اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَٱخۡتَارَ مُوسَىٰ قَوۡمَهُۥ سَبۡعِينَ رَجُلٗا لِّمِيقَٰتِنَاۖ فَلَمَّآ أَخَذَتۡهُمُ ٱلرَّجۡفَةُ قَالَ رَبِّ لَوۡ شِئۡتَ أَهۡلَكۡتَهُم مِّن قَبۡلُ وَإِيَّـٰيَۖ أَتُهۡلِكُنَا بِمَا فَعَلَ ٱلسُّفَهَآءُ مِنَّآۖ إِنۡ هِيَ إِلَّا فِتۡنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَن تَشَآءُ وَتَهۡدِي مَن تَشَآءُۖ أَنتَ وَلِيُّنَا فَٱغۡفِرۡ لَنَا وَٱرۡحَمۡنَاۖ وَأَنتَ خَيۡرُ ٱلۡغَٰفِرِينَ} (155)

قوله تعالى : واخْتَارَ مُوسَى . الآية ، " اخْتَار " يتعدَّى لاثنين ، إلى أوَّلهما بنفسه ، وإلى ثانيهما بحرف الجرِّ ، ويجوزُ حذفُهُ .

تقول : اخْتَرْتُ زيداً من الرِّجالِ ثم تتسع فتحذف " من " فتقولُ " زَيْداً الرِّجَالَ " قال : [ البسيط ]

اخْتَرْتُكَ النَّاسَ إذْ رَثَّتْ خلائِقُهُمْ *** واعْقَلَّ مَنْ كَانَ يُرْجَى عندهُ السُّؤلُ{[16855]}

وقال الرَّاعي : [ الطويل ]

فَقُلْتُ لَهُ اخْتَرْهَا قَلُوصاً سَمِينَةً *** وناباً علينا مِثْلَ نَابِكَ فِي الحَيَا{[16856]}

وقال الفرزدق : [ الطويل ]

مِنَّا الذي اخْتِير الرِّجالَ سَماحَةً *** وجُوداً إذَا هَبَّ الرِّيَاحُ الزَّعازعُ{[16857]}

وهذا النوعُ مقصورٌ على السَّماعِ ، حصرهُ النحاة في ألفاظ ، وهي : " اختار " و " أمَرَ " .

كقوله : [ البسيط ]

أمَرْتُكَ الخَيْرَ فافْعَلْ مَا أمِرْتَ بِهِ *** فَقَدْ تَرَكْتُكَ ذَا مَالٍ وذَا نَشَبِ{[16858]}

و " اسْتَغْفَرَ " ، كقوله : [ البسيط ]

سْتَغْفِرُ اللَّهَ ذَنْباً لَسْتُ مُحْصِيَهُ *** رَبَّ العبادِ إليهِ الوَجْهُ والعملُ{[16859]}

و " سَمَّى " ؛ كقوله : سَمَّيْتُ ابني بِزَيْدٍ ، وإن شِئْتَ : زَيْداً ، و " دَعَا " بمعناه ؛ قال : [ الطويل ]

دَعَتْنِي أخَاهَا أم عَمْرٍو ، ولمْ أكُنْ *** أخَاهَا ولمْ أرْضَعْ لَهَا بِلَبَانِ{[16860]}

و " كَنَى " ؛ تقولُ : كَنَيْتُه بفلانٍ ، وإن شئت : فلاناً .

و " صَدَقَ " قال تعالى : { وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ الله وَعْدَهُ } [ آل عمران : 152 ] ، و " زَوَّجَ " ؛ قال تعالى : { زَوَّجْنَاكَهَا } . ولم يزد أبُو حيَّان عليها .

ومنها أيضاً : " حدَّث " و " نَبَّأ " و " أخْبَرَ " و " خَبَّرَ " إذا لم تُضُمَّنْ معنى " أعْلَمَ " .

قال تعالى : { مَنْ أَنبَأَكَ هذا } [ التحريم : 3 ] ؛ وقال : { فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ } [ مريم : 3 ] .

وتقول حدَّثْتُكَ بكذا ، وإن شئت : كذا ؛ قال : [ الطويل ]

لَئِنْ كانَ مَا حُدِّثْتُهُ اليَوْمَ صَادِقَاً *** أصُمْ في نَهَارِ القَيْظِ للشَّمْسِ بَادِيَا{[16861]}

و " قومه " مفعولٌ ثانٍ على أوَّلِهِمَا ، والتقديرُ : واختار موسى سبعين رجلاً من قومه ، ونقل أبُو البقاءِ عن بعضهم أنَّ " قَومَهُ " مفعول أول ، و " سَبْعِينَ " بدلٌ ، أي : بدل بعض من كل ، ثم قال : " وأرى أنَّ البدل جائزٌ على ضَعْفٍ ، وأنَّ التقدير : سَبْعِينَ رجلاً منهم " .

قال شهابُ الدِّين{[16862]} : إنَّما كان ممتنعاً أو ضعيفاً ؛ لأنَّ فيه حذف شيئين .

أحدهما : المختار منه ؛ فإنَّهُ لا بُدَّ للاختيار من مختارٍ ، ومختار منه ، وعلى البدل إنَّما ذُكِر المختارُ دون المختار منه .

والثاني : أنَّه لا بُدَّ من رابط بين البدل والمبدل منه ، وهو " مِنْهُمْ " كما قدره أبُو البقاء ، وأيضاً فإنَّ البدل في نيَّةِ الطَّرح .

قال ابْنُ الخطيبِ : وعندي فيه وجه آخر وهو أن يكون التقدير : واختار موسى قومه لميقاتنا ، وأراد ب " قَوْمَهُ " السبعين المعتبرين منهم ؛ إطلاقاً لاسم الجنس على ما هو المقصود منه .

وقوله سَبْعينَ رجلاً عطف بيانٍ ؛ وعلى هذا فلا حاجةَ إلى ما ذكروه من التكلُّفات .

فصل

الاختيار : افتعالٌ من لفظ الخير كالمصطفى من الصفوة .

يقال : اختار الشَّيء إذا أخذ خيره وخياره ، وأصل اختارَ : اختير ، فتحرّكت الياءُ وانفتح ما قبلها فقلبت ألفاً نحو : بَاعَ : ولذلك استوى لفظ الفاعل والمفعول فقيل فيهما مختار ، والأصل مختيِر ومختَير فقلبت الياء فيهما ألفاً .

فصل

ذكروا أنَّ مُوسَى - عليه الصَّلاة والسَّلام - اختار من قومه اثني عشر سبطاً من كل سبط ستة ؛ فصارُوا اثنين وسبعين .

فقال : ليتخلف منكم رجلان ؛ فتشاجروا .

فقال : إنَّ لمن قعد منكم أجر مَنْ خرج ، فقعد كالب ويوشع .

وروي أنَّهُ لم يجد إلاَّ ستين شيخاً ، فأوْحَى الله إليه أن يختار من الشَّبابِ عشرةً ، فاختارهم ، فأصبحوا شيوخاً فأمرهم اللَّهُ أن يصوموا ، ويتطهروا ويطهروا ثيابهم ، ثم خرج بهم إلى الميقات .

واختلفوا في هذا الاختيار هل هو الخروج إلى ميقات الكلام ، وسؤال موسى ربَّه عن الرؤيّةِ أو للخروج إلى موضع آخر ؟

فقال بعضً المُفَسِّرِينَ : إنَّهُ لميقات الكلامِ وطلب الرُّؤية .

قالوا : إنَّهُ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ خرج بهؤلاء السبعين إلى طور سيناء ، فلما دَنَا موسى من الجبل وقع عليه عمود من الغمام حتى أحاط بالجبل كله ودنا موسى ، ودخل فيه .

وقال للقوم : ادنُوا ، فدنوا فلما دخلوا الغمام وقعوا سجداً ، فسمعوه وهو يكلم موسى يأمره وينهاه ، ثم انكشف الغمام وأقبلوا إليه .

وقالوا : { يا موسى لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حتى نَرَى الله جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصاعقة } [ البقرة : 55 ] وهي الرَّجفة المذكورة ههنا .

فقال موسى : { رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِّن قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السفهاء مِنَّا } [ الأعراف : 155 ] وهو قولهم { أَرِنَا الله جَهْرَةً } [ النساء : 153 ] .

وقيل : المراد من هذا الميقات غير ميقات الكلام ، وطلب الرُّؤيةِ ، واختلفوا فيه .

فقيل : إنَّ قوم موسى لمَّا عَبَدُوا العجل ثم تَابُوا أمر الله تعالى موسى - عليه الصَّلاة والسَّلام - أن يجمع السَّبعين ويحضروا موضعاً يظهرون فيه تلك التَّوْبة ، فأوحى اللَّهُ تعالى إلى تلك الأرضِ ، فرجفت بهم فعند ذلك قال موسى : { رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِّن قَبْلُ } ، وإنَّمَا رجفت بهم الأرض لوجوه .

أولها : أنَّ هؤلاء السبعين وإن كانُوا ما عبدُوا العجل ، إلاَّ أنهم ما فارقُوا عبدة العجل عن اشتغالهم بعبادة العجل .

وثانيها : أنَّهم ما بالغُوا في النهي عن عبادة العجل .

وثالثها : أنَّهُم لمَّا خرجوا إلى الميقاتِ ليتوبوا دعوا ربهم وقالوا : اعْطِنَا ما تُعْطِه أحداً قبلنا ، ولا تعطيه أحداً بعدنا ، فأنكر اللَّهُ عليهم ذلك فأخذتهم الرجفة .

واحتجوا لهذا القول بوجوه : أحدها : أنَّهُ تعالى ذكر قصة ميقات الكلام ، وطلب الرُّؤيَةِ ثم أتبعها بذكر قصة العجل ثم أتبعها بهذه القصة ، وظاهر الحال يقتضي أن هذه القصة مغايرة للقصة المتقدمة ، ويمكن أن يكون عَوْداً إلى تتَّمةِ الكلام في القصة الأولى ، إلاَّ أنَّ الأليق بالفصاحة إتمام الكلام في القصَّةِ الواحدة في موضع واحد ، ثم الانتقال منها بعد تمامها إلى غيرها ، فأما ذكر بعض القصَّةِ ، ثم الانتقال إلى قصَّة أخرى ، ثم الانتقال منها بعد تمامها إلى بقية الكلام في القصَّة الأولى ؛ فإنَّه يوجب نوعاً من الخبط والاضطراب ، والأولى صون كلام الله عنه .

وثانيها : أن في ميقات الكلام وطلب الرؤية لم ينكر منهم إلاَّ قولهم { أَرِنَا الله جَهْرَةً } [ النساء : 153 ] فلو كانت الرجفة المذكورة ههنا إنما حصلت بسبب هذا القول لوجب أن يقال : أتهلكنا بما يقول السفهاء مِنَّا ؟ فلمَّا لم يقُلْ ذلك بل قال { أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السفهاء مِنَّا } علمنا أن هذه الرجفة إنما حصلت بإقدامهم على عبادة العجل لا على القول .

وثالثها : أن في ميقات الكلام أو الرؤية خرَّ موسى صعقاً وجعل الجبل دكّاً وأمَّا هذا الميقات فذكر تعالى أن القوم أخذتهم الرَّجفَةُ ، ولم يذكر أن موسى - عليه الصلاة والسلام - أخذته الرَّجفة ، وكيف يقال أخذته الرجفة ، وهو الذي قال : { لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِّن قَبْلُ وإياي } [ الأعراف : 155 ] وهذه الخصوصيات تدلُّ على أن هذا الميقات غير ميقات الكلام وطلب الرُّؤية .

وقيل : المراد بهذا الميقات ما رُوي عن علي - رضي الله عنه - قال : " إنَّ موسى وهارون انطلقا إلى سفح جبلٍ ؛ فنام هارون فتوفَّاهُ الله ، فلمَّا رجع موسى قالوا إنَّهُ هو الذي قتل هارون : فاختار موسى سبعين رجلاً وذهبُوا إلى هارونَ فأحياه الله وقال ما قتلني أحدٌ ، فأخذتهم الرَّجفة هناك{[16863]} .

فصل

اختلفُوا في تلك الرَّجفةِ .

فقيل : إنَّهَا رجفة أوْجَبتِ الموتَ .

قال السُّديُّ : قال موسى يا رب كيف أرجع إلى بني إسرائيل ، وقد أهلكت خيارهم ولم يبق منهم رجل واحد ؟ فما أقول لبني إسرائيل ، وكيف يأمنوني على أحدٍ منهم ؟ فأحياهم الله{[16864]} . فمعنى قوله { لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِّن قَبْلُ وإياي } أنَّ مُوسى خاف أن يتَّهِمَهُ بنو إسرائيل عن السَّبعين إذا عاد إليهم ، ولم يصدقوا أنهم ماتوا .

فقال لربه : لو شئت أهلكتنا قبل خروجنا للميقات ، فكان بنو إسرائيل يعاينون ذلك ، ولا يتهموني .

وقيل : إنَّ تلك الرَّجفة ما كانت موتاً ، ولكن القومَ لمَّا رأوا تلك الحالةَ المهيبة أخذتهم الرعدة ، ورجفوا حتى كادت تبين منهم مفاصلهم ، وخاف موسى - عليه الصَّلاة والسَّلام - الموت فعند ذلك بكى ، ودعا ؛ فكشف الله عنهم الرعدة .

قوله : " لميقاتِنَا " متعلقٌ ب " اختيارَ " أي : لأجل ميقاتنا ، ويجوز أن يكون معناها الاختصاصَ أي : اختارهم مخصصاً بهم الميقات ، كقولك : اختر لك كذا .

قوله " لَوْ شِئْتَ " مفعلوُ المشيئة محذوف ، أي : لو شئت إهلاكنا ، و " أهلكْتَهُم " جواب " لَوْ " والأكثر الإتيانُ باللاَّم في هذا النحو ولذلك لم يأتِ مجرداً منها إلاَّ هنا وفي قوله : { أَن لَّوْ نَشَاءُ أَصَبْنَاهُمْ } [ الأعراف : 100 ] وفي قوله : { لو ناء جعلناه أجاجا } [ الواقعة : 70 ] .

ومعنى من قبل أي قبل الاختيار ، وأخذ الرَّجفة .

وقوله : " وإيَّايَ " قد يتعلَّقُ به من يرى جواز انفصال الضمير مع القُدْرِةِ على اتصاله ، إذ كان يمكن أن يقال : أهلكتنا . وهو تعلُّقٌّ واهٍ جداً ، لأنَّ مقصوده صلى الله عليه وسلم التنصيص على هلاك كُلٍّ على حده تعظيماً للأمر ، وأيضاً فإنَّ موسى لَمْ يتعاط ما يقتضي إهلاكهُ ، بخلاف قومه . وإنَّما قال ذلك تسليماً منه لربِّه ، فعطف ضميرَه تنبيهاً على ذلك ، وقد تقم نظيرُ ذلك في قوله : { وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الذين أُوتُواْ الكتاب مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ } [ النساء : 131 ] وقوله : { يُخْرِجُونَ الرسول وَإِيَّاكُمْ } [ الممتحنة : 1 ] .

قوله : " أتُهْلِكُنَا " يجوزُ فيه أن يكون على بابه أي : أتَعْمُّنَا بالإهلاك أم تخصُّ به السفهاء مِنَّا ؟ ويجوز أن يكون بمعنى النَّفي ، أي : ما تُهْلك مَنْ لَمْ يُذْنِبْ بذنب غيره ، قاله ابنُ الأنباري .

قال وهو كقولك : أتهينُ من يكرمك " ؟ وعن المُبرِّدِ هو سؤالُ استعطاف ومِنَّا في محل نصب على الحال من السُّفَهَاء ويجوز أن يكون للبيان .

قوله : { إِنْ هِيَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ } .

قال الواحديُّ : الكناية في قوله هِيَ عائدة على الفِتْنَةِ كما تقولُ : إن هو إلاَّ زيد ، وإن هي إلاَّ هند ، والمعنى : إنَّ تلك الفتنة التي وقع فيها السُّفهاءُ لم تكن إلاَّ فتنتك أضللت بها قوماً فافتتنوا ، وعصمْتَ قوماً فثبتُوا على الحق . ثُمَّ أكَّد بيان أنَّ الكل من الله تعالى ، فقال : { تُضِلُّ بِهَا مَن تَشَاءُ وَتَهْدِي مَن تَشَاءُ } .

ثم قال الواحديُّ : وهذه الآية من الحُجَّج الظَّاهرة على القدريَّةِ التي لا يبقى لهم معها عذر .

قالت المعتزلةُ لا تعلق للجبريَّةِ بهذه الآية ؛ لأنه لم يقل : تضلُّ بها من تشاء عن الدين ؛ ولأنه قال تُضِلُّ بِهَا أي بالرَّجْفة ، والرَّجفة لا يضِلُّ اللَّهُ بها ؛ فوجب تأويل الآية .

فمعنى قوله : { إِنْ هِيَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ } أي : امتحانُك وشدة تعبدك ؛ لأنَّهُ لمَّا أظْهَرَ الرَّجْفَة كلَّفهم بالصَّبْرِ عليها ، وأمَّا قوله : { تُضِلُّ بِهَا مَن تَشَاءُ } ففيه وجوه : أحدها : تَهْدِي بهذا الامتحان إلى الجنَّةِ والثَّوابِ بشرط أن يؤمن ذلك المكلف ، ويبقى على الإيمان ، وتُعاقِب من تشاء بشرط ألا يؤمن ، أو إن آمن لكن لا يصبر عليه ، وثانيها : أن يكون المرادُ بالإضلال الإهلاك ، أي : تُهلك من تشاء بهذه الرَّجفة وتصرفُها عَمَّنْ تشاء ، وثالثها : أنَّهُ لمَّا كان هذا الامتحان كالسَّببِ في هداية من اهتدى ، وضلال من ضَلَّ ، جاز أن يُضافَ إليه .

فصل

واعلم أن هذه تأويلات مُتعَسَّفة ، والدلائل العقليَّة دالةٌ على أنَّ المراد ما ذكرناه ، وتقريره من وجوه :

الأول : أنَّ القدرة الصَّالحة للإيمان والكفر لا يترجحُ تأثيرها في أحد الطرفين على تأثيرها في الطَّرَف الآخر ، إلاَّ لداعية مرجحة ، وخالف تلك الداعية هو اللَّهُ تعالى ، وعند حصول الداعية يجب الفعل ، وإذا ثَبَتَتْ هذه المقدمات ثبت أنَّ الهداية والإضلال من الله تعالى .

الثاني : أنَّ العاقل لا يُريدُ إلاَّ الإيمان ، والحقَّ ، والصدقَ ، فلو كان الأمر باختياره وقصده لوجب أن يكون كلُ أحدٍ مؤمناً محقاً ، وحيثُ لم يكن الأمر كذلك ؛ ثبت أنَّ الكل من الله تعالى .

الثالث : لو كان حصولُ الهداية بفعل العبد فبما لم يتميز عنده اعتقاد الحق من اعتقاد الباطل ؛ امتنع أن يخصّ أحدُ الاعتقادين بالتَّحْصيلِ ، لكن علمه بأنَّ هذا الاعتقاد هو الحق ، وأنَّ الآخر هو الباطل ، يقتضي كونه عالماً بذلك المعتقد أولاً كما هو عليه ، فلزمَ أن تكون القدرة على تحصيل الاعتقاد هو الأول ، وأنَّ الآخر مشروطاً بكون ذلك الاعتقاد حاصلاً وذلك يقتضي كون الشَّيء مَشْرُوطاً بنفسه ، وهو محالٌ ، فامتنع أن يكون حصولُ الهداية بتحصيل العبد ، وأمَّا إبطال تأويلاتهم ، فقد تقدَّم مراراً .

قوله تُضِلُّ بِهَا يجوزُ فيها وجهان : أحدهما : أن تكون مستأنفةً فلا مَحَلَّ لها ، والثاني أن تكون حالاً من فِتْنَتُكَ أي : حال كونها مُضلاًّ بها ، ويجوزُ أن تكون حالاً من الكاف ؛ لأنَّهَا مرفوعةٌ تقديراً بالفاعليَّةِ ، ومنعه أبُو البقاءِ قال : " لعدم العامل فيها " وقد قدم البحث معه مراراً .

قوله : " أنْتَ وَلينَا " يفيد الحَصْرَ ، أي : لا ولي لنا ، ولا ناصر ، ولا هادي إلاَّ أنت ، وهذا من تمام ما تقدَّم من قوله : { تُضِلُّ بِهَا مَن تَشَاءُ وَتَهْدِي مَن تَشَاءُ } .

وقوله : { فاغفر لَنَا وارحمنا } المُرادُ منه : أنَّ إقدامه على قوله : { إِنْ هِيَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ } جراءة عظيمة ، فطلب من الله غفرانها والتَّجاوز عنها .

وقوله : { وَأَنتَ خَيْرُ الغافرين } أي : أنَّ كلَّ مَنْ سواك فإنَّمَا يتجاوزُ عن الذَّنب إمَّا طلباً للثناء الجميل ، أو للثَّواب الجزيل ، أو دفعاً للرقة الخسيسة عن القلب ، أمَّا أنت فتغفر ذنوب عبادك لا لطلب غرض وعوض ، بل لمحض الفضل والكرم .

قوله : { واكتب لنا في هذه الدنيا حسنة وفي الآخرة } الكتابة تذكر بمعنى الإيجاب . ولمَّا قرَّرَ أنَّه لا ولي له إلاَّ الله ، والمتوقع من الولي والنَّاصر أمران : أحدهما : دفع الضَّرر والثاني : تحصيل النَّفع ، ودفع الضَّرر مقدم على تحصيل النَّفع ؛ فلهذا السَّبَبِ بدأ بطلب دفعِ الضَّررِ وهو قوله : { فاغفر لَنَا } [ الأعراف : 155 ]


[16855]:البيت للراعي النميري ينظر التهذيب 13/67، الطبري 13/146، اللسان (سول) البحر 4/397، الدر المصون 3/351.
[16856]:ينظر: تفسير الطبري 13/146، معاني الفراء 1/395، الدر المصون 3/351.
[16857]:ينظر: ديوانه 1/418، والكتاب 1/39، والمقتضب 4/331، والأشباه والنظائر 2/331، وخزانة الأدب 9/313، 5/115، 123، 124، والدرر 2/291 وشرح أبيات سيبويه 1/424 وشرح شواهد المغني 1/12 ولسان العرب "خير" وشرح المفصل 8/51، وهمع الهوامع 1/162 والدر المصون 3/351.
[16858]:تقدم.
[16859]:تقدم.
[16860]:تقدم.
[16861]:تقدم.
[16862]:ينظر: الدر المصون 3/351-352.
[16863]:أخرجه الطبري في تفسيره 6/74 وذكره السيوطي في الدر المنثور (3/237) وزاد نسبته لابن أبي الدنيا في كتاب من عاش بعد الموت وعبد بن حميد وابن أبي حاتم وأبي الشيخ عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
[16864]:أخرجه الطبري في تفسيره 6/73.