قوله تعالى : { واختار موسى قومه } ، أي من قومه ، فانتصب لنزع حرف الصفة . قوله تعالى : { سبعين رجلاً لميقاتنا } وفيه دليل على أن كلهم لم يعبدوا العجل ، قال السدي : أمر الله تعالى موسى أن يأتيه في ناس من بني إسرائيل يعتذرون إليه من عبادة العجل ، فاختار موسى من قومه سبعين رجلاً .
قوله تعالى : { فلما } أتوا ذلك المكان ، قالوا : { لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة فأخذتهم الصاعقة } فماتوا ، وقال ابن إسحاق : اختارهم ليتوبوا إليه مما صنعوا ، ويسألوا التوبة على من تركوا وراءهم من قومهم ، فهذا يدل على أن كلهم عبدوا العجل ، وقال قتادة وابن جريج ، ومحمد بن كعب : { أخذتهم الرجفة } لأنهم لم يزايلوا قومهم حين عبدوا العجل ، ولم يأمروهم بالمعروف ، ولم ينهوهم عن المنكر . وقال ابن عباس : إن السبعين الذين قالوا : { لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة فأخذتكم الصاعقة } [ البقرة : 55 ] ، كانوا قبل السبعين الذين أخذتهم الرجفة ، وإنما أمر الله سبحانه وتعالى موسى عليه السلام أن يختار من قومه سبعين رجلاً ، فاختارهم ، وبرز بهم ليدعوا ربهم ، فكان فيما دعوا أن قالوا : اللهم أعطنا ما لم تعطه أحداً قبلنا ، ولا تعطيه أحداً بعدنا ، فكره الله ذلك من دعائهم ، فأخذتهم الرجفة ، قال وهب : لم تكن الرجفة صوتاً ، ولكن القوم لما رأوا تلك الهيبة أخذتهم الرعدة ، وقلقوا ورجفوا ، حتى كادت أن تبين منهم مفاصلهم ، فلما موسى ذلك رحمهم وخاف عليهم الموت ، واشتد عليه فقدهم ، وكانوا له وزراء على الخير ، سامعين مطيعين ، فعند ذلك دعا وبكى ، وناشد ربه ، فكشف الله عنهم تلك الرجفة ، فاطمأنوا وسمعوا كلام ربهم ، فذلك قوله تعالى : { قال } يعني موسى .
قوله تعالى : { رب لو شئت أهلكتهم من قبل } ، يعني عن عبادة العجل .
قوله تعالى : { وإياي } بقتل القبطي .
قوله تعالى : { أتهلكنا بما فعل السفهاء منا } ، يعني عبدة العجل ، وظن موسى أنهم عوقبوا باتخاذهم العجل ، وقال هذا على طريق السؤال ، يسأل : أتهلكنا بفعل السفهاء ؟ وقال المبرد : قوله { أتهلكنا بما فعل السفهاء منا } استفهام استعطاف ، أي : لا تهلكنا ، وقد علم موسى عليه السلام أن الله تعالى أعدل من أن يأخذ بجريرة الجاني غيره . قوله تعالى : { إن هي إلا فتنتك } ، أي : التي وقع فيها السفهاء ، لم تكن إلا اختبارك وابتلاءك ، أضللت بها قوماً فافتنوا ، وهديت قوماً فعصمتهم حتى ثبتوا على دينك ، فذلك هو معنى قوله : { تضل بها من تشاء وتهدي من تشاء أنت ولينا } ، ناصرنا وحافظنا .
و لما تاب بنو إسرائيل وتراجعوا إلى رشدهم اخْتَارَ مُوسَى منهم سَبْعِينَ رَجُلا من خيارهم ، ليعتذروا لقومهم عند ربهم ، ووعدهم اللّه ميقاتا يحضرون فيه ، فلما حضروه ، قالوا : يا موسى ، أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فتجرأوا على اللّه جراءة كبيرة ، وأساءوا الأدب معه ، ف أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فصعقوا وهلكوا .
فلم يزل موسى عليه الصلاة والسلام ، يتضرع إلى اللّه ويتبتل ويقول رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ أن يحضروا ويكونون في حالة يعتذرون فيها لقومهم ، فصاروا هم الظالمين أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا أي : ضعفاء العقول ، سفهاء الأحلام ، فتضرع إلى اللّه واعتذر بأن المتجرئين على اللّه ليس لهم عقول كاملة ، تردعهم عما قالوا وفعلوا ، وبأنهم حصل لهم فتنة يخطر بها الإنسان ، ويخاف من ذهاب دينه فقال : إِنْ هِيَ إِلا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ أي : أنت خير من غفر ، وأولى من رحم ، وأكرم من أعطى وتفضل ، فكأن موسى عليه الصلاة والسلام ، قال : المقصود يا رب بالقصد الأول لنا كلنا ، هو التزام طاعتك والإيمان بك ، وأن من حضره عقله ورشده ، وتم على ما وهبته من التوفيق ، فإنه لم يزل مستقيما ، وأما من ضعف عقله ، وسفه رأيه ، وصرفته الفتنة ، فهو الذي فعل ما فعل ، لذينك السببين ، ومع هذا فأنت أرحم الراحمين ، وخير الغافرين ، فاغفر لنا وارحمنا .
فأجاب اللّه سؤاله ، وأحياهم من بعد موتهم ، وغفر لهم ذنوبهم .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَاخْتَارَ مُوسَىَ قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لّمِيقَاتِنَا فَلَمّا أَخَذَتْهُمُ الرّجْفَةُ قَالَ رَبّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مّن قَبْلُ وَإِيّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السّفَهَآءُ مِنّآ إِنْ هِيَ إِلاّ فِتْنَتُكَ تُضِلّ بِهَا مَن تَشَآءُ وَتَهْدِي مَن تَشَآءُ أَنتَ وَلِيّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ } . .
يقول تعالى ذكره : واختار موسى من قومه سبعين رجلاً للوقت والأجل الذي وعده الله أن يلقاه فيه بهم للتوبة مما كان من فعل سفهائهم في أمر العجل . كما :
حدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ ، قال : إن الله أمر موسى عليه السلام أن يأتيه في ناس من بني إسرائيل يعتذرون إليه من عبادة العجل ، ووعدهم موعدا . فاختار موسى قومه سبعين رجلاً على عينه ، ثم ذهب بهم ليعتذروا ، فلما أتوا ذلك المكان ، قالوا : لن نؤمن لك يا موسى حتى نرى الله جهرة ، فإنك قد كلمته فأرناه فأخذتهم الصاعقة فماتوا . فقام موسى يبكي ويدعو الله ويقول : ربّ ماذا أقول لبني إسرائيل إذا أتيتهم وقد أهلكت خيارهم ، لو شئت أهلكتهم من قبل وإياي
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، قال : اختار موسى من بني إسرائيل سبعين رجلاً الخّير فالخير ، وقال : انطلقوا إلى الله فتوبوا إليه مما صنعتم ، واسألوه التوبة على من تركتم وراءكم من قومكم ، صوموا ، وتطهّروا ، وطهّروا ثيابكم فخرج بهم إلى طور سينا لميقات وقّته له ربه ، وكان لا يأتيه إلا بإذن منه وعلم ، فقال السبعون فيما ذكر لي حين صنعوا ما أمرهم به ، وخرجوا معه للقاء ربه لموسى : اطلب لنا نسمع كلام ربنا فقال : أفعل . فلما دنا موسى من الجبل ، وقع عليه عمود الغمام حتى تغشى الجبل كله ، ودنا موسى فدخل فيه ، وقال للقوم : ادنوا وكان موسى إذا كلمه الله ، وقع على جبهته نور ساطع ، لا يستطيع أحد من بني آدم أن ينظر إليه . فضُرب دونه بالحجاب ، ودنا القوم حتى إذا دخلوا في الغمام وقعوا سجودا ، فسمعوه وهو يكلم موسى ، يأمره وينهاه : افعل ولا تفعل فلما فرغ الله من أمره ، وانكشف عن موسى الغمام ، أقبل إليهم ، فقالوا لموسى : لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حتى نَرَى اللّهَ جَهْرَةً ، فَأخَذتْهُمُ الرّجْفَةُ وهي الصاعقة ، فالتقت أرواحهم فماتوا جميعا ، وقام موسى عليه السلام يناشد ربه ويدعوه ويرغب إليه ، ويقول : ربّ لو شئت أهلكتهم من قبل وإياي ، قد سفهوا أفتهلك من ورائي من بني إسرائيل ؟
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس ، قوله : وَاخْتارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِمِيقاتِنا قال : كان الله أمره أن يختار من قومه سبعين رجلاً ، فاختار سبعين رجلاً ، فبرز بهم ليدعوا ربهم ، فكان فيما دعوا الله أن قالوا : اللهمّ أعطنا ما لم تعط أحدا بعدنا فكره الله ذلك من دعائهم ، فأخذتهم الرجفة . قال موسى : رَبّ لَوْ شِئْتَ أهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وإيّايَ .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا خالد بن حيان ، عن جعفر ، عن ميمون : وَاخْتارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِمِيقاتِنا قال : لموعدهم الذي وعدهم .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : سَبْعِينَ رَجُلاً لِمِيقاتِنا قال : اختارهم لتمام الوعد .
وقال آخرون : إنما أخذتهم الرجفة من أجل دعواهم على موسى قتل هارون . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن بشار وابن وكيع ، قالا : حدثنا يحيى بن يمان ، قال : حدثنا سفيان ، قال : ثني أبو إسحاق ، عن عمارة بن عبد السلولي ، عن عليّ رضي الله عنه ، قال : انطلق موسى وهارون وشَبّر وشَبِير ، فانطلقوا إلى سفح جبل ، فنام هارون على سرير ، فتوفاه الله . فلما رجع موسى إلى بني إسرائيل قالوا له : أين هارون ؟ قال : توفاه الله . قالوا : أنت قتلته ، حسدتنا على خلقه ولينه أو كلمة نحوها قال : فاختاروا من شئتم قال : فاختاروا سبعين رجلاً . قال : فذلك قوله : وَاخْتارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِمِيقاتِنا . قال : فلما انتهوا إليه قالوا : يا هارون من قتلك ؟ قال : ما قتلني أحد ، ولكنني توفاني الله . قالوا : يا موسى لن نعصيَ بعد اليوم قال : فأخذتهم الرجفة . قال : فجعل موسى يرجع يمينا وشمالاً ، وقال : يا رَبّ لَوْ شِئْتَ أهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وإيّايَ أُتهْلِكُنا بِمَا فَعَلَ السّفَهاءُ مِنّا إنْ هِيّ إلاّ فِتْنَتُكَ تُضِلّ بِها مَنْ تَشاءُ وَتهْدِي مَنْ تَشاءُ قال : فأحياهم الله وجعلهم أنبياء كلهم .
حدثنا محمد بن المثنى ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شعبة ، عن أبي إسحاق ، عن رجل من بني سلول ، أنه سمع عليّا رضي الله عنه يقول في هذه الاَية : وَاخْتارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِمِيقاتِنا قال : كان هارون حسن الخلق محببا في بني إسرائيل . قال : فلما مات دفنه موسى . قال : فلما أتى بني إسرائيل ، قالوا له : أين هاون ؟ قال : مات . فقالوا : قتلته قال : فاختار منهم سبعين رجلاً . قال : فلما أتوا القبر ، قال موسى : أُقتلت أو متّ ؟ قال : متّ . قال : فأصعقوا ، فقال موسى : ربّ ما أقول لبني إسرائيل إذا رجعت ؟ يقولون : أنت قتلتهم قال : فأحيوا وجعلوا أنبياء .
حدثني عبد الله بن الحجاج بن المنهال ، قال : حدثنا أبي ، قال : حدثنا الربيع بن حبيب ، قال : سمعت أبا سعيد ، يعني الرقاشيّ ، وقرأ هذه الاَية : وَاخْتارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِمِيقاتِنا فقال : كانوا أبناء ما عدا عشرين ولم يتجاوزوا الأربعين ، وذلك أن ابن عشرين قد ذهب جهله وصباه ، وأن من لم يتجاوز الأربعين لم يفقد من عقله شيئا .
وقال آخرون : إنما أخذت القوم الرجفة لتركهم فراق عبدة العجل ، لا لأنهم كانوا من عبَدته . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : وَاخْتارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِمِيقاتِنا فقرأ حتى بلغ : السّفَهاءُ مِنا ذكر لنا أن ابن عباس كان يقول : إنما تناولتهم الرجفة لأنهم لم يزايلوا القوم حين نصبوا العجل ، وقد كرهوا أن يجامعوهم عليه .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قوله : وَاخْتارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِمِيقاتِنا ممن لم يكن قال ذلك القول على أنهم لم يجامعوهم عليه ، فأخذتهم الرجفة من أجل أنهم لم يكونوا باينوا قومهم حين اتخذوا العجل . فلما خرجوا ودعوا ، أماتهم الله ثم أحياهم . فَلَمّا أخَذَتْهُمُ الرّجْفَةُ قالَ رَبّ لَوْ شِئْتَ أهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وأيّايَ أُتهْلِكُنا بِمَا فَعَلَ السّفَهاءُ مِنّا .
حدثني الحرث ، قال : حدثنا عبد العزيز ، قال : حدثنا أبو سعد ، قال : قال مجاهد : وَاخْتارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِمِيقاتِنا والميقات : الموعد . فلما أخذتهم الرجفة بعد أن خرج موسى بالسبعين من قومه يدعون الله ويسألونه أن يكشف عنهم البلاء ، فلم يستجب لهم علم موسى أنهم قد أصابوا من المعصية ما أصابه قومهم . قال ابن سعد : فحدثني محمد بن كعب القرظي ، قال : لم يستجب لهم من أجل أنهم لم ينهوهم عن المنكر ويأمروهم بالمعروف . قال : فأخذتهم الرجفة فماتوا ، ثم أحياهم الله .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبو أسامة ، عن عون ، عن سعيد بن حيان ، عن ابن عباس : إن السبعين الذين اختارهم موسى من قومه ، إنما أخذتهم الرجفة أنهم لم يرضوا ولم ينهوا عن العجل .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا عون ، قال : حدثنا سعيد بن حيان ، عن ابن عباس ، بنحوه .
واختلف أهل العربية في وجه نصب قوله : قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِمِيقاتِنا فقال بعض نحويي البصرة : معناه : واختار موسى من قومه سبعين رجلاً ، فلما نزع «مِن » أعمل الفعل ، كما قال الفرزدق :
وَمِنّا الّذِي اخْتِيرَ الرّجالَ سمَاحَة ***وَجُودا إذَا هَبّ الرّياحُ الزّعازِعُ
أمَرْتُكَ الخَيْرَ فافْعَلْ ما أُمِرْتَ بِه ***فَقَدْ تَرَكْتُكَ ذَا مالٍ وَذَا نَشبِ
اخْتَرْتُكَ النّاسَ إذْ غَثّتْ خَلائِقُهُمْ ***واعْتَلّ مَن كانَ يُرْجَى عندَهُ السّولُ
وقال بعض نحوّيي الكوفة : إنما استجيز وقوع الفعل عليهم إذا طرحت مِن ، لأنه مأخوذ من قولك : هؤلاء خير القوم ، وخير من القوم ، فإذا جازت الإضافة مكان «من » ولم يتغير المعنى ، استجازوا أن يقولوا : اخترتكم رجلاً ، واخترت منكم رجلاً وقد قال الشاعر :
***لَهُ اخْتَرْها قَلُوصا سَمِينَةً ***
***تَحْتَ التي اخْتارَ لَهُ اللّهُ الشّجَرْ ***
بمعنى : اختارها له الله من الشجر .
وهذا القول الثاني أولى عندي في ذلك بالصواب لدلالة الاختيار على طلب «من » التي بمعنى التبعيض ، ومن شأن العرب أن تحذف الشيء من حشو الكلام إذا عرف موضعه ، وكان فيما أظهرت دلالة على ما حذفت ، فهذا من ذلك إن شاء الله .
وقد بيّنا معنى الرجفة فيما مضى بشواهدها ، وأنها ما رجف بالقوم وأرعبهم وحرّكهم وأهلكهم بعد ، فأماتهم أو أصعقهم ، فسلب أفهامهم . وقد ذكرنا الرواية في غير هذا الموضع ، وقول من قال : إنها كانت صاعقة أماتتهم .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : فَلَمّا أخَذَتْهُمُ الرّجْفَةُ ماتوا ثم أحياهم .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : سَبْعِينَ رَجُلاً لِمِيقاتِنا اختارهم موسى لتمام الموعد . فَلَمّا أخَذَتْهُمُ الرّجْفَةُ ماتوا ثم أحياهم الله .
حدثني عبد الكريم ، قال : حدثنا إبراهيم ، قال : حدثنا سفيان ، قال : قال أبو سعد ، عن عكرمة ، عن ابن عباس : فَلَمّا أخَذَتْهُمُ الرّجْفَةُ قال : رجف بهم .
القول في تأويل قوله تعالى : أُتهْلِكُنا بِمَا فَعَلَ السّفَهاءُ مِنّا إنْ هِيَ إلاّ فِتْنَتُكَ تُضِلّ بِها مَنْ تَشاءُ وَتهْدِي مَنْ تَشاءُ أنْتَ وَلِيّنا فاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا وأنْتَ خَيْرُ الغافِرِينَ .
اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك ، فقال بعضهم : معنى ذلك : أتهلك هؤلاء الذين أهلكتهم بما فعل السفهاء منا : أي بعبادة من عبد العجل . قالوا : وكان الله إنما أهلكهم لأنهم كانوا ممن يعبد العجل ، وقال موسى ما قال ولا علم عنده بما كان منهم من ذلك . ذكر من قال ذلك :
حدثنا موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : أُتهْلِكُنا بِمَا فَعَلَ السّفَهاءُ مِنّا فأوحى الله إلى موسى : إن هؤلاء السبعين ممن اتخذ العجل ، فذلك حين يقول موسى : إنْ هِيَ إلاّ فِتْنَتُكَ تُضِلّ بِها مَنْ تَشاءُ وَتهْدى مَنْ تَشاءُ .
وقال آخرون : معنى ذلك : أن إهلاكك هؤلاء الذين أهلكتهم هلاك لمن وراءهم من بني إسرائيل إذا انصرفتُ إليهم ، وليسوا معي ، والسفهاء على هذا القول كانوا المهلكين الذين سألوا موسى أن يريهم ربهم . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، قال : لما أخذت الرجفة السبعين فماتوا جميعا ، قام موسى يناشد ربه ويدعوه ، ويرغب إليه يقول : ربّ لو شئت أهلكتهم من قبل وإياي قد سفهوا أفتهلك من ورائي من بني إسرائيل بما فعل السفهاء منا ؟ أي إن هذا لهم هلاك ، قد اخترت منهم سبعين رجلاً الخير فالخير ، أرجع إليهم وليس معي رجل واحد ؟ فما الذي يصدّقونني به أو يأمنونني عليه بعد هذا ؟
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : أُتهْلِكُنا بِمَا فَعَلَ السّفَهاءُ مِنّا : أتؤاخذنا وليس منا رجل واحد ترك عبادتك ولا استبدل بك غيرك ؟
وأولى القولين بتأويل الاَية ، قول من قال : إن موسى إنما حزن على هلاك السبعين بقوله : أُتهْلِكُنا بِمَا فَعَلَ السّفَهاءُ مِنّا وأنه إنما عنى بالسفهاء : عبدة العجل وذلك أنه محال أن يكون موسى صلى الله عليه وسلم كان تخير من قومه لمسألة ربه ما أراه أن يسأل لهم إلا الأفضل فالأفضل منهم ، ومحال أن يكون الأفضل كان عنده من أشرك في عبادة العجل واتخذه دون الله إلها .
قال : فإن قال قائل : فجائز أن يكون موسى عليه السلام كان معتقدا أن الله سبحانه يعاقب قوما بذنوب غيرهم ، فيقول : أتهلكنا بذنوب من عبد العجل ، ونحن من ذلك برآء ؟ قيل : جائز أن يكون معنى الإهلاك : قبض الأرواح على غير وجه العقوبة ، كما قال جلّ ثناؤه : إنِ امْرُؤٌ هَلَكَ يعني : مات ، فيقول : أتميتنا بما فعل السفهاء منا .
وأما قوله : إنْ هِيَ إلاّ فِتْنَتُكَ فإنه يقول جلّ ثناؤه : ما هذه الفعلة التي فعلها قومي من عبادتهم ما عبدوا دونك ، إلا فتنة منك أصابتهم . ويعني بالفتنة : الابتلاء والاختبار . يقول : ابتليتهم بها ليتبين الذي يضلّ عن الحقّ بعبادته إياه والذي يهتدي بترك عبادته . وأضاف إضلالهم وهدايتهم إلى الله ، إذ كان ما كان منهم من ذلك عن سبب منه جلّ ثناؤه .
وبنحو ما قلنا في الفتنة قال جماعة من أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن أبي جعفر ، عن الربيع ، عن أبي العالية : إنْ هِيَ إلاّ فِتْنَتُكَ قال : بليتك .
قال : ثنا حبويه الرازي ، عن يعقوب ، عن جعفر بن أبي المغيرة ، عن سعيد بن جبير : إلاّ فِتْنَتُكَ : إلا بليتك .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الرحمن بن سعد ، قال : أخبرنا ابن جعفر ، عن الربيع بن أنس : إنْ هِيَ إلاّ فِتْنَتُكَ قال : بليتك .
قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية بن صالح ، عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : إنْ هِيَ إلاّ فِتْنَتُكَ تُضِلّ بِها مَنْ تَشاءُ إن هو إلا عذابك تصيب به من تشاء ، وتصرفه عمن تشاء .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : إنْ هِيَ إلاّ فِتْنَتُكَ أنت فتنتهم .
وقوله : أنْتَ وَلِيّنا يقول : أنت ناصرنا . فاغْفِرْ لَنا يقول : فاستر علينا ذنوبنا بتركك عقابنا عليها . وَارْحَمْنا : تعطّف علينا برحمتك . وأنْتَ خَيْرُ الغافِرِينَ يقول : خير من صفح عن جُرم وستر على ذنب .
وقوله تعالى : { واختار موسى قومه } الآية ، معنى هذه الآية أن موسى عليه السلام اختار من قومه هذه العدة ليذهب بهم إلى موضع عبادة وابتهال ودعاء ليكون منه ومنهم اعتذار إلى الله عز وجل من خطأ بني إسرائيل في عبادة العجل وطلب لكمال العفو عمن بقي منهم ، وروي عن علي بن أبي طالب أن اختيارهم إنما كان بسبب قول بني إسرائيل أن موسى قتل هارون حين ذهب معه ولم يرجع ، فاختار هؤلاء ليذهبوا فيكلمهم هارون بأنه مات بأجله ، وقوله : { لميقاتنا } يؤيد القول الأول وينافر هذا القول لأنها تقتضي أن ذلك كان عن توقيت من الله عز وجل وعدة في الوقت الموضع ، وتقدير الكلام : واختار موسى من قومه ، فلما انحذف الخافض تعدى الفعل فنصب ، وهذا كثير في كلام العرب .
واختلف العلماء في سبب { الرجفة } التي حلت بهم ، فقيل كانت عقوبة لهم على سكوتهم وإغضائهم على عبادة العجل ، وقيل : كانت على عبادتهم العجل بأنفسهم وخفي ذلك عن موسى في وقت الاختيار حتى أعلمه الله ، قاله السدي ، وقيل : كانت عقوبة لهم لأنهم لما دنوا وعلموا أن موسى يسمع كلام الله قالوا له : أرنا ربك فأخذتهم الرجفة ، وقيل : كانت عقوبة لتشططهم في الدعاء بأن قالوا اللهم أعطنا ما لم تعطه أحداً قبلنا ولا تعطيه أحداً بعدناً ، فأخذتهم الرجفة ، وقيل : إنما أخذتهم لما سمعوا كلام هارون وهو ميت ، وذلك أن موسى وهارون ذهبا إلى التعبد أو نحوه فمات هارون فدفنه موسى وجاء فقالت له بنو إسرائيل : أين هارون ؟ فقال : مات ، فقالوا بل أنت قتلته لأنك حسدتنا على حسن خلقه وعشرته ، فاختار السبعين ليمضوا معه حتى يروا برهان ما قال لهم ، فلما وصلوا قال له موسى : يا هارون أقتلت أم مت ؟ فناداه من القبر بل مت ، فأخذت القوم الرجفة .
قال القاضي أبو محمد : وروي أنهم ماتوا في رجفتهم هذه ، ويحتمل أن كانت كالإغماء ونحوه ، و { الرجفة } الاهتزاز والتقلقل للهول العظيم ، فلما رأى موسى ذلك أسف عليه وعلم أن أمر بني إسرائيل سيتشعب عليه إذا لم يأت بالقوم فجعل يستعطف ربه أي رب لو أهلكتهم قبل هذه الحال إياي لكان أحق عليّ ، وهذا وقت هلاكهم فيه مفسد على مؤذٍ لي ، ثم استفهم على جهة الرغبة والتضرع والتذلل ، ويحتمل قوله : { رب لو شئت أهلكتهم من قبل وإياي } أن يريد وقت إغضائهم على عبادة العجل اي وقت عبادتهم على القول بذلك وفي نفسه هو وقت قتله القبطي ، أي فأنت قد سترت وعفوت حينئذ فكيف الآن إذا رجوعي دونهم فساد لبني إسرائيل ، فمنحى الكلام على هذا محض استعطاف ، وعلى التأويل الأول منحاه الإدلاء بالحجة في صيغة استعطاف ، وإذا قلنا إن سبب «الرجفة » كان عبادة العجل كان الضمير في قوله : { اتهلكنا } له وللسبعين ، و { السفهاء } إشارة إلى العبدة من بني إسرائيل ، وكذلك إذا كان سببها قول بني إسرائيل له قتلت هارون ، وإذا كان سبب الرجفة طلبهم الرؤية وتشطههم في الدعاء أو عبادتهم بأنفسهم العجل فالضمير في قوله : { أتهلكنا } يريد به نفسه وبني إسرائيل ، أي بالتفرق والكفر والعصيان يكون هلاكهم ، ويكون قوله : { السفهاء } إشارة إلى السبعين ، وروي أن السبعين لم يكن فيهم من زاد على الأربعين ولا من قصر عن العشرين ، وروي عن علي بن أبي طالب أنهم أحيوا وجعلوا أنبياء كلهم ، وقالت فرقة : إن موسى عليه السلام لما أعلمه الله عز وجل أن السبعين عبدوا العجل تعجب وقال : { إن هي إلا فتنتك تضل بها من تشاء } أي الأمور بيدك تفعل ما تريد ، وقيل : إن الله تعالى لما أعلم موسى بعبادة بني إسرائيل العجل وبصفته قال موسى : أي رب ومن أخاره ؟ قال أنا ، قال موسى : فأنت أضللتهم إن هي إلا فتنتك ويحتمل أن يشير بها إلى قولهم : أرنا الله إذ كانت فتنة من الله أوجبت الرجفة ، وفي هذه الآية رد على المعتزلة ، و { اغفر } معناه ستر .
عطفت جملة { واختار موسى } على جملة : { واتخذ قوم موسى } [ الأعراف : 148 ] عطَف القصة على القصة : لأن هذه القصة أيضاً من مواقع الموعظة والعبرة بين العبَر المأخوذة من قصة موسى مع بني إسرائيل ، فإن في هذه عبرة بعظمة الله تعالى ورحمته ، ودعاء موسى بما فيه جُماع الخيرات والبشارة بمحمد صلى الله عليه وسلم وملاك شريعته .
والاختيار تمييز المرغوب من بين ما هو مخلوط من مرغوب وضده ، وهو زنة افتعال من الخير صيغ الفعل من غير دلالة على مطاوعة لفعل ( خار ) .
وقوله : { سبعين رجلا } بدل من { قَوْمَه } بدلَ بعض من كل ، وقيل إنما نُصب قوَمه على حذف حرف الجر ، والتقدير : اختار من قومه ، قالوا وحذْفُ الجار من المتعلق الذي هو في رتبة المفعول الثاني شائِع في ثلاثة أفعال : اختار ، واستغفر وأمر ، ومنه أمْرُتك الخير وعلى هذا يكون قوله : { سبعين } مفعولاً أول . وأيّاً مَّا كان فبناء نظم الكلام على ذكر القوم ابتداء دون الاقتصار على سبعين رجلاً اقتضاه حال الإيجاز في الحكاية ، وهو من مقاصد القرآن .
وهذا الاختيار وقع عندما أمره الله بالمجيىء للمناجاة التي تقدم ذكرها في قوله تعالى : { وواعدنا موسى ثلاثين ليلة } [ الأعراف : 142 ] الآية ، فقد جاء في التوراة في الإصحاح الرابع والعشرين من سفر الخروج : إن الله أمر موسى أن يصعد طور سينا هو وهارون و ( ناداب ) و ( أبيهو ) و ( يشوع ) وسبعون من شيوخ بني إسرائيل ويكون شيوخ بني إسرائيل في مكان معين من الجبل ويتقد موسى حتى يدخل في السحاب ليسمع كلام الله وأن الله لما تجلى للجبل ارتجف الجبل ومكث موسى أربعين يوماً . وجاء في الإصحاح الثاني والثلاثين والذي يعده ، بعدَ ذكر عبادتهم العجل وكسر الألواح ، أن الله أمر موسى بأن ينحت لوحين من حجر مثل الأولين ليكتب عليهما الكلمات العشر المكتوبة على اللوحين المنكسرين وأن يصعد إلى طور سينا وذكرتْ صفة صعود تقارب الصفة التي في الإصحاح الرابع والعشرين ، وأن الله قال لموسى من أخطأ أمحُوه من كتابي ، وأن موسى سجد لله تعالى واستغفر لقومه قلة امتثالهم وقال فإن عفرْتَ خطيئتهم وإلا فامحُني من كتابك . وجاء في الإصحاح التاسع من سفر التثنية : أن موسى لما صعد الطور في المناجاة الثانية صام أربعين يوماً وأربعين ليلة لا يأكل طعاماً ولا يشرب ماء استغفاراً لخطيئة قومه وطلباً للعفو عنهم .
فتبين مما في التوراة أن الله جعل لموسى ميقاتين للمناجاة ، وأنه اختار سبعين رجلاً للمناجاة الأولى ولم تَذْكر اختيارهم للمناجاة الثانية ، ولما كانت المناجاة الثانية كالتكملة للأولى تعيّن أن موسى استصحب معه السبعين المختارين ، ولذلك وقعت فيها الرجفة مثل المرة الأولى ، ولم يذكر القرآن أن الرجفة أخذتهم في المرة الأولى ، وإنما ذكر أن موسى خَرَّ صعقاً ، ويتعين أن يكون السبعون قد أصابهم ما أصاب موسى لأنهم كانوا في الجبل أيضاً ، وذكر الرجفة في المرة الثانية ولم تذكرها التوراة .
والضمير في أخذتهم الرجفة للسبعين . فالظاهر أن المراد في هذه الآية هو حكاية حال ميقات المناجاة الثانية التي وقع فيها الاستغفار لقومه ، وأن الرجفة المحكية هنا رجفة أخذتهم مثل الرجفة التي أخذتهم في المناجاة الأولى ، لأن الرجفة تكون من تجلي أثر عظيم من آثار الصفات الإلهية كما تقدم ، فإن قول موسى { أتهلكنا بما فعل السفهاء منا } يؤذن بأنه يعني به عبادتهم العجل ، وحضورَهم ذلك . وسكوتهم ، وهي المعنيُ بقوله : { إن هي إلا فتنتك } وقد خشي موسى أن تلك الرجفة مقدمة عذاب كما كان محمد صلى الله عليه وسلم يخشى الريح أن يكون مبدأ عذاب .
ويجوز أن يكون ذلك في المناجاة الأولى وأن قوله : { بما فعل السفهاء منا } يعني به ما صدر من بني إسرائيل من التصلب قبل المناجاة ، كقولهم { لن نصبر على طعام واحد } [ البقرة : 61 ] ، وسؤالهم رؤية الله تعالى . لكن الظاهر أن مثل ذلك لا يطلق عليه ( فَعَل ) في قوله : { بما فعل السفهاء منا } . والحاصل أن موضع العبرة في هذه القصة هو التوقي من غضب الله ، وخوف بطشه ، ومقامُ الرسل من الخشية ، ودعاء موسى ، إلخ .
وقد صيغ نظم الكلام في قوله : { فلما أخذتهم الرجفة } على نحو ما صيغ عليه قوله : { ولما رجع موسى إلى قومه غضبانَ أسفا } [ الأعراف : 150 ] كما تقدم .
والأخذ مجاز في الإصابة الشديدة المتمكنة تمكن الآخذ من المأخوذ .
و ( لو ) في قوله : { لو شئت أهلكتهم } يجوز أن تكون مستعملة في التمني وهو معنى مجازي ناشىء من معنى الامتناع الذي هو معنى ( لو ) الأصلي ومنه قول المثل ( لو ذات سوار لطمتني ) إذ تقدير الجواب . لو لطمتني لكان أهون علي ، وقد صرح بالجواب في الآية وهو { شئت أهلكتهم } أي ليتك أردت إهلاكهم أي السبعين الذين معه . فجملة أهلكتهم بدل اشتمال من جملة { شئت } من قبل خطيئة القوم التي تسبب عنها الرجوع إلى المناجاة .
وعلى هذا التقدير في ( لو ) لا يكون ، في قوله { أهلكتهم } حذف اللام التي من شأنها أن تقترن بجواب ( لو ) وإنما قال : { أهلكتهم } وإياي ولم يقل : أهلكتنا ، للتفرقة بين الإهلاكين لأن إهلاك السبعين لأجل سكوتهم على عبادة العجل ، وإهلاك موسى ، قد يكون لأجل أن لا يشهد هلاك القوم ، قال تعالى : { فلما جاء أمرنا نجينا هوداً } [ هود : 58 ] الآية ونظائرها كثيرة ، وقد خشي موسى أن الله يهلك جميع القوم بتلك الرجفة لأن سائر القوم أجدر بالإهلاك من السبعين ، وقد أشارت التوراة إلى هذا في الإصحاح « فرجع موسى إلى الله وقال إن الشعب قد أخطأ خطيئة عظيمة وصنعوا لأنفسهم آلهة فان غفرت لهم خطيئتهم وإلا فامحني من كتابك الذي كتبت . فقال الله لموسى من أخطأ إليّ أمحوه من كتابي » فالمحو من الكتاب هو محو تقدير الله له الحياةَ محوَ غضب ، وهو المحكي في الآية بقوله { لو شئت أهلكتهم من قبل وإياي أتهلكنا بما فعل السفهاء منا } وقد خشي موسى أن تكون تلك الرجفة إمارة غضب ومقدمة إهلاك عقوبة على عبادتهم العجل ، فلذلك قال { أتهلكنا بما فعل السفهاء منا } فالسفهاء هم الذين عبدوا العجل وسمي شركهم سفهاً ؛ لأنه شرك مشوب بخسة عقل إذ جعلوا صورة صنعوها بأنفسهم إلهاً لهم .
ويجوز أن يكون حرف ( لو ) مستعملاً في معناه الأصلي : من امتناع جوابه لامتناع شرطه ، فيتجه أن يتساءل عن موجب حذف اللام من جواب ( لو ) ولم يقل : لأهلكتهم مع أن الغالب في جوابها الماضي المثبت أن يقترن باللام فحذف اللام هنا لنكتة أن التلازم بين شرط لو وجوابها هنا قوي لظهور أن الإهلاك من فعل الله وحده فهو كقوله تعالى : { لو نشاء جعلناه أجاجاً } سورة الواقعة ( 70 ) وسيأتي بيانه . ويكون المعنى اعترافاً بمنة العفو عنهم فيما سبق ، وتمهيداً للتعريض بطلب العفو عنهم الآن ، وهو المقصود من قوله { أتهلكنا بما فعل السفهاء } أي أنك لم تشأ إهلاكهم حين تلبسوا بعبادة العجل فلا تهلكهم الآن .
والاستفهام في قوله : { أتهلكنا } مستعمل في التفجع أي : أخشى ذلك ، لأن القوم استحقوا العذاب ويخشى أن يشمل عذابُ الله من كان مع القوم المستحقين وإن لم يشاركهم في سبب العذاب ، كما قال : { واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة } [ الأنفال : 25 ] وفي حديث أم سلمة أنها قالت : " يا رسول الله أنهلك وفينا الصالحون قال نعم إذا كثر الخبثُ " وفي حديث آخر ، " ثم يحشرون على نياتهم " وقد خشي موسى سوء الظنة لنفسه ولأخيه وللبراء من قومه أن يُظنهم الأمم التي يبلغها خبرهم أنهم مجرمون .
وإنما جمع الضمير في قوله : { أتهلكنا } لأن هذا الإهلاك هو الإهلاك المتوقع من استمرار الرجفة ، وتوقعه واحد في زمن واحد ، بخلاف الإهلاك المتقدم ذكره فسببه مختلف فناسب توزيع مفعوله .
وجملة : { أتهلكنا } مستأنفة على طريقة تقطيع كلام الحزين الخائف السائل . وكذلك جملة : { إن هي إلا فتنتك } وجملة { أنت ولينا } .
وضمير { إن هي } راجع إلى ما فعل السفهاء لأن ما صْدقَ ما فعل السفهاء هو الفتنة ، والمعنى : ليست الفتنةُ الحاصلة بعبادة العجل إلا فتنة منك ، أي من تقديرك وخلْق أسبابِ حدوثها ، مثل سخافة عقول القوم ، وإعجابهم بأصنام الكنعانيين ، وعيبة موسى ، ولينِ هارون ، وخشيته من القوم ، وخشية شيوخ إسرائيل من عامتهم ، وغير ذلك مما يعلمه الله وأيقن موسى به إيقاناً إجمالياً .
والخبر في قوله : { إن هي إلا فتنتك } الآية : مستعمل في إنشاء التمجيد بسعة العلم والقدرة ، والتعريض بطلب استبقائهم وهدايتهم ، وليس مستعملاً في الاعتذار لقومه بقرينة قوله : { تضل بها من تشاء } الذي هو في موضع الحال من { فتنتك } فالإضلال بها حال من أحْوالها .
ثم عرَّض بطلب الهداية لهم بقوله : { وتهدي من تشاء } والمجرور في قوله { بها } متعلق بفعل { تضل } وحده ولا يتنازعه معه فعل { تهدي } لأن الفتنة لا تكون سبب هداية بقرينة تسميتها فتنة ، فمن قدر في التفسير : وتهدي بها أو نحوه ، فقد غفل .
والباء : إما للملابسة ، أي تضل من تشاء ملابساً لها ، وإما للسببية ، أي تضل بسبب تلك الفتنة ، فهي من جهة فتنة ، ومن جهة سبب ضلال .
والفتنة ما يقع به اضطراب الأحوال ، ومرجها ، وتشتت البال ، وقد مضى تفسيرها عند قوله تعالى : { وما يعلّمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة } في سورة البقرة ( 102 ) . وقوله : { وحسبوا أن لا تكون فتنة } في سورة العقود ( 71 ) وقوله : { ثم لم تكن فتنتهم إلا أن قالوا والله ربنا ما كنا مشركين } في سورة الأنعام ( 23 ) .
والقصد من جملة : { أنت ولينا } الاعتراف بالانقطاع لعبادة الله تعالى ، تمهيداً لمطلب المغفرة والرحمة ، لأن شأن الولي أن يرحم مولاه وينصره .
والولي : الذي له وَلاية على أحد ، والوَلايةِ حلف أو عتق يقتضي النصرة والإعانة ، فإن كان من جانبين متكافئين فكلا المتعاقدين يقال له مَولى ، وإن كان أحد الجانبين أقوى قيل للقوي ( ولي ) وللضعيف ( مَولى ) وإذ قد كانت الولاية غير قابلة للتعدد ، لأن المرء لا يتولى غيرَ مواليه ، كان قوله : { أنتَ ولينا } مقتضياً عدم الانتصار بغير الله . وفي صريحه صيغة قصر .
والتفريع عن الولاية في قوله : { فاغفر لنا } تفريع كلام على كلام وليس المراد أن الولي يتعين عليه الغفران .
وقدم المغفرة على الرحمة لأن المغفرة سبب لرحمات كثيرة ، فإن المغفرة تنهية لغضب الله المترتب على الذنب ، فإذا انتهى الغضب تسنى أن يخلفه الرضا . والرضا يقتضي الإحسان .
و { وخيرُ الغافرين } الذي يغفر كثيراً ، وقد تقدم قريب منه في قوله تعالى : { بل الله مولاكم وهو خير الناصرين } في سورة آل عمران ( 150 ) .
وإنما عطف جملة : { وأنت خير الغافرين } لأنه خبر في معنى طلب المغفرة العظيمة ، فعطف على الدعاء ، كانه قيل : فاغفر لنا وارحمنا واغفر لنا جميع ذنوبنا ، لأن الزيادة في المغفرة من آثار الرحمة .
و { اكتُب } مستعار لمعنى العطاء المحقَق حصوله ، المجدد مرة بعد مرة ، لأن الذي يريد تحقيقَ عقد أو عدة ، أو عطاء ، وتعلّقه بالتجدد في المستقبل يكتب به في صحيفة ، فلا يقبل النكران ، ولا النقصان ، ولا الرجوع ، وتسمى تلك الكتابة عهداً ، ومنه ما كتبوه في صحيفة القطيعة ، وما كتبوه من حلف ذي المجاز ، قال الحارث بن حلزة :
حذر الجَور والتطاخي وهل *** ينقض ما في المهارق الأهواء
ولو كان العطاء أو التعاقد لمرة واحدة لم يحتج للكتابة ، لأن الحوز أو التمكين مغن عن الكتابة ، كما قال تعالى : { إلا أن تكون تجارة حاضرة تديرونها بينكم فليس عليكم جناح أن لا تكتبوها } [ البقرة : 282 ] فالمعنى : آتنا الحسنة تلو الحسنة في أزمان حياتنا وفي يوم القيامة ، دل على هذا المعنى لفظ { اكتب } ولولاه لكان دعاء صادقاً باعطاء حسنة واحدة ، فيحتاج إلى الاستعانة على العموم بقرينة الدعاء ، فإن النكرة يراد بها العموم في سياق الدعاء كقول الحريري في المقامة الخامسة :
يا أهل ذا المغنى وُقيتم ضُرا . . . ( أي كل ضر وليس المراد وقيتم ضرا معيّنا ) .
والحسنة الحالة الحسنة ، وهي : في الدنيا المرضية للناس ، ولله تعالى ، فتجمع خير الدنيا والدين ، وفي الآخرة حالة الكمال ، وقد تقدم بيانها في تفسير قوله تعالى : { ومنهم من يقول ربنا آتنا في الدنيا حسنة } في سورة البقرة ( 201 ) .
وجملة : { إنا هدنا إليك } مسوقة مساق التعليل للطلب والاستجابة ، ولذلك فصلت ولأن موقع حرف التأكيد في أولها موقع الاهتمام ، فيفيد التعليل والربط ، ويغني غناء فاء السببية كما تقدم غير مرة .
و { هُدْنا } معناه تبنا ، يقال : هَادَ يهود إذا رجع وتاب فهو مَضموم الهاء في هذه الآية باتفاق القراءات المتواترة والمعنى تبنا مما عسى أن نكون ألممنا به من ذنب وتقصير ، وهذا إخبار عن نفسه ، وعن المختارين من قومه ، بما يعلم من صدق سرائرهم .