إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود - أبو السعود  
{وَٱخۡتَارَ مُوسَىٰ قَوۡمَهُۥ سَبۡعِينَ رَجُلٗا لِّمِيقَٰتِنَاۖ فَلَمَّآ أَخَذَتۡهُمُ ٱلرَّجۡفَةُ قَالَ رَبِّ لَوۡ شِئۡتَ أَهۡلَكۡتَهُم مِّن قَبۡلُ وَإِيَّـٰيَۖ أَتُهۡلِكُنَا بِمَا فَعَلَ ٱلسُّفَهَآءُ مِنَّآۖ إِنۡ هِيَ إِلَّا فِتۡنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَن تَشَآءُ وَتَهۡدِي مَن تَشَآءُۖ أَنتَ وَلِيُّنَا فَٱغۡفِرۡ لَنَا وَٱرۡحَمۡنَاۖ وَأَنتَ خَيۡرُ ٱلۡغَٰفِرِينَ} (155)

{ واختار موسى قَوْمَهُ } شروعٌ في بيان كيفية استدعاءِ التوبةِ وكيفية وقوعِها ، واختار يتعدّى إلى اثنين ثانيهما مجرورٌ بمن أي اختار من قومه بحذف الجارّ والمجرور وإيصالِ الفعل إلى المجرور كما في قوله : [ البسيط ]

اختارك الناسَ إذْ رثَّتْ خلائِقُهم *** واعتلّ مَنْ كان يُرجَى عنده السُّولُ{[300]}

أي اختارك من الناس { سَبْعِينَ رَجُلاً } مفعولٌ لاختار أُخِّر عن الثاني لما مر مراراً من الاعتناء بالمقدم والتشويقِ إلى المؤخر { لميقاتنا } الذي وقتناه بعد ما وقع من قومه ما وقع لا لميقاتِ الكلام الذي ذكر قبل ذلك كما قيل . قال السدي : أمره الله تعالى بأن يأتيَه في ناس من بني إسرائيلَ يعتذرون إليه من عبادة العجلِ ووعدهم موعداً فاختار عليه السلام من قومه سبعين رجلاً . وقال محمد بن إسحَاقَ : اختارهم ليتوبوا إليه تعالى مما صنعوه ويسألوه التوبةَ على مَنْ تركوهم وراءهم من قومهم ، قالوا : اختار عليه الصلاة والسلام من كل سِبطٍ ستةً فزاد اثنانِ فقال : ليتخَلَّفْ منكم رجلان فتشاحّوا فقال عليه الصلاة والسلام : إن لمن قعد مثلَ أجرِ من خرج فقعد كالبُ ويوشَعُ وذهب من الباقين وأمرهم أن يصوموا ويتطهروا ويُطهِّروا ثيابهم فخرج بهم إلى طور سَيْنا{[301]} فلما دنَوا من الجبل غشِيَه غمامٌ فدخل موسى بهم الغمامَ وخرّوا سُجّداً فسمِعوه تعالى يكلم موسى يأمرُه وينهاه حسبما يشاءُ وهو الأمرُ بقتل أنفسِهم توبةً { فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرجفة } مما اجترأوا عليه من طلب الرؤيةِ فإنه يروى أنه لما انكشف الغمامُ أقبلوا إلى موسى عليه السلام وقالوا : لن نؤمنَ لك حتى نرى الله جهرةً فأخذتهم الرجفةُ أي الصاعقةُ أو رجفةُ الجبل فصُعِقوا منها أي ماتوا ولعلهم أرادوا بقولهم : لن نؤمنَ لك ، لن نصدِّقك في أن الآمِرَ بما سمعنا الأمرَ بقتل أنفسِهم هو الله تعالى حتى نراه حيث قاسوا رؤيتَه تعالى على سماع كلامِه قياساً فاسداً فحين شاهد موسى تلك الحالةَ الهائلة .

{ قَالَ رَبّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُم مّن قَبْلُ } أي حين فرّطوا في النهي عن عبادة العجلِ وما فارقوا عبَدَتَه حين شاهدوا إصرارَهم عليها { وإياي } أيضاً حين طلبتُ منك الرؤيةَ أي لو شئتَ إهلاكَنا بذنوبنا لأهلكتَنا حينئذ ، أراد به عليه السلام تذكيرَ العفوِ السابقِ لاستجلاب العفوِ اللاحقِ فإن الاعترافَ بالذنب والشكرَ على النعمة مما يربِط العتيدَ ويستجلب المزيد ، يعني إنا كنا مستحقين للإهلاك ولم يكن من موانعه إلا عدمُ مشيئتِك إياه فحيث لطَفْتَ بنا وعفوتَ عنا تلك الجرائمَ فلا غروَ في أن تعفوَ عنا هذه الجريمةَ أيضاً ، وحملُ الكلام على التمني يأباه قوله تعالى : { أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السفهاء مِنَّا } أي الذين لا يعلمون تفاصيلَ شؤونِك ولا يتثبتون في المداحض ، والهمزةُ إما لإنكار وقوعِ الإهلاكِ ثقةً بلطف الله عز وجل كما قاله ابن الأنباري أو للاستعطاف كما قاله المبرد أي لا تهلكنا { إِنْ هي إِلاَّ فِتْنَتُكَ } استئنافٌ مقررٌ لما قبله واعتذارٌ عما صنعوا ببيان منشأ غلطِهم أي ما الفتنةُ التي وقع فيها السفهاءُ وقالوا بسببها ما قالوا من العظيمة إلا فتنتُك أي محنتُك وابتلاؤك حيث أسمعتهم كلامَك فافتتنوا بذلك ولم يتثبتوا فطمِعوا فيما فوق ذلك تابعين للقياس الفاسد وقوله تعالى : { تُضِلُّ بِهَا مَن تَشَاء وَتَهْدِى مَن تَشَاء } إما استئنافٌ مبينٌ لحُكم الفتنةِ أو حالٌ من فتنتك أي حالَ كونِها مضِلاًّ بها الخ ، أي تُضل بسببها من تشاء إضلالَه فلا يهتدي إلى التثبت وتهدي من تشاء هِدايتَه إلى الحق فلا يتزلزل في أمثالها فيقوى بها إيمانُه { أَنتَ وَلِيُّنَا } أي القائمُ بأمورنا الدنيويةِ والأخرويةِ وناصرُنا وحافظُنا لا غيرُك { فاغفر لَنَا } ما قارفناه من المعاصي والفاءُ لترتيب الدعاءِ على ما قبله من الولاية كأنه قيل : فمن شأن الوليِّ المغفرةُ والرحمةُ ، وقيل : إن إقدامَه عليه الصلاة والسلام على أن يقول : إن هي إلا فتنتُك الخ ، جراءةٌ عظيمةٌ فطلب من الله تعالى غفرانها والتجاوزَ عنها { وارحمنا } بإفاضةِ آثارِ الرحمةِ الدنيويةِ والأخروية علينا { وَأَنتَ خَيْرُ الغافرين } اعتراضٌ تذييليٌّ مقررٌ لما قبله من الدعاء ، وتخصيصُ المغفرةِ بالذكر لأنها الأهمُّ بحسب المقام .


[300]:البيت للراعي النميري في لسان العرب (سول) وتفسير القرطبي 7/294.
[301]:يروى بكسر السين وفتحها.