قوله تعالى : واخْتَارَ مُوسَى . الآية ، " اخْتَار " يتعدَّى لاثنين ، إلى أوَّلهما بنفسه ، وإلى ثانيهما بحرف الجرِّ ، ويجوزُ حذفُهُ .
تقول : اخْتَرْتُ زيداً من الرِّجالِ ثم تتسع فتحذف " من " فتقولُ " زَيْداً الرِّجَالَ " قال : [ البسيط ]
اخْتَرْتُكَ النَّاسَ إذْ رَثَّتْ خلائِقُهُمْ *** واعْقَلَّ مَنْ كَانَ يُرْجَى عندهُ السُّؤلُ{[16855]}
فَقُلْتُ لَهُ اخْتَرْهَا قَلُوصاً سَمِينَةً *** وناباً علينا مِثْلَ نَابِكَ فِي الحَيَا{[16856]}
مِنَّا الذي اخْتِير الرِّجالَ سَماحَةً *** وجُوداً إذَا هَبَّ الرِّيَاحُ الزَّعازعُ{[16857]}
وهذا النوعُ مقصورٌ على السَّماعِ ، حصرهُ النحاة في ألفاظ ، وهي : " اختار " و " أمَرَ " .
أمَرْتُكَ الخَيْرَ فافْعَلْ مَا أمِرْتَ بِهِ *** فَقَدْ تَرَكْتُكَ ذَا مَالٍ وذَا نَشَبِ{[16858]}
و " اسْتَغْفَرَ " ، كقوله : [ البسيط ]
سْتَغْفِرُ اللَّهَ ذَنْباً لَسْتُ مُحْصِيَهُ *** رَبَّ العبادِ إليهِ الوَجْهُ والعملُ{[16859]}
و " سَمَّى " ؛ كقوله : سَمَّيْتُ ابني بِزَيْدٍ ، وإن شِئْتَ : زَيْداً ، و " دَعَا " بمعناه ؛ قال : [ الطويل ]
دَعَتْنِي أخَاهَا أم عَمْرٍو ، ولمْ أكُنْ *** أخَاهَا ولمْ أرْضَعْ لَهَا بِلَبَانِ{[16860]}
و " كَنَى " ؛ تقولُ : كَنَيْتُه بفلانٍ ، وإن شئت : فلاناً .
و " صَدَقَ " قال تعالى : { وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ الله وَعْدَهُ } [ آل عمران : 152 ] ، و " زَوَّجَ " ؛ قال تعالى : { زَوَّجْنَاكَهَا } . ولم يزد أبُو حيَّان عليها .
ومنها أيضاً : " حدَّث " و " نَبَّأ " و " أخْبَرَ " و " خَبَّرَ " إذا لم تُضُمَّنْ معنى " أعْلَمَ " .
قال تعالى : { مَنْ أَنبَأَكَ هذا } [ التحريم : 3 ] ؛ وقال : { فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ } [ مريم : 3 ] .
وتقول حدَّثْتُكَ بكذا ، وإن شئت : كذا ؛ قال : [ الطويل ]
لَئِنْ كانَ مَا حُدِّثْتُهُ اليَوْمَ صَادِقَاً *** أصُمْ في نَهَارِ القَيْظِ للشَّمْسِ بَادِيَا{[16861]}
و " قومه " مفعولٌ ثانٍ على أوَّلِهِمَا ، والتقديرُ : واختار موسى سبعين رجلاً من قومه ، ونقل أبُو البقاءِ عن بعضهم أنَّ " قَومَهُ " مفعول أول ، و " سَبْعِينَ " بدلٌ ، أي : بدل بعض من كل ، ثم قال : " وأرى أنَّ البدل جائزٌ على ضَعْفٍ ، وأنَّ التقدير : سَبْعِينَ رجلاً منهم " .
قال شهابُ الدِّين{[16862]} : إنَّما كان ممتنعاً أو ضعيفاً ؛ لأنَّ فيه حذف شيئين .
أحدهما : المختار منه ؛ فإنَّهُ لا بُدَّ للاختيار من مختارٍ ، ومختار منه ، وعلى البدل إنَّما ذُكِر المختارُ دون المختار منه .
والثاني : أنَّه لا بُدَّ من رابط بين البدل والمبدل منه ، وهو " مِنْهُمْ " كما قدره أبُو البقاء ، وأيضاً فإنَّ البدل في نيَّةِ الطَّرح .
قال ابْنُ الخطيبِ : وعندي فيه وجه آخر وهو أن يكون التقدير : واختار موسى قومه لميقاتنا ، وأراد ب " قَوْمَهُ " السبعين المعتبرين منهم ؛ إطلاقاً لاسم الجنس على ما هو المقصود منه .
وقوله سَبْعينَ رجلاً عطف بيانٍ ؛ وعلى هذا فلا حاجةَ إلى ما ذكروه من التكلُّفات .
الاختيار : افتعالٌ من لفظ الخير كالمصطفى من الصفوة .
يقال : اختار الشَّيء إذا أخذ خيره وخياره ، وأصل اختارَ : اختير ، فتحرّكت الياءُ وانفتح ما قبلها فقلبت ألفاً نحو : بَاعَ : ولذلك استوى لفظ الفاعل والمفعول فقيل فيهما مختار ، والأصل مختيِر ومختَير فقلبت الياء فيهما ألفاً .
ذكروا أنَّ مُوسَى - عليه الصَّلاة والسَّلام - اختار من قومه اثني عشر سبطاً من كل سبط ستة ؛ فصارُوا اثنين وسبعين .
فقال : ليتخلف منكم رجلان ؛ فتشاجروا .
فقال : إنَّ لمن قعد منكم أجر مَنْ خرج ، فقعد كالب ويوشع .
وروي أنَّهُ لم يجد إلاَّ ستين شيخاً ، فأوْحَى الله إليه أن يختار من الشَّبابِ عشرةً ، فاختارهم ، فأصبحوا شيوخاً فأمرهم اللَّهُ أن يصوموا ، ويتطهروا ويطهروا ثيابهم ، ثم خرج بهم إلى الميقات .
واختلفوا في هذا الاختيار هل هو الخروج إلى ميقات الكلام ، وسؤال موسى ربَّه عن الرؤيّةِ أو للخروج إلى موضع آخر ؟
فقال بعضً المُفَسِّرِينَ : إنَّهُ لميقات الكلامِ وطلب الرُّؤية .
قالوا : إنَّهُ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ خرج بهؤلاء السبعين إلى طور سيناء ، فلما دَنَا موسى من الجبل وقع عليه عمود من الغمام حتى أحاط بالجبل كله ودنا موسى ، ودخل فيه .
وقال للقوم : ادنُوا ، فدنوا فلما دخلوا الغمام وقعوا سجداً ، فسمعوه وهو يكلم موسى يأمره وينهاه ، ثم انكشف الغمام وأقبلوا إليه .
وقالوا : { يا موسى لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حتى نَرَى الله جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصاعقة } [ البقرة : 55 ] وهي الرَّجفة المذكورة ههنا .
فقال موسى : { رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِّن قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السفهاء مِنَّا } [ الأعراف : 155 ] وهو قولهم { أَرِنَا الله جَهْرَةً } [ النساء : 153 ] .
وقيل : المراد من هذا الميقات غير ميقات الكلام ، وطلب الرُّؤيةِ ، واختلفوا فيه .
فقيل : إنَّ قوم موسى لمَّا عَبَدُوا العجل ثم تَابُوا أمر الله تعالى موسى - عليه الصَّلاة والسَّلام - أن يجمع السَّبعين ويحضروا موضعاً يظهرون فيه تلك التَّوْبة ، فأوحى اللَّهُ تعالى إلى تلك الأرضِ ، فرجفت بهم فعند ذلك قال موسى : { رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِّن قَبْلُ } ، وإنَّمَا رجفت بهم الأرض لوجوه .
أولها : أنَّ هؤلاء السبعين وإن كانُوا ما عبدُوا العجل ، إلاَّ أنهم ما فارقُوا عبدة العجل عن اشتغالهم بعبادة العجل .
وثانيها : أنَّهم ما بالغُوا في النهي عن عبادة العجل .
وثالثها : أنَّهُم لمَّا خرجوا إلى الميقاتِ ليتوبوا دعوا ربهم وقالوا : اعْطِنَا ما تُعْطِه أحداً قبلنا ، ولا تعطيه أحداً بعدنا ، فأنكر اللَّهُ عليهم ذلك فأخذتهم الرجفة .
واحتجوا لهذا القول بوجوه : أحدها : أنَّهُ تعالى ذكر قصة ميقات الكلام ، وطلب الرُّؤيَةِ ثم أتبعها بذكر قصة العجل ثم أتبعها بهذه القصة ، وظاهر الحال يقتضي أن هذه القصة مغايرة للقصة المتقدمة ، ويمكن أن يكون عَوْداً إلى تتَّمةِ الكلام في القصة الأولى ، إلاَّ أنَّ الأليق بالفصاحة إتمام الكلام في القصَّةِ الواحدة في موضع واحد ، ثم الانتقال منها بعد تمامها إلى غيرها ، فأما ذكر بعض القصَّةِ ، ثم الانتقال إلى قصَّة أخرى ، ثم الانتقال منها بعد تمامها إلى بقية الكلام في القصَّة الأولى ؛ فإنَّه يوجب نوعاً من الخبط والاضطراب ، والأولى صون كلام الله عنه .
وثانيها : أن في ميقات الكلام وطلب الرؤية لم ينكر منهم إلاَّ قولهم { أَرِنَا الله جَهْرَةً } [ النساء : 153 ] فلو كانت الرجفة المذكورة ههنا إنما حصلت بسبب هذا القول لوجب أن يقال : أتهلكنا بما يقول السفهاء مِنَّا ؟ فلمَّا لم يقُلْ ذلك بل قال { أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السفهاء مِنَّا } علمنا أن هذه الرجفة إنما حصلت بإقدامهم على عبادة العجل لا على القول .
وثالثها : أن في ميقات الكلام أو الرؤية خرَّ موسى صعقاً وجعل الجبل دكّاً وأمَّا هذا الميقات فذكر تعالى أن القوم أخذتهم الرَّجفَةُ ، ولم يذكر أن موسى - عليه الصلاة والسلام - أخذته الرَّجفة ، وكيف يقال أخذته الرجفة ، وهو الذي قال : { لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِّن قَبْلُ وإياي } [ الأعراف : 155 ] وهذه الخصوصيات تدلُّ على أن هذا الميقات غير ميقات الكلام وطلب الرُّؤية .
وقيل : المراد بهذا الميقات ما رُوي عن علي - رضي الله عنه - قال : " إنَّ موسى وهارون انطلقا إلى سفح جبلٍ ؛ فنام هارون فتوفَّاهُ الله ، فلمَّا رجع موسى قالوا إنَّهُ هو الذي قتل هارون : فاختار موسى سبعين رجلاً وذهبُوا إلى هارونَ فأحياه الله وقال ما قتلني أحدٌ ، فأخذتهم الرَّجفة هناك{[16863]} .
فقيل : إنَّهَا رجفة أوْجَبتِ الموتَ .
قال السُّديُّ : قال موسى يا رب كيف أرجع إلى بني إسرائيل ، وقد أهلكت خيارهم ولم يبق منهم رجل واحد ؟ فما أقول لبني إسرائيل ، وكيف يأمنوني على أحدٍ منهم ؟ فأحياهم الله{[16864]} . فمعنى قوله { لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِّن قَبْلُ وإياي } أنَّ مُوسى خاف أن يتَّهِمَهُ بنو إسرائيل عن السَّبعين إذا عاد إليهم ، ولم يصدقوا أنهم ماتوا .
فقال لربه : لو شئت أهلكتنا قبل خروجنا للميقات ، فكان بنو إسرائيل يعاينون ذلك ، ولا يتهموني .
وقيل : إنَّ تلك الرَّجفة ما كانت موتاً ، ولكن القومَ لمَّا رأوا تلك الحالةَ المهيبة أخذتهم الرعدة ، ورجفوا حتى كادت تبين منهم مفاصلهم ، وخاف موسى - عليه الصَّلاة والسَّلام - الموت فعند ذلك بكى ، ودعا ؛ فكشف الله عنهم الرعدة .
قوله : " لميقاتِنَا " متعلقٌ ب " اختيارَ " أي : لأجل ميقاتنا ، ويجوز أن يكون معناها الاختصاصَ أي : اختارهم مخصصاً بهم الميقات ، كقولك : اختر لك كذا .
قوله " لَوْ شِئْتَ " مفعلوُ المشيئة محذوف ، أي : لو شئت إهلاكنا ، و " أهلكْتَهُم " جواب " لَوْ " والأكثر الإتيانُ باللاَّم في هذا النحو ولذلك لم يأتِ مجرداً منها إلاَّ هنا وفي قوله : { أَن لَّوْ نَشَاءُ أَصَبْنَاهُمْ } [ الأعراف : 100 ] وفي قوله : { لو ناء جعلناه أجاجا } [ الواقعة : 70 ] .
ومعنى من قبل أي قبل الاختيار ، وأخذ الرَّجفة .
وقوله : " وإيَّايَ " قد يتعلَّقُ به من يرى جواز انفصال الضمير مع القُدْرِةِ على اتصاله ، إذ كان يمكن أن يقال : أهلكتنا . وهو تعلُّقٌّ واهٍ جداً ، لأنَّ مقصوده صلى الله عليه وسلم التنصيص على هلاك كُلٍّ على حده تعظيماً للأمر ، وأيضاً فإنَّ موسى لَمْ يتعاط ما يقتضي إهلاكهُ ، بخلاف قومه . وإنَّما قال ذلك تسليماً منه لربِّه ، فعطف ضميرَه تنبيهاً على ذلك ، وقد تقم نظيرُ ذلك في قوله : { وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الذين أُوتُواْ الكتاب مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ } [ النساء : 131 ] وقوله : { يُخْرِجُونَ الرسول وَإِيَّاكُمْ } [ الممتحنة : 1 ] .
قوله : " أتُهْلِكُنَا " يجوزُ فيه أن يكون على بابه أي : أتَعْمُّنَا بالإهلاك أم تخصُّ به السفهاء مِنَّا ؟ ويجوز أن يكون بمعنى النَّفي ، أي : ما تُهْلك مَنْ لَمْ يُذْنِبْ بذنب غيره ، قاله ابنُ الأنباري .
قال وهو كقولك : أتهينُ من يكرمك " ؟ وعن المُبرِّدِ هو سؤالُ استعطاف ومِنَّا في محل نصب على الحال من السُّفَهَاء ويجوز أن يكون للبيان .
قوله : { إِنْ هِيَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ } .
قال الواحديُّ : الكناية في قوله هِيَ عائدة على الفِتْنَةِ كما تقولُ : إن هو إلاَّ زيد ، وإن هي إلاَّ هند ، والمعنى : إنَّ تلك الفتنة التي وقع فيها السُّفهاءُ لم تكن إلاَّ فتنتك أضللت بها قوماً فافتتنوا ، وعصمْتَ قوماً فثبتُوا على الحق . ثُمَّ أكَّد بيان أنَّ الكل من الله تعالى ، فقال : { تُضِلُّ بِهَا مَن تَشَاءُ وَتَهْدِي مَن تَشَاءُ } .
ثم قال الواحديُّ : وهذه الآية من الحُجَّج الظَّاهرة على القدريَّةِ التي لا يبقى لهم معها عذر .
قالت المعتزلةُ لا تعلق للجبريَّةِ بهذه الآية ؛ لأنه لم يقل : تضلُّ بها من تشاء عن الدين ؛ ولأنه قال تُضِلُّ بِهَا أي بالرَّجْفة ، والرَّجفة لا يضِلُّ اللَّهُ بها ؛ فوجب تأويل الآية .
فمعنى قوله : { إِنْ هِيَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ } أي : امتحانُك وشدة تعبدك ؛ لأنَّهُ لمَّا أظْهَرَ الرَّجْفَة كلَّفهم بالصَّبْرِ عليها ، وأمَّا قوله : { تُضِلُّ بِهَا مَن تَشَاءُ } ففيه وجوه : أحدها : تَهْدِي بهذا الامتحان إلى الجنَّةِ والثَّوابِ بشرط أن يؤمن ذلك المكلف ، ويبقى على الإيمان ، وتُعاقِب من تشاء بشرط ألا يؤمن ، أو إن آمن لكن لا يصبر عليه ، وثانيها : أن يكون المرادُ بالإضلال الإهلاك ، أي : تُهلك من تشاء بهذه الرَّجفة وتصرفُها عَمَّنْ تشاء ، وثالثها : أنَّهُ لمَّا كان هذا الامتحان كالسَّببِ في هداية من اهتدى ، وضلال من ضَلَّ ، جاز أن يُضافَ إليه .
واعلم أن هذه تأويلات مُتعَسَّفة ، والدلائل العقليَّة دالةٌ على أنَّ المراد ما ذكرناه ، وتقريره من وجوه :
الأول : أنَّ القدرة الصَّالحة للإيمان والكفر لا يترجحُ تأثيرها في أحد الطرفين على تأثيرها في الطَّرَف الآخر ، إلاَّ لداعية مرجحة ، وخالف تلك الداعية هو اللَّهُ تعالى ، وعند حصول الداعية يجب الفعل ، وإذا ثَبَتَتْ هذه المقدمات ثبت أنَّ الهداية والإضلال من الله تعالى .
الثاني : أنَّ العاقل لا يُريدُ إلاَّ الإيمان ، والحقَّ ، والصدقَ ، فلو كان الأمر باختياره وقصده لوجب أن يكون كلُ أحدٍ مؤمناً محقاً ، وحيثُ لم يكن الأمر كذلك ؛ ثبت أنَّ الكل من الله تعالى .
الثالث : لو كان حصولُ الهداية بفعل العبد فبما لم يتميز عنده اعتقاد الحق من اعتقاد الباطل ؛ امتنع أن يخصّ أحدُ الاعتقادين بالتَّحْصيلِ ، لكن علمه بأنَّ هذا الاعتقاد هو الحق ، وأنَّ الآخر هو الباطل ، يقتضي كونه عالماً بذلك المعتقد أولاً كما هو عليه ، فلزمَ أن تكون القدرة على تحصيل الاعتقاد هو الأول ، وأنَّ الآخر مشروطاً بكون ذلك الاعتقاد حاصلاً وذلك يقتضي كون الشَّيء مَشْرُوطاً بنفسه ، وهو محالٌ ، فامتنع أن يكون حصولُ الهداية بتحصيل العبد ، وأمَّا إبطال تأويلاتهم ، فقد تقدَّم مراراً .
قوله تُضِلُّ بِهَا يجوزُ فيها وجهان : أحدهما : أن تكون مستأنفةً فلا مَحَلَّ لها ، والثاني أن تكون حالاً من فِتْنَتُكَ أي : حال كونها مُضلاًّ بها ، ويجوزُ أن تكون حالاً من الكاف ؛ لأنَّهَا مرفوعةٌ تقديراً بالفاعليَّةِ ، ومنعه أبُو البقاءِ قال : " لعدم العامل فيها " وقد قدم البحث معه مراراً .
قوله : " أنْتَ وَلينَا " يفيد الحَصْرَ ، أي : لا ولي لنا ، ولا ناصر ، ولا هادي إلاَّ أنت ، وهذا من تمام ما تقدَّم من قوله : { تُضِلُّ بِهَا مَن تَشَاءُ وَتَهْدِي مَن تَشَاءُ } .
وقوله : { فاغفر لَنَا وارحمنا } المُرادُ منه : أنَّ إقدامه على قوله : { إِنْ هِيَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ } جراءة عظيمة ، فطلب من الله غفرانها والتَّجاوز عنها .
وقوله : { وَأَنتَ خَيْرُ الغافرين } أي : أنَّ كلَّ مَنْ سواك فإنَّمَا يتجاوزُ عن الذَّنب إمَّا طلباً للثناء الجميل ، أو للثَّواب الجزيل ، أو دفعاً للرقة الخسيسة عن القلب ، أمَّا أنت فتغفر ذنوب عبادك لا لطلب غرض وعوض ، بل لمحض الفضل والكرم .
قوله : { واكتب لنا في هذه الدنيا حسنة وفي الآخرة } الكتابة تذكر بمعنى الإيجاب . ولمَّا قرَّرَ أنَّه لا ولي له إلاَّ الله ، والمتوقع من الولي والنَّاصر أمران : أحدهما : دفع الضَّرر والثاني : تحصيل النَّفع ، ودفع الضَّرر مقدم على تحصيل النَّفع ؛ فلهذا السَّبَبِ بدأ بطلب دفعِ الضَّررِ وهو قوله : { فاغفر لَنَا } [ الأعراف : 155 ]