والقول في ذلك عندي أن معنى الإنشار ومعنى الإنشاز متقاربان ، لأن معنى الإنشاز : التركيب والإثبات وردّ العظام من العظام وإعادتُها لا شك أنه ردّها إلى أماكنها ومواضعها من الجسد بعد مفارقتها إياها . فهما وإن اختلفا في اللفظ ، فمتقاربا المعنى ، وقد جاءت بالقراءة بهما الأمة مجيئا يقطع العذر ويوجب الحجة ، فبأيهما قرأ القارىء فمصيب لانقياد معنييهما ، ولا حجة توجب لإحداهما من القضاء بالصواب على الأخرى . فإن ظنّ ظان أن الإنشار إذا كان إحياء فهو بالصواب أولى ، لأن المأمور بالنظر إلى العظام وهي تنشر إنما أمر به ليرى عيانا ما أنكره بقوله : { أنّى يُحْيِي هَذِهِ اللّهُ بَعْدَ مَوْتِها } فإن إحياء العظام لا شك في هذا الموضع إنما عنى به ردّها إلى أماكنها من جسد المنظور إليه ، وهو يحيا ، لا إعادة الروح التي كانت فارقتها عند الممات . والذي يدل على ذلك قوله : { ثُمّ نَكْسُوها لَحْما } ولا شك أن الروح إنما نفخت في العظام التي أنشرت بعد أن كسيت اللحم . وإذا كان ذلك كذلك ، وكان معنى الإنشاز تركيب العظام وردّها إلى أماكنها من الجسد ، وكان ذلك معنى الإنشار ، وكان معلوما استواء معنييهما ، وأنهما متفقا المعنى لا مختلفاه ، ففي ذلك إبانة عن صحة ما قلنا فيه . وأما القراءة الثالثة فغير جائزة القراءة بها عندي ، وهي قراءة من قرأ : «كَيْفَ نَنْشُرُها » بفتح النون وبالراء ، لشذوذها عن قراءة المسلمين وخروجها عن الصحيح الفصيح من كلام العرب . القول في تأويل قوله تعالى : { ثُمّ نَكْسُوهَا لَحْما } . يعني تعالى ذكره بذلك : { ثُمّ نَكْسُوهَا } أي العظام لحما . والهاء التي في قوله : { ثُمّ نَكْسِوها لَحْما } من ذكر العظام . ومعنى نكسوها : نلبسها ونواريها به كما يواري جسد الإنسان كسوته التي يلبسها ، وكذلك تفعل العرب ، تجعل كل شيء غطى شيئا وواراه لباسا له وكسوة ، ومنه قول النابغة الجعديّ : فالحَمْدُ لِلّهِ إذْ لَمْ يَأتِنِي أجَلِيحتى اكْتَسَيْتُ مِنَ الإسْلامِ سِرْبالاَ
فجعل الإسلام إذ غطى الذي كان عليه فواراه وأذهبه كسوة له وسربالاً .
القول في تأويل قوله تعالى : { فَلَمّا تَبَيّنَ لَهُ قَالَ أعْلَمُ أنّ اللّهَ عَلى كُلّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } .
يعني تعالى ذكره بقوله : { فَلَمّا تَبَيّنَ لَهُ } فلما اتضح له عيانا ما كان مستنكرا من قدرة الله وعظمته عنده قبل عيانه ذلك ، قال : أعلم الاَن بعد المعاينة والإيضاح والبيان أن الله على كل شيء قدير .
ثم اختلفت القراءة في قراءة قوله : { قالَ أعْلَمُ أنّ اللّهَ } . فقرأه بعضهم : «قال اعْلَمْ » على معنى الأمر بوصل الألف من «اعلم » ، وجزم الميم منها . وهي قراءة عامة قراء أهل الكوفة ، ويذكرون أنها في قراءة عبد الله : «قيل اعْلَمْ » على وجه الأمر من الله للذي أحيى بعد مماته ، فأمر بالنظر إلى ما يحييه الله بعد مماته . وكذلك رُوي عن ابن عباس .
حدثني أحمد بن يوسف التغلبي ، قال : حدثنا القاسم بن سلام ، قال : ثني حجاج ، عن هارون ، قال : هي في قراءة عبد الله : «قيل اعْلَمْ أن الله » على وجه الأمر .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن ابن طاوس ، عن أبيه أحسبه ، شك أبو جعفر الطبري سمعت ابن عباس يقرأ : «فَلَمَا تَبَيّنَ لَهُ قَالَ اعْلَمْ » قال : إنما قيل ذلك له .
حدثت عن عمار ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع ، قال : ذكر لنا والله أعلم أنه قيل له انظر ! فجعل ينظر إلى العظام كيف يتواصل بعضها إلى بعض وذلك بعينيه ، فقيل : اعلم أن الله على كل شيء قدير .
فعلى هذا القول تأويل ذلك : فلما تبين من أمر الله وقدرته ، قال الله له : اعلم الآن أن الله على كل شيء قدير . ولو صرف متأول قوله : «قال اعلم » وقد قرأه على وجه الأمر إلى أنه من قبل المخبر عنه بما اقتصّ في هذه الآية من قصته كان وجها صحيحا ، وكان ذلك كما يقول القائل : اعلم أن قد كان كذا وكذا ، على وجه الأمر منه لغيره وهو يعني به نفسه .
وقرأ ذلك آخرون : { قالَ أعْلَمُ } على وجه الخبر عن نفسه للمتكلم به بهمز ألف أعلم وقطعها ورفع الميم . بمعنى : فلما تبين له من قدرة الله وعظيم سلطانه بمعاينته ما عاينه ، قال أليس ذلك : أعلم الاَن أنا أن الله على كل شيء قدير . وبذلك قرأ عامة أهل المدينة وبعض قراء أهل العراق ، وبذلك من التأويل تأوله جماعة من أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عمن لا يتهم ، عن وهب بن منبه ، قال : لما عاين من قدرة الله ما عاين ، قال : { أعْلَمُ أنّ اللّهَ عَلَى كُلّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا عبد الصمد بن معقل أنه سمع وهب بن منبه يقول : { فَلَمّا تَبَيّنَ لَهُ قَالَ أعْلَمُ أنّ اللّهَ عَلَى كُلّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قال : يعني نبيّ الله عليه السلام ، يعني إنشاز العظام ، فقال : أعلم أن الله على كل شيء قدير .
حدثني موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي ، قال : قال عزير عند ذلك يعني عند معاينة إحياء الله حماره : { أعْلَمُ أنّ اللّهَ على كل شَيْءٍ قَدِيرٌ } .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا أبو زهير ، عن جويبر ، عن الضحاك ، قال : جعل ينظر إلى كل شيء منه يوصل بعضه إلى بعض ، { فَلَمّا تَبَيّنَ لَهُ قَالَ أعْلَمُ أَنّ اللّهَ عَلَى كُلّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، نحوه .
وأولى القراءتين بالصواب في ذلك قراءة من قرأ : «اعْلَمْ » بوصل الألف وجزم الميم على وجه الأمر من الله تعالى ذكره للذي قد أحياه بعد مماته بالأمر بأن يعلم أن الله الذي أراه بعينيه ما أراه من عظيم قدرته وسلطانه من إحيائه إياه وحماره بعد موت مائة عام وبلائه حتى عادا كهيئتهما يوم قبض أرواحهما ، وحفظ عليه طعامه وشرابه مائة عام حتى ردّه عليه كهيئته يوم وضعه غير متغير على كل شيء قادر كذلك .
وإنما اخترنا قراءة ذلك كذلك وحكمنا له بالصواب دون غيره¹ لأن ما قبله من الكلام أمر من الله تعالى ذكره قولاً للذي أحياه الله بعد مماته وخطابا له به ، وذلك قوله : { فانْظُرْ إلى طَعامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنّهْ وَانْظُرْ إلى حِمَارِكَ . . . وَانْظُرْ إلى العِظامِ كَيْفَ نُنْشِزُها } فلما تبين له ذلك جوابا عن مسألته ربه : { أنّى يُحْيِي هَذِهِ اللّهُ بَعْدَ مَوْتِها } ! قال الله له : اعلم أن الله الذي فعل هذه الأشياء على ما رأيت على غير ذلك من الأشياء قدير كقدرته على ما رأيت وأمثاله ، كما قال تعالى ذكره لخليله إبراهيم صلى الله عليه وسلم ، بعد أن أجابه عن مسألته إياه في قوله : { رَبّ أرِنِي كَيْفَ تُحْيِي المَوْتَى } : { وَاعْلَمْ أنّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } فأمر إبراهيم بأن يعلم بعد أن أراه كيفية إحيائه الموتى أنه عزيز حكيم ، فكذلك أمر الذي سأل فقال : { أنّى يُحْيِي هَذِهِ اللّهُ بَعْدَ مَوْتِها } بعد أن أراه كيفية إحيائه إياها أن يعلم أن الله على كل شيء قدير .
{ أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِى هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِاْئَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَل لَّبِثْتَ مِاْئَةَ عَامٍ }
عطفت { أو } في هذه الآية على المعنى( {[2494]} ) ، لأن مقصد التعجيب في قوله : { ألم تر إلى الذي حاج } [ الآية : 258 ] يقتضي أن المعنى أرأيت كالذي حاج ، ثم جاء قوله { أو كالذي } ، عطفاً على ذلك المعنى( {[2495]} ) ، وقرأ أبو سفيان بن حسين «أوَ كالذي مر » بفتح الواو ، وهي واو عطف دخل عليها ألف التقرير( {[2496]} ) ، قال سليمان بن بريدة وناجية بن كعب( {[2497]} ) وقتادة وابن عباس والربيع وعكرمة والضحاك : الذي مر على القرية هو عزير ، وقال وهب بن منبه وعبد الله بن عبيد بن عمير وبكر بن مضر : هو أرمياء ، وقال ابن إسحاق : أرمياء هو الخضر وحكاه النقاش عن وهب بن منبه ، قال الفقيه أبو محمد : وهذا كما تراه ، إلا أن يكون اسماً وافق اسماً ؛ لأن الخضر معاصر لموسى ، وهذا الذي مر على القرية هو بعده بزمان من سبط هارون فيما روى وهب بن منبه( {[2498]} ) ، وحكى مكي عن مجاهد أنه رجل من بني إسرائيل غير مسمى ، قال النقاش : ويقال هو غلام لوط عليه السلام . قال أبو محمد : واختلف في القرية أيما هي ؟ فحكى النقاش أن قوماً قالوا هي المؤتفكة . وقال ابن زيد : إن القوم الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت فقال لهم الله : { موتوا } [ البقرة : 243 ] مرّ عليهم رجل وهم عظام تلوح ، فوقف ينظر فقال : { أنّى يحيي هذه الله بعد موتها فأماته الله مائة عام } ، وترجم الطبري على هذا القصص بأنه قول بأن القرية التي مرّ عليها هي التي أهلك الله فيها الذين خرجوا من ديارهم .
قال القاضي أبو محمد : وقول ابن زيد لا يلائم الترجمة ، لأن الإشارة بهذه على مقتضى الترجمة هي إلى المكان ، وعلى نفس القول( {[2499]} ) هي إلى العظام والأجساد . وهذا القول من ابن زيد مناقض لألفاظ الآية ، إذ الآية إنما تضمنت قرية خاوية لا أنيس فيها . والإشارة بهذه إنما هي إلى القرية ، وإحياؤها إنما هو بالعمارة ووجود البناء والسكان . وقال وهب بن منبه وقتادة والضحاك وعكرمة الربيع : القرية بيت المقدس لما خربها بخت نصر البابلي في الحديث الطويل( {[2500]} ) . حين أحدثت بنو إسرائيل الأحداث وقف أرمياء أو عزير على القرية وهي كالتل العظيم وسط بيت المقدس لأن بخت نصر أمر جنده بنقل التراب إليه حتى جعله كالجبل ، ورأى أرمياء البيوت قد سقطت حيطانها على سقفها ، والعريش سقف البيت وكل ما يهيأ ليظل أو يكن فهو عريش ومنه عريش الدالية والثمار ، ومنه قوله تعالى :
{ ومما يعرشون }( {[2501]} ) [ النحل : 68 ] قال السدي( {[2502]} ) : يقول هي ساقطة على سقفها أي سقطت السقف ثم سقطت الحيطان عليها ، وقال غير السدي : معناه خاوية من الناس على العروش أي على البيوت ، وسقفها عليها لكنها خوت من الناس والبيوت قائمة ، قال أبو محمد : وانظر استعمل العريش مع على ، في الحديث في قوله ، وكان المسجد يومئذ على عريش في أمر ليلة القدر( {[2503]} ) ، و { خاوية } معناه خالية ، يقال خوت الدار تخوي خواء وخوياً ويقال خويت قال الطبري : والأول أفصح وقوله : { أنّى يحيي هذه الله بعد موتها } معناه من أي طريق وبأي سبب ؟ وظاهر اللفظ السؤال عن إحياء القرية بعمارة وسكان كما يقال الآن في المدن الخربة التي يبعد أن تعمر وتسكن فكأن هذا تلهف من الواقف المعتبر على مدينته التي عهد فيها أهله وأحبته ، وضرب له المثل في نفسه بما هو أعظم مما سأل عنه( {[2504]} ) ، والمثال الذي ضرب له في نفسه يحتمل أن يكون على أن سؤاله ، إنما كان عن إحياء الموتى من بنى آدم ، أي أنى يحيي الله موتاها ، وقد حكى الطبري عن بعضهم أنه قال كان هذا القول( {[2505]} ) شكاً في قدرة الله على الإحياء ، فلذلك ضرب له المثل في نفسه .
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : وليس يدخل شك في قدرة الله على إحياء قرية بجلب العمرة إليها ، وإنما يتصور الشك من جاهل في الوجه الآخر( {[2506]} ) ، والصواب أن لا يتأول في الآية شك ، وروي في قصص هذه الآية أن بني إسرائيل لما أحدثوا الأحداث بعث الله عليهم بخت نصر البابلي فقتلهم وجلاهم من بيت المقدس فخربه ، فلما ذهب عنه جاء أرمياء فوقف على المدينة معتبراً فقال ، { أنّى يحيي هذه الله بعد موتها } ؟ قال : { فأماته الله } تعالى وكان معه حمار قد ربطه بحبل جديد وكان معه سلة فيها تبن وهو طعامه ، وقيل تبن وعنب ، وكان معه ركوة من خمر ، وقيل من عصير وقيل ، قلة ماء هي شرابه ، وبقي ميتاً مائة عام ، فروي أنه بلي وتفرقت عظامه هو وحماره ، وروي أنه بلي دون الحمار ، وأن الحمار بقي حياً مربوطاً لم يمت ولا أكل شيئاً ولا بليت رمته ، وروي أن الحمار بلي وتفرقت أوصاله دون عزير( {[2507]} ) ، وروي أن الله بعث إلى تلك القرية من عمرها ورد إليها جماعة بني إسرائيل حيث كملت على رأس مائة سنة ، وحينئذ حيي عزير ، وروي أن الله رد عليه عينيه وخلق له حياة يرى بها كيف تعمر القرية ويحيى مدة من ثلاثين سنة تكملة المائة ، لأنه بقي سبعين ميتاً كله ، وهذا ضعيف ترد عليه ألفاظ الآية ، وقوله تعالى : { ثم بعثه } ، معناه : أحياه وجعل له الحركة والانتقال ، فسأله الله تعالى بواسطة الملك { كم لبثت } ؟ على جهة التقرير ، و { كم } في موضع نصب على الظرف ، فقال : { لبثت يوماً أو بعض يوم } ، قال ابن جريج وقتادة والربيع : أماته الله غدوة يوم ثم بعث قبل الغروب ، فظن هذا اليوم واحداً فقال { لبثت يوماً } ثم رأى بقية من الشمس فخشي أن يكون كاذباً فقال : { أو بعض يوم } فقيل له { بل لبثت مائة عام } ، ورأى من عمارة القرية وأشجارها ومبانيها ما دله على ذلك قال النقاش : العام مصدر كالعوم سمي به هذا القدر من الزمان لأنها عومة من الشمس في الفلك ، والعوم كالسبح ، وقال تعالى :
{ وكل في فلك يسبحون } [ الأنبياء : 33 ] .
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه هذا معنى كلام النقاش . والعام على هذا كالقول والقال( {[2508]} ) . وظاهر هذه الإماتة أنها بإخراج الروح من الجسد ، وروي في قصص هذه الآية : أن الله بعث لها ملكاً من الملوك يعمرها ويجد في ذلك حتى كان كمال عمارتها عند بعث القائل : { أنّى يحيي هذه الله بعد موتها } وقرأ ابن كثير وعاصم ونافع : { لبثت } في كل القرآن بإظهارالثاء وذلك لتباين الثاء من مخرج التاء ، وذلك أن الطاء والتاء والدال من حيز ، والظاء والذال والثاء المثلثة من حيز ، وقرأ أبو عمرو وابن عامر وحمزة والكسائي ، بالإدغام في كل القرآن ، أجروهما مجرى المثلى من حيث اتقف الحرفان في أنهما من طرف اللسان وأصول الثنايا وفي أنهما مهموستان( {[2509]} ) ، قال أبو علي : ويقوي ذلك وقوع هذين الحرفين في «روي قصيدة واحدة » .
{ فَانظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِّلنَّاسِ وَانظُرْ إِلَى العِظَامِ كَيْفَ نُنشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْماً فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }
وقف في هذه الألفاظ على بقاء طعامه وشرابه على حاله لم يتغير ، وعلى بقاء حماره حيّاً على مربطه . هذا على أحد التأويلين( {[2510]} ) . وعلى التأويل الثاني : وقف على الحمار كيف يحيى وتجتمع عظامه . وقرأ ابن مسعود : «وهذا طعامك وشرابك لم يتسنه » ، وقرأ طلحة بن مصرف وغيره : «وانظر إلى طعامك وشرابك لمائة سنة »( {[2511]} ) ، قال أبو علي : واختلفوا في إثبات الهاء في الفعل من قوله عز وجل : { لم يتسنه } و { اقتده } [ الأنعام : 90 ] ، و { ما أغنى عني ماليه } [ الحاقة : 28 ] و { سلطانيه } [ الحاقة : 29 ] { وما أدراك ماهية } [ القارعة : 10 ] وإسقاطها في الوصل ، ولم يختلفوا في إثباتها في الوقف . فقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وعاصم وابن عامر هذه الحروف كلها بإثبات الهاء في الوصل ، وكان حمزة يحذفهن في الوصل ، وكان الكسائي يحذفها في { يتسنّه } ، و { اقتده } ، ويثبتها في الباقي . ولم يخلتفوا في { حسابيه } [ الحاقة : 20-26 ] و { كتابيه } [ الحاقة : 19-25 ] أنهما بالهاء في الوقف والوصل( {[2512]} ) ، و { يتسنّه }( {[2513]} ) يحتمل أن يكون من تسنن الشيء إذا تغير وفسد ، ومنه الحمأ المسنون في قول بعضهم .
وقال الزجّاج : ليس منه وإنما المسنون المصبوب على سنة الأرض ، فإذا كان من تسنن فهو لم يتسنن . قلبت النون ياء كما فعل في تظننت ، حتى قلت لم أتظنن ، فيجيء تسنن تسنى . ثم تحذف الياء للجزم فيجيء المضارع لم يتسن( {[2514]} ) . ومن قرأها بالهاء على هذا القول فهي هاء السكت . وعلى هذا يحسن حذفها في الوصل . ويحتمل { يتسنه } أن يكون من السنة وهو الجدب . والقحط ، وما أشبهه ، يسمونه بذلك . وقد اشتق منه فعل فقيل : استنّوا( {[2515]} ) ، وإذا كان هذا( {[2516]} ) أو من السنة التي هي العام على قول من يجمعها سنوات فعلى هذا أيضاً الهاء هاء السكت ، والمعنى لم تغير طعامك القحوط والجدوب ونحوه ، أو لم تغيره السنون والأعوام . وأما من قال في تصغير السنة سنيهة وفي الجمع سنهات ، وقال أسنهت عند بني فلان( {[2517]} ) وهي لغة الحجاز ومنها قول الشاعر :
وليست بسنهاء ولا رجبية . . . ولكن عرايا في السنين الجوائح( {[2518]} )
فإن( {[2519]} ) القراءة على هذه اللغة هي بإثبات الهاء ولا بد ، وهي لام الفعل ، وفيها ظهر الجزم ب { لم } ، وعلى هذا هي قراءة ابن كثير ونافع وأبي عمرو ، وقد ذكر( {[2520]} ) . وقرأ طلحة بن مصرف «لم يسنّه » على الإدغام .
وقال النقاش : { لم يتسنه } معناه : لم يتغير من قوله تعالى : { ماء غير آسن } [ محمد : 15 ] ، قال أبو محمد : ورد النحاة على هذا القول ، لأنه لو كان من أسن الماء لجاء لم يتأسن ، وأما قوله تعالى : { وانظر إلى حمارك } ، فقال وهب بن منبه وغيره : المعنى وانظر إلى اتصال عظامه وإحيائه جزءاً جزءاً ، ويروى أنه أحياه الله كذلك حتى صار عظاماً ملتئمة ، ثم كساه لحماً حتى كمل حماراً ، ثم جاء ملك فنفخ في أنفه الروح ، فقام الحمار ينهق ، وروي عن الضحاك ووهب بن منبه أيضاً أنهما قالا : بل قيل له وانظر إلى حمارك قائماً في مربطه لم يصبه شيء مائة سنة ، قالا : وإنما العظام التي نظر إليها عظام نفسه( {[2521]} ) ، قالا : وأعمى الله العيون عن أرمياء وحماره طول هذه المدة .
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : وكثر أهل القصص في صورة هذه النازلة تكثيراً اختصرته لعدم صحته ، وقوله تعالى : { ولنجعلك آية للناس } معناه لهذا المقصد من أن تكون آية فعلنا بك هذا( {[2522]} ) ، وقال الأعمش موضع كونه آية هو أنه جاء شاباً على حاله يوم مات ، فوجد الحفدة والأبناء شيوخاً ، وقال عكرمة : جاء وهو ابن أربعين سنة كما كان يوم مات ، ووجد بنيه قد نيفوا على مائة سنة ، وقال غير الأعمش : بل موضع كونه آية أنه جاء وقد هلك كل من يعرف ، فكان آية لمن كان حياً من قومه ، إذ كانوا موقنين بحاله سماعاً .
قال القاضي أبو محمد رحمه الله : وفي إماتته هذه المدة ، ثم إحيائه أعظم آية ، وأمره كله آية للناس غابر الدهر ، لا يحتاج إلى تخصيص بعض ذلك دون بعض .
وأما العظام التي أمر بالنظر إليها فقد ذكرنا من قال : هي عظام نفسه ، ومن قال : هي عظام الحمار ، وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو : «نَنْشُرُها » بضم النون الأولى وبالراء ، وقرأ عاصم وابن عامر وحمزة والكسائي . «ننشزها » بالزاي ، وروى أبان عن عاصم «نَنشرُها » بفتح النون الأولى وضم الشين وبالراء ، وقرأها كذلك ابن عباس والحسن وأبو حيوة . فمن قرأها «نُنشرها »( {[2523]} ) بضم النون الأولى وبالراء فمعناه نحييها . يقال أنشر الله الموتى فنشروا ، قال الله تعالى : { ثم إذا شاء أنشره }( {[2524]} ) [ عبس : 22 ] .
يَا عَجَبا للميِّت النَّاشِرِ . . . ( {[2525]} )
وقراءة عاصم : «نَنشرها » بفتح النون الأولى يحتمل أن تكون لغة في الإحياء ، يقال : نشرت الميت وأنشرته فيجيء نشر الميت ونشرته ، كما يقال حسرت الدابة وحسرتها ، وغاض الماء وغضته ، ورجع زيد ورجعته . ويحتمل أن يراد بها ضد الطيّ ، كأن الموت طيّ للعظام والأعضاء ، وكأن الإحياء وجمع بعضها إلى بعض نشر . وأما من قرأ : «ننشزها » بالزاي بمعناه : نرفعها ، والنشز المرتفع من الأرض ، ومنه قول الشاعر :
ترى الثَّعْلَبَ الْحَوليَّ فيها كأنَّهُ . . . إذا مَا علا نَشْزاً حِصَانٌ مُجَلَّلُ( {[2526]} )
قال أبو علي وغيره : فتقديره ننشزها برفع بعضها إلى بعض للإحياء ، ومنه نشوز المرأة وقال الأعشى : [ الطويل ]
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . *** قُضَاعِيَّةٌ تَأْتي الْكَواهِنَ ناشِزا( {[2527]} )
يقال نشز وأنشزته( {[2528]} ) .
قال القاضي أبو محمد : ويقلق عندي أن يكون معنى النشوز رفع العظام بعضها إلى بعض ، وإنما النشوز الارتفاع قليلاً قليلاً ، فكأنه وقف على نبات العظام الرفات وخروج ما يوجد منها عند الاختراع ، وقال النقاش : ننشزها معناه ننبتها ، وانظر استعمال العرب تجده على ما ذكرت ، من ذلك نشز ناب البعير ، والنشز من الأرض على التشبيه بذلك( {[2529]} ) ، ونشزت المرأة كأنها فارقت الحال التي ينبغي أن تكون عليها ، وقوله تعالى : { وإذا قيل انشزوا فانشزوا }( {[2530]} ) [ المجادلة : 11 ] أي فارتفعوا شيئاً شيئاً كنشوز الناب . فبذلك تكون التوسعة ، فكأن النشوز ضرب من الارتفاع . ويبعد في الاستعمال أن يقال لمن ارتفع في حائط أو غرفة : نشز . وقرأ النخعي «نَنشُزُها » بفتح النون وضم الشين والزاي ، وروي ذلك عن ابن عباس وقتادة . وقرأ أبي بن كعب : «كيف ننشيها » بالياء . والكسوة : ما وارى من الثياب ، وشبه اللحم بها ، وقد استعاره النابغة للإسلام فقال :
الحمد لله إذ لم يأتني أجلي . . . حتى اكتسيتُ من الإسلامِ سربالا( {[2531]} )
وروي أنه كان يرى اللحم والعصب والعروق كيف تلتئم وتتواصل وقال الطبري : المعنى في قوله { فلما تبين له } أي لما اتضح له عياناً ما كان مستنكراً في قدرة الله عنده قبل عيانه ، { قال أعلم } .
قال القاضي أبو محمد : وهذا خطأ لأنه ألزم ما لا يقتضيه اللفظ ، وفسر على القول الشاذ والاحتمال الضعيف ، وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وعاصم وابن عامر : «أعلمُ أن » مقطوعة الألف مضمومة الميم . وقرأ حمزة والكسائي : «قال اعلم أن الله » موصولة الألف ساكنة الميم . وقرأها أبو رجاء ، وقرأ عبد الله بن مسعود والأعمش ، «قيل أعلم » .
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : فأما هذه فبينة المعنى أي قال الملك له . والأولى( {[2532]} ) بينة المعنى أي قال هو أنا أعلم أن الله على كل شيء قدير . وهذ عندي ليس بإقرار بما كان قبل ينكره كما زعم الطبري . بل هو قول بعثه الاعتبار كما يقول الإنسان المؤمن إذا رأى شيئاً غريباً من قدرة الله : الله لا إله إلا هو ونحو هذا . وقال أبو علي : معناه أعلم هذا الضرب من العلم الذي لم أكن علمته .
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : يعني علم المعاينة ، وأما قراءة حمزة والكسائي فتحتمل وجهين أحدهما ، قال الملك له «اعلم » ، والآخر أن ينزل نفسه منزلة المخاطب الأجنبي المنفصل ، فالمعنى فلما تبين له قال لنفسه : «اعلم »( {[2533]} ) وأنشد أبو علي في مثل هذا قول الأعشى : [ البسيط ]
ودّعْ هُرَيْرَةَ إنَّ الرَّكْبَ مُرْتَحِلُ . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ( {[2534]} )
ألمْ تَغْتَمِضْ عَيْناكَ لَيْلَةَ أَرْمَدَا ؟ . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ( {[2535]} ) [ الطويل ]
وأمثلة هذا كثيرة وتأنس( {[2536]} ) أبو علي في هذا المعنى بقول الشاعر : [ الطويل ]
تَذّكَّرَ مِنْ أَنّى ومِنْ أَيْنَ شُرْبُه . . . يؤامِرُ نَفْسيْهِ كَذِي الْهَجْمَةِ الآبل( {[2537]} )
تخيير في التشبيه على طريقة التشبيه ، وقد تقدم بيانها عند قوله تعالى : { أو كصيب من السماء } [ البقرة : 19 ] لأنّ قوله : { ألم تر إلى الذي حاجَ إبرهيم } [ البقرة : 258 ] في معنى التمثيل والتشبيه كما تقدم ، وهو مراد صاحب « الكشاف » بقوله : « ويجوز أن يحمل على المعنى دون اللفظ كأنه قيل : أرأيت كالذي حاجَّ أو كالذي مرَّ » وإذ قد قرّر بالآية قبلها ثبوت انفراد الله بالإلاهية ، وذلك أصل الإسلام ، أعقب بإثبات البعث الذي إنكاره أصل أهل الإشراك .
واعلم أنّ العرب تستعمل الصيغتين في التعجّب : يقولون ألم تر إلى كذا ، ويقولون أرأيتَ مثل كذا أو ككَذا ، وقد يقال ألم تر ككذا لأنّهم يقولون لم أر كاليوم في الخير أو في الشر ، وفي الحَديث « فلم أَره كاليوم مَنْظَرا قط » ، وإذا كان ذلك يقال في الخير جاز أن يدخل عليه الاستفهام فتقول : ألم تر كاليوم في الخير والشر ، وحيث حذف الفعل المستفهَم عنه فلك أن تقدره على الوجهين ، ومال صاحب « الكشاف » إلى تقديره : أرأيتَ كالذي لأنّه الغالب في التعجّب مع كاف التشبيه .
والذي مر على قريةٍ قيل هو أرْمِيَا بن حلقيا ، وقيل هو عُزَير بن شرخيا ( عزرا بن سَرَّيَّا ) . والقرية بيت المقدس في أكثر الأقوال ، والذي يظهر لي أنّه حزقيال ابن بوزي نبيء إسرائيل كان معاصراً لأرميا ودانيال وكان من جملة الذين أسرهم بختنصر إلى بابل في أوائل القرن السادس قبل المسيح ، وذلك أنه لما رأى عزم بختنصر على استئصال اليهود وجمعه آثار الهيكل ليأتي بها إلى بابل ، جمع كتب شريعة موسى وتابوتَ العهد وعصَا موسى ورماها في بئر في أورشليم خشية أن يحرقها بختنصر ، ولعله اتّخذ علامة يعرفها بها وجعلها سراً بينه وبين أنبياء زمانِه وورثتهم من الأنبياء . فلما أخرج إلى بابل بقي هنالك وكتب كتاباً في مَراءٍ رآها وَحْيا تدل على مصائب اليهودِ وما يرجى لهم من الخلاص ، وكان آخر ما كتبه في السنة الخامسة والعشرين بعد سبي اليهود ، ولم يعرف له خبر بعدُ كما ورد في تاريخهم ، ويظن أنّه مات أو قُتل . ومن جملة ما كتبه « أخْرَجَنِي روحُ الرب وأنزلني في وسط البقعة وهي ملآنة عظاماً كثيرة وأمّرَني عليها وإذا تلك البقعة يابسة فقال لي : أتَحيَى هذه العظامُ ؟ فقلت : يا سيدي الرّب أنتَ تعلم . فقال لي : تنبأْ على هذه العظام وقل لها : أيتها العظام اليابسة اسمعي كلمة الرب قال ها أنا ذا أدخل فيكم الروح وأضع عليكم عصباً وأكسوكم لحماً وجلداً . فتنبأت ، كما أمرني فتقاربتْ العظام كل عظم إلى عظمه ، ونظرت وإذا باللحم والعصب كساها وبسط الجلد عليها من فوق ودخل فيهم الروح فحيُوا وقاموا على أقدامهم جيش عظيم جداً » .
ولما كانت رؤيا الأنبياء وحيا فلا شكّ أن الله لما أعاد عُمران أورشليم في عهد عزرا النبي في حدود سنة 450 قبل المسيح أحيا النبي حزقيال عليه السلام ليرى مصداق نبوته ، وأراه إحياء العظام ، وأراه آية في طعامه وشرابه وحماره وهذه مخاطبة بين الخالق وبعض أصفيائه على طريق المعجزة وجعل خبره آية للناس من أهل الإيمان الذين يوقنون بما أخبرهم الله تعالى ، أو لقوم أطلعهم الله على ذلك من أصفيائه ، أو لأهل القرية التي كان فيها وفُقِد من بينهم فجاءهم بعد مائة سنة وتحققه من يعرفه بصفاته ، فيكون قوله تعالى : { مرّ على قرية } إشارة إلى قوله : « أخرجني روح الرب وأمّرني عليها » . فقوله : { قال أنَّى يحيي هذه الله } إشارة إلى قوله أتحيي هذه العظام فقلت يا سيدي أنت تعلم لأنّ كلامه هذا ينبىء باستبعاد إحيائها ، ويكون قوله تعالى : { فأماته الله مائة عام } إلخ مما زاده القرآن من البيان على ما في كتب اليهود لأنّهم كتبوها بعد مرور أزمنة ، ويظن من هنا أنّه مات في حدود سنة 560 قبل المسيح ، وكان تجديد أورشليم في حدود 458 فتلك مائة سنة تقريباً ، ويكون قوله : { وانظر إلى العظام كيف ننشرها ثم نكسوها لحمَا } تذكرة له بتلك النبوءة وهي تجديد مدينة إسرائيل .
وقوله : { وهي خاوية على عروشها } الخاوية : الفارغة من السكان والبناء . والعروش جمع عرش وهو السقف . والظرف مستقرٌ في موضع الحال ، والمعنى أنّها خاوية ساقطة على سقفها وذلك أشدّ الخراب لأنّ أول ما يسقط من البناء السُقُف ثم تسقط الجدران على تلك السُقُف . والقرية هي بيت المقدس رآها في نومه كذلك أو رآها حين خربها رسل بختنصر ، والظاهر الأول لأنّه كان ممن سُبي مع ( يهويا قيم ) ملكِ إسرائيل وهو لم يقع التخريب في زمنه بل وقع رفي زمن ( صدقيا ) أخيه بعد إحدى عشرة سنة .
وقوله : { أنّى يحيي هذه الله بعد موتها } استفهامُ إنكار واستبعاد ، وقوله : { فأماته الله } التعقيب فيه بحسب المعقب فلا يلزم أن يكون أماته في وقت قوله : { أنَّى يحيي هذه الله } . وقد قيل : إنّه نام فأماته الله في نومه .
وقوله : { ثم بعثه } أي أحياه وهي حياة خاصة ردّت بها روحه إلى جسده ؛ لأنّ جسده لم يبلَ كسائر الأنبياء ، وهذا بعث خارق للعادة وهو غير بعث الحشر .
وقوله : { لبثت يوماً أو بعض يوم } اعتقد ذلك بعلم أودعه الله فيه أو لأنّه تذكر أنّه نام في أول النهار ووجد الوقت الذي أفاق فيه آخر نهار .
وقوله : { فانظر إلى طعامك } تفريع على قوله : { لبثت مائة عام } . والأمرُ بالنظر أمر للاعتبار أي فانظُره في حال أنّه لم يتسنه ، والظاهر أنّ الطعام والشراب كانا معه حين أميت أو كانا موضوعين في قبره إذا كان من أمة أو في بلد يضعون الطعام للموتى المكرّمين كما يفعل المصريون القدماء ، أو كان معه طعام حين خرج فأماته الله في نومه كما قيل ذلك .
ومعنى { لم يتسنه } لم يتغيّر ، وأصله مشتق من السَّنَة لأنّ مر السنين يوجب التغيّر وهو مثل تحجَّرَ الطين ، والهاء أصلية لا هاء سكت ، وربما عاملوا هَاء سنة معاملة التاء في الاشتقاق فقالوا أسنت فلان إذا أصابته سنة أي مجاعة ، قال مطرود الخزاعي ، أو ابن الزبعري :
عَمْرُو الذي هشَم الثريدَ لقومِه *** قومٍ بمَكَة مُسنتين عجافِ
وقوله : { وانظر إلى حمارك } قيل : كان حماره قد بلي فلم تبق إلاّ عظامه فأحياه الله أمامه . ولم يؤت مع قوله : { وانظر إلى حمارك } بذكر الحالة التي هي محل الاعتبار لأنّ مجرد النظر إليه كاف ، فإنه رآه عظاماً ثم رآه حيا ، ولعلّه هلك فبقي بتلك الساحة التي كان فيها حزقيال بعيداً عن العُمران ، وقد جمع الله له أنواع الإحياء إذْ أحيى جسده بنفخ الروح عن غير إعادة وأحيى طعامه بحفظه من التغيّر وأحيى حماره بالإعادة فكان آية عظيمة للناس الموقنين بذلك ، ولعلّ الله أطْلَع على ذلك الإحياءِ بعض الأحياء من أصفيائه .
فقوله : { ولنجعلك آية } معطوف على مقدر دل عليه قوله { فانظر إلى طعامك } وانظر إلى حمارك ؛ فإن الأمر فيه للاعتبار لأنّه ناظر إلى ذلك لا محالة ، والمقصود اعتباره في استبعاده أن يُحيي الله القرية بعد موتها ، فكان من قوة الكلام انظر إلى ما ذكر جعلناه آية لك على البعث وجعلناك آية للناس لأنّهم لم يروا طعامه وشرابَه وحماره ، ولكن رأوا ذاته وتحققّوه بصفاته . ثم قال له : وانظر إلى العظام كيف ننشرها ، والظاهر أنّ المراد عظام بعض الآدميين الذين هلكوا ، أو أراد عظام الحمار فتكون ( أل ) عوضاً عن المضاف إليه فيكون قوله إلى العظام في قوة البدل من حمارك إلاّ أنّه برز فيه العامل المنويّ تكريرُه .
وقرأ جمهور العشرة { نُنْشِرها } بالرّاء مضارع أنْشَر الرباعي بمعنى الإحياء . وقرأه ابن عامر وحمزة وعاصم والكسائي وخلف : { نُنشِزها } بالزاي مضارع أنشزه إذا رفعه ، والنشز الارتفاع ، والمراد ارتفاعها حين تغلظ بإحاطة العصب واللحم والدم بها فحصل من القراءتين معنيان لكملة واحدة ، وفي كتاب ( حزقيال ) « فتقاربت العِظام كل عظم إلى عظمه ، ونظرتُ وإذا بالعصب واللحم كساها وبسط الجلد عليها » .
وقوله : { قال أعلم أن الله على كل شيء قدير } قرأ الجمهور أعلم بهمزة قطع على أنّه مضارع عَلم فيكون جوابَ الذي مر على قرية عن قول الله له { فانظر إلى طعامك } الآية ، وجاء بالمضارع ليدل على ما في كلام هذا النبي من الدلالة على تجدد علمه بذلك لأنه عَلمِه في قبلُ وتجدد علمه إياه . وقرأه حمزة والكسائي بهمزة وصل على أنه من كلام الله تعالى ، وكان الظاهر أن يكون معطوفاً على { فانظر إلى طعامك } لكنّه ترك عطفه لأنّه جُعل كالنتيجة للاستدلال بقوله : { فانظر إلى طعامك وشرابك } الآية .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يعني تعالى ذكره بقوله: {أوْ كالّذِي مَرّ على قَرْيَةٍ} نظير الذي عنى بقوله: {ألَمْ تَرَ الّذِي حاجّ إبْرَاهِيمَ فِي رَبّهَ} من تعجيب محمد صلى الله عليه وسلم منه.
وقوله: {أوْ كالّذِي مَرّ على قَرْيَةٍ} عطف على قوله: {ألَمْ تَرَ إلى الّذِي حاجّ إبْرَاهِيمَ فِي رَبّهِ}. وإنما عطف قوله: {أوْ كالّذِي} على قوله: {إلى الّذِي حاجّ إبْرَاهِيمَ فِي رَبّهِ} وإن اختلف لفظاهما، لتشابه معنييهما، لأن قوله: {ألَمْ تَرَ إلى الّذِي حاجّ إبْرَاهِيمَ فِي رَبّهِ} بمعنى: هل رأيت يا محمد كالذي حاجّ إبراهيم في ربه، ثم عطف عليه بقوله: {أوْ كالّذِي مَرّ على قَرْيَةٍ} لأن من شأن العرب العطف بالكلام على معنى نظير له قد تقدمه وإن خالف لفظه لفظه. وقد زعم بعض نحويي البصرة أن «الكاف» في قوله: {أوْ كالّذِي مَرّ على قَرْيَةٍ} زائدة، وأن المعنى: ألم ترى إلى الذي حاجّ إبراهيم، أو الذي مرّ على قرية. وقد بينا قبل فيما مضى أنه غير جائز أن يكون في كتاب الله شيء لا معنى له بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع.
واختلف أهل التأويل في الذي مرّ على قرية وهي خاوية على عروشها؛ فقال بعضهم: هو عُزَيْر.
وقال آخرون: هو إرميا بن حلقيّا. وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال: إن الله تعالى ذكره عجّب نبيه صلى الله عليه وسلم ممن قال إذ رأى قرية خاوية على عروشها: {أنّى يُحْيِي هَذِهِ اللّهُ بَعْدَ مَوْتِها} مع علمه أنه ابتدأ خلقها من غير شيء، فلم يقنعه علمه بقدرته على ابتدائها، حتى قال: أنى يحييها الله بعد موتها! ولا بيان عندنا من الوجه الذي يصحّ من قبله البيان على اسم قائل ذلك، وجائز أن يكون ذلك عزيرا، وجائز أن يكون إرميَا، ولا حاجة بنا إلى معرفة اسمه، إذ لم يكن المقصود بالآية تعريف الخلق اسم قائل ذلك. وإنما المقصود بها تعريف المنكرين قدرة الله على إحيائه خلقه بعد مماتهم، وإعادتهم بعد فنائهم، وأنه الذي بيده الحياة والموت من قريش، ومن كان يكذّب بذلك من سائر العرب، وتثبيت الحجة بذلك على من كان بين ظهراني مهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم من يهود بني إسرائيل بإطلاعه نبيه محمد صلى الله عليه وسلم على ما يزيل شكهم في نبوّته، ويقطع عذرهم في رسالته، إذ كانت هذه الأنباء التي أوحاها إلى نبيه محمد صلى الله عليه وسلم في كتابه من الأنباء التي لم يكن يعلمها محمد صلى الله عليه وسلم وقومه، ولم يكن علم ذلك إلا عند أهل الكتاب، ولم يكن محمد صلى الله عليه وسلم وقومه منهم، بل كان أميا وقومه أميون، فكان معلوما بذلك عند أهل الكتاب من اليهود الذين كانوا بين ظهراني مهاجره أن محمدا صلى الله عليه وسلم لم يعلم ذلك إلا بوحي من الله إليه. ولو كان المقصود بذلك الخبر عن اسم قائل ذلك لكانت الدلالة منصوبة عليه نصبا يقطع العذر ويزيل الشك، ولكن القصد كان إلى ذمّ قيله، فأبان تعالى ذكره ذلك لخلقه.
واختلف أهل التأويل في القرية التي مرّ عليها القائل: {أنّى يُحْيِي هَذِهِ اللّهُ بَعْدَ مَوْتِها}؛ فقال بعضهم: هي بيت المقدس. مرّ بها عُزَيْر بعد إذ خرّبها بختنصر.
وقال آخرون: بل هي القرية التي كان الله أهلك فيها الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت، فقال لهم الله موتوا. والصواب من القول في ذلك كالقول في اسم القائل: {أنّى يُحْيِي هَذِهِ اللّهُ بَعْدَ مَوْتِها} سواء لا يختلفان.
{وَهِيَ خاوِيَةٌ على عُرُوشِها}: وهي خالية من أهلها وسكانها...وأما العروش: فإنها الأبنية والبيوت، ومنه قول الله تعالى ذكره: {وَما كانُوا يَعْرِشُونَ} يعني يبنون، ومنه قيل عريش مكة، يعني به: خيامها وأبنيتها.
قال ابن عباس: خاوية: خراب. قال ابن جريج: بلغنا أن عزيرا خرج فوقف على بيت المقدس وقد خرّبه بختنصر، فوقف فقال: أبعد ما كان لك من القدس والمقاتِلة والمال ما كان! فحزن.
{قالَ أنّى يُحْيِي هَذِهِ اللّهُ بَعْدَ مَوْتِها فأماتَهُ اللّهُ مِائَةَ عامٍ}.
ومعنى ذلك فيما ذكرت: أن قائله لما مرّ ببيت المقدس، أو بالموضع الذي ذكر الله أنه مرّ به خرابا بعد ما عهده عامرا، قال: {أنّى يُحْيِي هَذِهِ اللّهُ بَعْدَ مَوْتِها}؟ فقال بعضهم: كان قيله ما قال من ذلك شكّا في قدرة الله على إحيائه. فأراه الله قدرته على ذلك بضربه المثل له في نفسه، ثم أراه الموضع الذي أنكر قدرته على عمارته وإحيائه، أحيا ما رآه قبل خرابه، وأعمر ما كان قبل خرابه. وذلك أن قائل ذلك كان فيما ذكر لنا عهده عامرا بأهله وسكانه، ثم رآه خاويا على عروشه، قد باد أهله وشتتهم القتل والسباء، فلم يبق منهم بذلك المكان أحد، وخربت منازلهم ودورهم، فلم يبق إلا الأثر. فلما رآه كذلك بعد الحال التي عهده عليها، قال: على أيّ وجه يحيي هذه الله بعد خرابها فيعمرها! استنكارا فيما قاله بعض أهل التأويل. فأراه كيفية إحيائه ذلك بما ضربه له في نفسه، وفيما كان من شرابه وطعامه، ثم عرّفه قدرته على ذلك وعلى غيره بإظهاره إحياء ما كان عجبا عنده في قدرة الله إحياؤه لرأي عينه حتى أبصره ببصره، فلما رأى ذلك قال: {أعْلَمُ أنّ اللّهَ على كُلّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}.
{ثُمّ بَعَثَهُ قالَ كَمْ لَبِثْتَ قالَ لَبِثْتُ يَوْما أوْ بَعْضَ يَوْمٍ قال بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عامٍ}: ثم أثاره حيا من بعد مماته.
{كَمْ لَبِثْتَ}: كم استفهام في كلام العرب عن مبلغ العدد، وتأويله: قال الله له: كم قدر الزمان الذي لبثت ميتا قبل أن أبعثك من مماتك حيا؟ قال المبعوث بعد مماته: لبثت ميتا إلى أن بعثتني حيا يوما واحدا أو بعض يوم. وذكر أن المبعوث هو إرميا أو عزير، أو من كان ممن أخبر الله عنه هذا الخبر. وإنما قال: {لَبِثْتُ يَوْما أوْ بَعْضَ يَوْمٍ} لأن الله تعالى ذكره كان قبض روحه أول النهار، ثم ردّ روحه آخر النهار بعد المائة عام فقيل له: كم لبثت؟ قال: لبثت يوما¹ وهو يرى أن الشمس قد غربت فكان ذلك عنده يوما لأنه ذكر أنه قبض روحه أول النهار وسئل عن مقدار لبثه ميتا آخر النهار وهو يرى أن الشمس قد غربت، فقال: لبثت يوما، ثم رأى بقية من الشمس قد بقيت لم تغرب، فقال: أو بعض يوم، بمعنى: بل بعض يوم، كما قال تعالى ذكره: {وأرْسَلْنَاهُ إلى مِائَةِ ألْفٍ أوْ يَزِيدُونَ} بمعنى: بل يزيدون. فكان قوله: {أوْ بَعْضَ يَوْمٍ} رجوعا منه عن قوله: {لَبِثْتُ يَوْما}. فقال: بل لبثت مائة عام.
{فانْظُرْ إلى طَعامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنّهْ}: لم تغيره السنون التي أتت عليه. وكان طعامه فيما ذكر بعضهم سلة تين وعنب وشرابه قلة ماء. وقال بعضهم: بل كان طعامه سلة عنب وسلة تين وشرابه زقّ من عصير. وقال آخرون: بل كان طعامه سلة تين، وشرابه دن خمر أو زُكْرَة خمر.
{لَمْ يَتَسَنّهْ} لم يأت عليه السنون فيتغير، على لغة من قال: أسنهتُ عندكم أَسْنِهُ: إذا أقام سنة، فجعل الهاء في السنة أصلاً، وهي اللغة الفصحى، وغير جائز حذف حرف من كتاب الله في حال وقف أو وصل لإثباته وجه معروف في كلامها.
واختلف أهل التأويل في تأويل قوله {لَمْ يَتَسَنّهْ}؛ فقال بعضهم بمثل الذي قلنا فيه من أن معناه: لم يتغير. وقال آخرون: معنى ذلك: لم ينتن.
{وَانْظُرْ إلى حِمَارِكَ}: اختلف أهل التأويل في تأويل قوله: {وَانْظُرْ إلى حِمارِكَ}؛ فقال بعضهم: معنى ذلك: وانظر إلى إحيائي حمارك، وإلى عظامه كيف أنشزها ثم أكسوها لحما.
ثم اختلف متأوّلو ذلك في هذا التأويل؛ فقال بعضهم: قال الله تعالى ذكره ذلك له بعد أن أحياه خلقا سويّا، ثم أراد أن يحيي حماره¹ تعريفا منه تعالى ذكره له كيفية إحيائه القرية التي رآها خاوية على عروشها، فقال: {أنّى يُحْيِي هَذِهِ اللّهُ بَعْدَ مَوْتِها} مستنكرا إحياء الله إياها... فنظر إلى حماره يتصل بعض إلى بعض، وقد كان مات معه بالعروق والعصب، ثم كسا ذلك منه اللحم حتى استوى ثم جرى فيه الروح، فقام ينهق. ونظر إلى عصيره وتينه، فإذا هو على هيئته حين وضعه لم يتغير. فلما عاين من قدرة الله ما عاين، قال: {أعْلَمُ أنّ اللّهَ على كُلّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}.
فتأويل الكلام على ما تأوله قائل هذا القول: وانظر إلى إحيائنا حمارك، وإلى عظامه كيف ننشزها ثم نكسوها لحما، ولنجعلك آية للناس. فيكون في قوله: {وَانْظُرْ إلى حِمَارِكَ} متروك من الكلام، استغني بدلالة ظاهره عليه من ذكره، وتكون الألف واللام في قوله: {وَانْظُرْ إلى العِظامِ} بدلاً من الهاء المرادة في المعنى، لأن معناه: وانظر إلى عظامه: يعني إلى عظام الحمار.
وقال آخرون منهم: بل قال الله تعالى ذكره ذلك له بعد أن نفخ فيه الروح في عينه، قالوا: وهي أول عضو من أعضائه نفخ الله فيه الروح، وذلك بعد أن سوّاه خلقا سويا، وقبل أن يحيى حماره. وكان طعامه سلّ عنب وشرابه دنّ خمر. قال ابن جريج عن مجاهد: نفخ الروح في عينيه، ثم نظر بهما إلى خلقه كله حين نشره الله، وإلى حماره حين يحييه الله.
وقال آخرون: بل جعل الله الروح في رأسه وبصره وجسده ميتا، فرأى حماره قائما كهيئته يوم ربطه وطعامه وشرابه كهيئته يوم حلّ البقعة، ثم قال الله له: انظر إلى عظام نفسك كيف ننشزها. وأولى الأقوال في هذه الآية بالصواب قول من قال: إن الله تعالى ذكره بعث قائلَ {أنّى يُحْيِي هَذِهِ اللّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا} من مماته، ثم أراه نظير ما استنكر من إحياء الله القرية التي مرّ بها بعد مماتها عيانا من نفسه وطعامه وحماره، فجعل تعالى ذكره ما أراه من إحيائه نفسه وحماره مثلاً لما استنكر من إحيائه أهل القرية التي مرّ بها خاوية على عروشها، وجعل ما أراه من العبرة في طعامه وشرابه عبرة له وحجة عليه في كيفية إحيائه منازل القرية وجنانها، وذلك هو معنى قول مجاهد الذي ذكرناه قبل.
وإنما قلنا ذلك أولى بتأويل الآية، لأن قوله: {وَانْظُرْ إلى العِظامِ} إنما هو بمعنى: وانظر إلى العظام التي تراها ببصرك كيف ننشزها، ثم نكسوها لحما، وقد كان حماره أدركه من البلى في قول أهل التأويل جميعا نظير الذي لحق عظام من خوطب بهذا الخطاب، فلم يمكن صرف معنى قوله: {وَانْظُرْ إلى العِظامِ} إلى أنه أمر له بالنظر إلى عظام الحمر دون عظام المأمور بالنظر إليها، ولا إلى أنه أمر له بالنظر إلى عظام نفسه دون عظام الحمار.
وإذا كان ذلك كذلك، وكان البلى قد لحق عظامه وعظام حماره، كان الأولى بالتأويل أن يكون الأمر بالنظر إلى كل ما أدركه طرفه مما قد كان البلى لحقه لأن الله تعالى ذكره جعل جميع ذلك عليه حجة وله عبرة وعظة.
{وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنّاسِ}؛ أمتناك مائة عام ثم بعثناك. وإنما أدخلت الواو مع اللام التي في قوله: {وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً للنّاسِ} وهو بمعنى «كي»... وإنما عنى بقوله: {وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً}: ولنجعلك حجة على من جهل قدرتي، وشكّ في عظمتي، وأنا القادر على فعل ما أشاء من إماتة وإحياء، وإفناء وإنشاء، وإنعام وإذلال، وإقتار وإغناء، بيدي ذلك كله، لا يملكه أحد دوني، ولا يقدر عليه غيري.
وكان بعض أهل التأويل يقول: كان آية للناس بأنه جاء بعد مائة عام إلى ولده وولد ولده شابا وهم شيوخ. وقال آخرون: معنى ذلك أنه جاء وقد هلك من يعرفه، فكان آية لمن قدم عليه من قومه. والذي هو أولى بتأويل الآية من القول، أن يقال: إن الله تعالى ذكره، أخبر أنه جعل الذي وصف صفته في هذه الآية حجة للناس، فكان ذلك حجة على من عرفه من ولده وقومه ممن علم موته، وإحياء الله إياه بعد مماته، وعلى من بعث إليه منهم.
{وَانْظُرْ إلى العِظامِ كَيْفَ نُنْشِزُها}: قد دللنا فيما مضى قبل على أن العظام التي أمر بالنظر إليها هي عظام نفسه وحماره.
{كَيْفَ نُنْشِزُها}: فإن القراء اختلفت في قراءته؛ فقرأ بعضهم: {وَانْظُرْ إلى العِظامِ كَيْفَ نُنْشِزُها} بضم النون وبالزاي، وذلك قراءة عامة قراءة الكوفيين، بمعنى: وانظر كيف نركب بعضها على بعض، وننقل ذلك إلى مواضع من الجسم. وأصل النشز: الارتفاع، ومنه قيل: قد نشز الغلام إذا ارتفع طوله وشبّ، ومنه نشوز المرأة على زوجها، ومن ذلك قيل للمكان المرتفع من الأرض: نَشَزٌ وَنَشْزٌ وَنَشاز، فإذا أردت أنك رفعته، قلت: أنشزته إنشازا، ونشز هو: إذا ارتفع. فمعنى قوله: {وَانْظُرْ إلى العِظامِ كَيْفَ نُنْشِزُها} في قراءة من قرأ ذلك بالزاي: كيف نرفعها من أماكنها من الأرض فنردّها إلى أماكنها من الجسم.
عن ابن عباس في قوله: {كَيْفَ نُنْشِزُها} كيف نخرجها.
عن السدي: {كَيْفَ نُنْشِزُها} قال: نحركها.
وقرأ ذلك آخرون: «وَانْظُرْ إلى العِظامِ كَيْفَ نُنْشِرُها» بضم النون، قالوا من قول القائل: أنشر الله الموتى فهو ينشرهم إنشارا. وذلك قراءة عامة قراء أهل المدينة، بمعنى: وانظر إلى العظام كيف نحييها ثم نكسوها لحما. قال ابن زيد في قوله: «وَانْظُرْ إلى العِظامِ كَيْفَ نُنْشِرُها» قال: كيف نحييها.
واحتجّ بعض قراء ذلك بالراء وضم نون أوله بقوله: {ثُمّ إذَا شاءَ أنْشَرَهُ} فرأى أن من الصواب إلحاق قوله: «وَانْظُرْ إلى العِظامِ كَيْفَ نُنْشِرُها» به. وقرأ ذلك بعضهم: «وَانْظُرْ إلى العِظامِ كَيْفَ نَنْشُرُها» بفتح النون من أوله وبالراء كأنه وجه ذلك إلى مثل معنى نشر الشيء وطيّه. وذلك قراءة غير محمودة، لأن العرب لا تقول: نشر الموتى، وإنما تقول: أنشر الله الموتى، فنَشَرُوا هم بمعنى: أحياهم فحيوا هم. ويدلّ على ذلك قوله: {ثُمّ إذَا شاءَ أنْشَرَهُ} وقوله: {آلهَةً مِنَ الأرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ}. وعلى أنه إذا أريد به حي الميت وعاش بعد مماته، قيل: نشر. والقول في ذلك عندي أن معنى الإنشار ومعنى الإنشاز متقاربان، لأن معنى الإنشاز: التركيب والإثبات وردّ العظام من العظام وإعادتُها لا شك أنه ردّها إلى أماكنها ومواضعها من الجسد بعد مفارقتها إياها. فهما وإن اختلفا في اللفظ، فمتقاربا المعنى، وقد جاءت بالقراءة بهما الأمة مجيئا يقطع العذر ويوجب الحجة، فبأيهما قرأ القارئ فمصيب لانقياد معنييهما، ولا حجة توجب لإحداهما من القضاء بالصواب على الأخرى. فإن ظنّ ظان أن الإنشار إذا كان إحياء فهو بالصواب أولى، لأن المأمور بالنظر إلى العظام وهي تنشر إنما أمر به ليرى عيانا ما أنكره بقوله: {أنّى يُحْيِي هَذِهِ اللّهُ بَعْدَ مَوْتِها} فإن إحياء العظام لا شك في هذا الموضع إنما عنى به ردّها إلى أماكنها من جسد المنظور إليه، وهو يحيا، لا إعادة الروح التي كانت فارقتها عند الممات. والذي يدل على ذلك قوله: {ثُمّ نَكْسُوها لَحْما} ولا شك أن الروح إنما نفخت في العظام التي أنشرت بعد أن كسيت اللحم. وإذا كان ذلك كذلك، وكان معنى الإنشاز تركيب العظام وردّها إلى أماكنها من الجسد، وكان ذلك معنى الإنشار، وكان معلوما استواء معنييهما، وأنهما متفقا المعنى لا مختلفاه، ففي ذلك إبانة عن صحة ما قلنا فيه. وأما القراءة الثالثة فغير جائزة القراءة بها عندي، وهي قراءة من قرأ: «كَيْفَ نَنْشُرُها» بفتح النون وبالراء، لشذوذها عن قراءة المسلمين وخروجها عن الصحيح الفصيح من كلام العرب. {ثُمّ نَكْسُوهَا لَحْما}: العظام لحما. والهاء التي في قوله: {ثُمّ نَكْسِوها لَحْما} من ذكر العظام. ومعنى نكسوها: نلبسها ونواريها به كما يواري جسد الإنسان كسوته التي يلبسها، وكذلك تفعل العرب، تجعل كل شيء غطى شيئا وواراه لباسا له وكسوة،
{فَلَمّا تَبَيّنَ لَهُ قَالَ أعْلَمُ أنّ اللّهَ عَلى كُلّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}: فلما اتضح له عيانا ما كان مستنكرا من قدرة الله وعظمته عنده قبل عيانه ذلك، قال: أعلم الاَن بعد المعاينة والإيضاح والبيان أن الله على كل شيء قدير.
ثم اختلفت القراءة في قراءة قوله: {قالَ أعْلَمُ أنّ اللّهَ}؛ فقرأه بعضهم: «قال اعْلَمْ» على معنى الأمر بوصل الألف من «اعلم»، وجزم الميم منها. وهي قراءة عامة قراء أهل الكوفة، ويذكرون أنها في قراءة عبد الله: «قيل اعْلَمْ» على وجه الأمر من الله للذي أحيى بعد مماته، فأمر بالنظر إلى ما يحييه الله بعد مماته. وكذلك رُوي عن ابن عباس.
فعلى هذا القول تأويل ذلك: فلما تبين من أمر الله وقدرته، قال الله له: اعلم الآن أن الله على كل شيء قدير. ولو صرف متأول قوله: «قال اعلم» وقد قرأه على وجه الأمر إلى أنه من قبل المخبر عنه بما اقتصّ في هذه الآية من قصته كان وجها صحيحا، وكان ذلك كما يقول القائل: اعلم أن قد كان كذا وكذا، على وجه الأمر منه لغيره وهو يعني به نفسه.
وقرأ ذلك آخرون: {قالَ أعْلَمُ} على وجه الخبر عن نفسه للمتكلم به بهمز ألف أعلم وقطعها ورفع الميم. بمعنى: فلما تبين له من قدرة الله وعظيم سلطانه بمعاينته ما عاينه، قال أليس ذلك: أعلم الاَن أنا أن الله على كل شيء قدير. وبذلك قرأ عامة أهل المدينة وبعض قراء أهل العراق، وبذلك من التأويل تأوله جماعة من أهل التأويل.
وأولى القراءتين بالصواب في ذلك قراءة من قرأ: «اعْلَمْ» بوصل الألف وجزم الميم على وجه الأمر من الله تعالى ذكره للذي قد أحياه بعد مماته بالأمر بأن يعلم أن الله الذي أراه بعينيه ما أراه من عظيم قدرته وسلطانه من إحيائه إياه وحماره بعد موت مائة عام وبلائه حتى عادا كهيئتهما يوم قبض أرواحهما، وحفظ عليه طعامه وشرابه مائة عام حتى ردّه عليه كهيئته يوم وضعه غير متغير على كل شيء قادر كذلك.
وإنما اخترنا قراءة ذلك كذلك وحكمنا له بالصواب دون غيره¹ لأن ما قبله من الكلام أمر من الله تعالى ذكره قولاً للذي أحياه الله بعد مماته وخطابا له به، وذلك قوله: {فانْظُرْ إلى طَعامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنّهْ وَانْظُرْ إلى حِمَارِكَ... وَانْظُرْ إلى العِظامِ كَيْفَ نُنْشِزُها} فلما تبين له ذلك جوابا عن مسألته ربه: {أنّى يُحْيِي هَذِهِ اللّهُ بَعْدَ مَوْتِها}! قال الله له: اعلم أن الله الذي فعل هذه الأشياء على ما رأيت على غير ذلك من الأشياء قدير كقدرته على ما رأيت وأمثاله، كما قال تعالى ذكره لخليله إبراهيم صلى الله عليه وسلم، بعد أن أجابه عن مسألته إياه في قوله: {رَبّ أرِنِي كَيْفَ تُحْيِي المَوْتَى}: {وَاعْلَمْ أنّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} فأمر إبراهيم بأن يعلم بعد أن أراه كيفية إحيائه الموتى أنه عزيز حكيم، فكذلك أمر الذي سأل فقال: {أنّى يُحْيِي هَذِهِ اللّهُ بَعْدَ مَوْتِها} بعد أن أراه كيفية إحيائه إياها أن يعلم أن الله على كل شيء قدير.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
... أراد أن يعاين إحياء الموتى ليزداد بصيرة كما طلبه إبراهيم عليه السلام. وقوله: {أَنَّى يُحْيي} اعتراف بالعجز عن معرفة طريقة الإحياء، واستعظام لقدرة المحيي...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
والإشارة بهذه إنما هي إلى القرية، وإحياؤها إنما هو بالعمارة ووجود البناء والسكان...
وقف في هذه الألفاظ على بقاء طعامه وشرابه على حاله لم يتغير، وعلى بقاء حماره حيّاً على مربطه. هذا على أحد التأويلين. وعلى التأويل الثاني: وقف على الحمار كيف يحيى وتجتمع عظامه.
أما قوله تعالى: {ثم بعثه} فالمعنى: ثم أحياه، ويوم القيامة يسمى يوم البعث لأنهم يبعثون من قبورهم، وأصله من بعثت الناقة إذا أقمتها من مكانها، وإنما قال {ثم بعثه} ولم يقل: ثم أحياه لأن قوله {ثم بعثه} يدل على أنه عاد كما كان أولا حيا عاقلا فهما مستعدا للنظر والاستدلال في المعارف الإلهية، ولو قال: ثم أحياه لم تحصل هذه الفوائد...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما كان الإحياء والإماتة من أظهر آيات الربانية وأخصها بها أظهر سبحانه وتعالى الغيرة عليها تارة بإبهات المدعي للمشاركة، وتارة بإشهاد المستبعد في نفسه وغيره بفعل ربه، وتارة بإشهاد المسترشد في غيره بنفسه معبراً في كل منها بما اقتضاه حاله وأشعر به سؤاله، فعبر في الكافر ب"إلى" إشارة إلى أنه في محل البعد عن المخاطب صلى الله عليه وسلم، وفي المتعجب بإسقاطها إسقاطاً لذلك البعد، وفي المسترشد المستطلع ب"إذ" كما هي العادة المستمرة في أهل الصفاء والمحبة والوفاء فأتبع التعجيب من حال المحاجج التعجيب أيضاً من حال من استعظم إحياءه تعالى لتلك القرية.
ولما كان معنى {ألم تر} هل رأيت لأن هل كما ذكر الرضى وغيره تختص مع كونها للاستفهام بأن تفيد فائدة النافي حتى جاز أن يجيء بعدها {إلا} قصداً للإيجاب كقوله سبحانه تعالى {هل جزاء الإحسان إلا الإحسان} [الرحمن: 60] وقوله سبحانه وتعالى {هل هذا إلا بشر مثلكم} [الأنبياء: 3]...
قال الحرالي: وفي لفظة "أنى" لشمول معناها لمعنى كيف وحيث ومتى استبعاده الإحياء في الكيف والمكان والزمان، ومنشأ هذا الاستبعاد إنما يطوق النفس من طلبها لمعرفة تكييف ما لا يصل إليه علمها...
{وانظر إلى العظام} أي من حمارك وهي جمع عظم وهو عماد البدن الذي عليه مقوم صورته {كيف ننشزها} قال الحرالي: بالراء من النشر وهو عود الفاني إلى صورته الأولى وبالضم جعل وتصيير إليه، وبالزاي من النشز وهو إظهار الشيء وإعلاؤه...
ويجوز أن يدل التعبير بالمضارع في أعلم على أنه لم يزل متصفاً بهذا العلم من غير نظر إلى حال ولا استقبال ويكون ذلك اعتذاراً عن تعبيره في التعجيب بما دل على الاستبعاد بأنه إنما قاله استبعاداً لتعليق القدرة بذلك لا للقدرة عليه {أن الله} أي لما أعلم من عظمته {على كل شيء} أي من هذا وغيره {قدير}
قال الحرالي: في إشعاره إلزام البصائر شهود قدرة الله سبحانه وتعالى في تعينها في الأسباب الحكمية التي تتقيد بها الأبصار إلحاقاً لما دون آية الإحياء والإماتة بأمرها ليستوي في العلم أن محييك هو مصرفك، فكما أن حياتك بقدرته فكذلك عملك بقدرته فلاءم تفصيل افراد القدرة لله بما تقدم من إبداء الحفظ بالله والعظمة لله، فكأنها جوامع وتفاصيل كلها تقتضي إحاطة أمر الله سبحانه وتعالى بكلية ما أجمل وبدقائق تفاصيل ما فصل...
وفي الآية بيان لوجه مغالطة الكافر لمن استخفه من قومه في المحاجة مع الخليل صلوات الله وسلامه عليه بأن الإحياء الذي يستحق به الملك الألوهية هو هذا الإحياء الحقيقي لا التخلية عمن استحق القتل...
إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود 982 هـ :
{أَوْ كالذي مَرَّ على قَرْيَةٍ} استشهادٌ على ما ذكر من ولايته تعالى للمؤمنين وتقريرٌ له معطوفٌ على الموصول السابق، وإيثارُ أو الفارقةِ على الواو الجامعة للاحتراز عن توهّم اتحادِ المستشهد عليه من أول الأمر...
والمعنى أَوَ لَمْ تَرَ إلى مثل الذي أو إلى الذي مرَّ على قرية كيف هداه الله تعالى وأخرجه من ظُلمة الاشتباه إلى نور العِيان والشهود، أي قد رأيت ذلك وشاهدتَه فإذن لا ريب في أن الله وليُّ الذين آمنوا الخ...
فلما تمت المائةُ من موت عُزير أحياه الله تعالى وذلك قوله تعالى: {ثُمَّ بَعَثَهُ} وإيثارُه على أحياه للدلالة على سرعته وسهولةِ تأتِّيه على البارئ تعالى كأنه بعثه من النوم وللإيذان بأنه أعاده كهيئته يومَ موته عاقلاً فاهماً مستعداً للنظر والاستدلال، {قَالَ} استئنافٌ مبني على السؤال كأنه قيل: فماذا قال له بعد بعثه؟ فقيل: قال: {كَمْ لَبِثْتَ} ليُظهرَ له عجزَه عن الإحاطة بشؤونه تعالى وأن إحياءَه ليس بعد مدة يسيرةٍ ربما يُتوَهم أنه هيِّنٌ في الجملة بل بعد مدةٍ طويلةٍ وينحسِم به مادةُ استبعادِه بالمرة ويطلُع في تضاعيفه على أمر آخرَ من بدائع آثارِ قُدرتِه تعالى وهو إبقاءُ الغذاء المتسارعِ إلى الفساد بالطبع على ما كان عليه دهراً طويلاً من غير تغيّرٍ ما، وكم نُصبَ على الظرفية مميِّزُها محذوفٌ أي كم وقتاً لبِثَ والقائلُ هو الله تعالى أو ملَكٌ مأمورٌ بذلك من قِبَله تعالى...
وقولُه عز وجل: {وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ} عطفٌ على مقدر متعلقٍ بفعل مقدرٍ قبله بطريق الاستئنافِ مقرِّرٌ لمضمون ما سبق، أي فعلنا ما فعلنا من إحيائك بعد ما ذكر لتُعايِنَ ما استبعَدْتَه من الإحياء بعد دهرٍ طويلٍ ولنجعلَك آيةً للناس الموجودين في هذا القرنِ بأن يشاهدوك وأنت من أهل القرونِ الخاليةِ ويأخذوا منك ما طُوِي عنهم منذ أحقابٍ مِنْ علمِ التوراة كما سيأتي، أو متعلقٌ بفعل مقدرٍ بعده، أي ولنجعلك آية لهم على الوجه المذكور فعلنا ما فعلنا فهو على التقديرين دليلٌ على ما ذكر من اللُبث المديدِ ولذلك فُرِّق بينه وبين الأمرِ بالنظر إلى حماره...
{قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ الله على كُلّ شَيْء} من الأشياء التي من جملتها ما شاهده في نفسه وفي غيره من تعاجيبِ الآثارِ {قَدِيرٌ} لا يستعصي عليه أمرٌ من الأمور، وإيثارُ صيغةِ المضارعِ للدَلالة على أن علمَه بذلك مستمِرٌّ نظراً إلى أن أصلَه لم يتغيرْ ولم يتبدل، بل إنما تبدل بالعِيان وصفُه، وفيه إشعارٌ بأنه إنما قال ما قال بناءً على الاستبعاد العادي واستعظاماً للأمر...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
والقرية –بالفتح- الضيعة والمصر الجامع، وأصل معنى المادة: الجمع ومنه قرية النمل لمجتمع ترابها ويعبر بالقرية عن الأمة...
{قال أنى يحيي هذه الله بعد موتها} يتعجب من ذلك ويعده غريبا لا يكاد يقع {فأماته الله مئة عام ثم بعثه} قالوا معناه ألبثه مئة عام ميتا. وذلك أن الموت يكون في لحظة واحدة قال الأستاذ الإمام: وفاتهم أن من الموت ما يمتد زمنا طويلا وهو ما يكون من فقد الحس والحركة والإدراك من غير أن تفارق الروح البدن بالمرة، وهو ما كان لأهل الكهف وقد عبر عنه تعالى بالضرب على الآذان.
أقول: ولعل وجهه أن السمع آخر ما يفقد من إدراك من أخذه النوم أو الموت. وهذا الموت أو الضرب على الآذان هو المراد بالشق الثاني من قوله تعالى: {الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها} [العنكبوت: 42] والبعث هو الإرسال. فإذا كان هذا النوع من الموت يكون بتوفي النفس أي قبضها فزواله إنما يكون بإرسالها وبعثها...
قال الأستاذ الإمام: إنه بعد أن أراه الآية التي تكون حجة خاصة لمن رآها نبهه إلى الحجة العامة والدليل الثابت الذي يمكن أن يحتج به على البعث في كل زمان ومكان وهو سنته تعالى في تكوين الحيوان وإنشاء لحمه وعظمه فالإنشاء معناه التقوية والإنشاز معناه التنمية لأن الذي ينمو يعلو ويرتفع، كانه يقول كما أطلعناك على بعض الآيات الخاصة التي تدلك على قدرتنا على البعث نهديك إلى الآية الكبرى العامة وهي كيفية التكوين. وإنما كانت هي الآية العامة لأن القرآن يحتج بها على جميع الخلق بمثل قوله: {كما بدأكم تعودون} [الأعراف: 29] وقوله: {كما بدأنا أول خلق نعيده} [الأنبياء: 104] وقوله في آيات تبين تفصيل كيفية البدء: {فخلقنا المضغة عظاما فكسونا العظام لحما} [المؤمنون: 14]. أقول: ويؤيد هذا التفسير قراءة أبي رضي الله عنه "وانظر إلى العظام كيف ننشيها "من الإنشاء...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وفي سياق الحديث عن سر الموت والحياة تجيء القصة الأخرى:... فلنقف نحن -على طريقتنا في هذه الظلال- عند تلك الظلال. إن المشهد ليرتسم للحس قويا واضحا موحيا. مشهد الموت والبلى والخواء.. يرتسم بالوصف: (وهي خاوية على عروشها).. محطمة على قواعدها. ويرتسم من خلال مشاعر الرجل الذي مر على القرية. هذه المشاعر التي ينضح بها تعبيره: (أنى يحيي هذه الله بعد موتها؟).. إن القائل ليعرف أن الله هناك. ولكن مشهد البلى والخواء ووقعه العنيف في حسه جعله يحار: كيف يحيي هذه الله بعد موتها؟ وهذا أقصى ما يبلغه مشهد من العنف والعمق في الإيحاء.. وهكذا يلقي التعبير القرآني ظلاله وإيحاءاته، فيرسم المشهد كأنما هو اللحظة شاخص تجاه الأبصار والمشاعر. (أنى يحيي هذه الله بعد موتها؟).. كيف تدب الحياة في هذا الموات؟ (فأماته الله مائة عام. ثم بعثه).. لم يقل له كيف. إنما أراه في عالم الواقع كيف! فالمشاعر والتأثرات تكون أحيانا من العنف والعمق بحيث لا تعالج بالبرهان العقلي، ولا حتى بالمنطق الوجداني؛ ولا تعالج كذلك بالواقع العام الذي يراه العيان.. إنما يكون العلاج بالتجربة الشخصية الذاتية المباشرة، التي يمتلىء بها الحس، ويطمئن بها القلب، دون كلام!...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
{ثم بعثه}: أحياه وهي حياة خاصة ردّت بها روحه إلى جسده؛ لأنّ جسده لم يبلَ كسائر الأنبياء، وهذا بعث خارق للعادة وهو غير بعث الحشر... وقد جمع الله له أنواع الإحياء إذْ أحيى جسده بنفخ الروح عن غير إعادة، وأحيى طعامه بحفظه من التغيّر، وأحيى حماره بالإعادة، فكان آية عظيمة للناس الموقنين بذلك، ولعلّ الله أطْلَع على ذلك الإحياءِ بعض الأحياء من أصفيائه...
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
والقرية: المدينة من القَرْي بمعنى الجمع؛ لأنها الجامعة لأشتات الناس وأصنافهم...
و موت القرية هو موت السكان فهو من قبيل إطلاق المحل وإرادة الحال، وكذلك الحياة فليست الحياة هي حياة البناء والجدران؛ لأنه لا حياة لهما إنما الإحياء يكون لمن كانوا يسكنون البناء والجدران. سأل ذلك المار عن كيفية الإحياء وهو سر القدرة الإلهية لا يعلمه أحد من عباده ولكن يرون آثاره، ولقد أجاب سبحانه ذلك السائل عن الكيفية بالحال العملية...
وفي ذلك تصوير للإنسان بأن الموت يشبه النوم والبعث يشبه اليقظة بعد النوم، ولقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في جمع قريش عندما دعاهم دعوة الحق:"والله لتموتن كما تنامون، ولتبعثن كما تستيقظون، وإنها للجنة أبدا أو للنار أبدا"...
التفسير الحديث لدروزة 1404 هـ :
وروح الآية وفحواها يلهمان أن الرجل كان مؤمنا وأهلا لوحي الله وخطابه، وأنه قال ما قال في حالة نفسية بائسة...
ويروي المفسرون عن علماء الأخبار أن القصة من قصص بني إسرائيل... وعلى كل حال فرواية علماء الأخبار من الصدر الأول لهذه القصة بإسهاب استغرق في تفسير الطبري ثلاث عشرة صفحة تدل على أنها مما كان متداولا في أوساط اليهود ثم في البيئة العربية عن طريقهم في عصر النبي صلى الله عليه وسلم. ونعتقد أن ذلك مما كان وارداً في بعض القراطيس اليهودية التي لم تصل إلينا. وفي صدد القصة نرى من واجب المسلم أن يقف عندما اقتضت حكمة التنزيل إيراده وأن يؤمن أنه لا بد لإيرادها بالأسلوب الذي جاءت به حكمة يمكن أن يكون منها قصد التمثيل على تنوع مواقف الناس من الله تعالى.
فالملك الكافر أنكر الله وقدرته واغتر حتى ظن نفسه ندّاً لله وهذا الرجل سارع إلى الاعتراف بقدرة الله حينما رأى الدليل؛ لأنه حسن النية راغب في الحق. وهكذا تتصل الآية بسابقتها وتتصل الآيتان بالسياق جميعه اتصال تذكير وتمثيل وموعظة وتسرية، وتستحكم الحجة القرآنية على السامعين؛ لأن ما فيها متسق مع حوادث يعرفونها. ولقد أُريد صرف هذه القصة إلى مفهوم معنوي ورمزي، ونحن لا نطمئن إلى مثل هذا الأسلوب ولا نرى فيه طائلاً، فالقصة لم تكون مجهولة كما تلهم روح الآية والروايات التي وردت في سياقها معزوة إلى تابعين وتابعي تابعين فأوردت على سبيل التذكير والتمثيل والعظة، والله أعلم.
ويبسط الحق القضية التي عدل عنها إبراهيم وهي الموت والحياة فيقول سبحانه: {أو كالذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها قال أنى يُحيي هذه الله بعد موتها فأماته الله مائة عام ثم بعثه قال كم لبثت قال لبثت يوما أو بعض يوم قال بل لبثت مائة عام فانظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنّه وانظر إلى حمارك ولنجعلك آية للناس وانظر إلى العظام كيف نُنشزها ثم نكسوها لحما فلما تبين له قال أعلم أن الله على كل شيء قدير 259} وعندما ننظر إلى بداية الآية نجدها تبدأ ب (أو)، وما بعد (أو) يكون معطوفاً على ما قبلها، فكأن الحق يريد أن يقول لنا: أو (ألم تر) إلى مثل الذي مر على قرية. وعندما تسمع كلمة (قرية) فإنها تفيد تجمع جماعة من الناس يسكنون في مكان محدود، ونفهم أن الذي مر على هذه القرية ليس من سكانها، إنما هو قد مر عليها سياحة في رحلة. ونلحظ كذلك أن الحق سبحانه لم يشأ أن يأتي لنا باسم القرية أو باسم الذي مر عليها. والسؤال عن الكيفية معناه التيقن من الحدث، فقول الحق: (أنّى يُحيي هذه الله).. يعني: كيف يُحيي الله هذه القرية بعد موتها، فكأن القائل لا يشك في أن الله يُحيي، ولكنه يريد الكيفية، والكيفية ليست مناط إيمان، فالله لم ينهنا عن التعرف على الكيفية؛ فهو يعلم أننا نؤمن بأنه قادر على إيجاد هذا الحدث...
ولذلك يذيل الحق الآية بالقول: (قال أعلم أن الله على كل شيء قدير). ألم يكن قبل ذلك يعلم أن الله على كل شيء قدير؟ نعم كان يعلم علم الاستدلال، وهو الآن يعلم علم المشهد، علم الضرورة، فليس مع العين أين. إذن ف (أعلم أن الله على كل شيء قدير) هي تأكيد وتعريف بقدرة الله على أن يبسط الزمن ويقبضه، وقدرة الله على الإحياء والإماتة، فصار يعلم حق اليقين بعد أن كان يعلم علم اليقين. وهذه المسألة تفسر ما يقوله العلم الحديث عن تعليق الحياة. ومعنى تعليق الحياة هو يشبه ما تفعله بعض الثعابين عندما تقوم بالبيات الشتوي، أي تنكمش في الشتاء في ذاتها ولا تُبدي حركة، وتظل هكذا إلى أن يذهب الشتاء، ومدة البيات الشتوي لا تحتسب من عمر الثعابين، ولذلك يقال: إن ذلك هو عملية تعليق الحياة. وهذه العملية التي قد نفسر بها مسألة أهل الكهف. فأهل الكهف أيضا مرت عليهم العملية نفسها...