السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{وَٱخۡتَارَ مُوسَىٰ قَوۡمَهُۥ سَبۡعِينَ رَجُلٗا لِّمِيقَٰتِنَاۖ فَلَمَّآ أَخَذَتۡهُمُ ٱلرَّجۡفَةُ قَالَ رَبِّ لَوۡ شِئۡتَ أَهۡلَكۡتَهُم مِّن قَبۡلُ وَإِيَّـٰيَۖ أَتُهۡلِكُنَا بِمَا فَعَلَ ٱلسُّفَهَآءُ مِنَّآۖ إِنۡ هِيَ إِلَّا فِتۡنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَن تَشَآءُ وَتَهۡدِي مَن تَشَآءُۖ أَنتَ وَلِيُّنَا فَٱغۡفِرۡ لَنَا وَٱرۡحَمۡنَاۖ وَأَنتَ خَيۡرُ ٱلۡغَٰفِرِينَ} (155)

{ واختار موسى قومه } أي : من قومه فحذف الجارّ وأوصل الفعل إليه فنصب يقال اخترت من الرجال زيداً ، واخترت الرجال زيداً ، وأنشدوا قول الفرزدق :

ومنا الذي اختير الرجال سماحة *** وجوداً إذا هب الرياح الزعازع

قال أبو علي : والأصل في هذا الباب أنّ في الأفعال ما يتعدّى إلى المفعول الثاني بحرف الجرّ ثم يتسع فيحذف حرف الجرّ فيتعدّى إلى المفعول الثاني من ذلك قولك : اخترت من الرجال زيداً ثم يتسع فيقال : اخترت الرجال زيداً ، وأستغفر الله من ذنبي وأستغفر الله ذنبي قال الشاعر :

أستغفر الله ذنباً لست محصيه *** . . .

ويقال أمرت زيداً بالخير وأمرت زيداً الخير قال الشاعر :

أمرتك الخير فافعل ما أمرت به *** . . .

قال الرازي : وعندي فيه وجه آخر وهو أن يكون التقدير : واختار موسى قومه لميقاتنا وأراد بقومه المعتبرين منهم إطلاقاً لاسم الخير على ما هو المقصود منه وقوله : { سبعين رجلاً لميقاتنا } عطف بيان وعلى هذا الوجه فلا حاجة إلى ما ذكر من التكلفات { فلما أخذتهم الرجفة } .

روي أنّ الله تعالى أمره أن يأتيه في سبعين رجلاً من بني إسرائيل فاختار من كل سبط ستة فزاد اثنان فقال : ليتخلف منكم رجلان ، فتشاحوا فقال : لمن قعد أجر من خرج ، فقعد كالب ويوشع وذهب معه الباقون .

روي أنه لم يصب إلا ستين شيخاً فأوحى الله تعالى إليه أن يختار من الشبان عشرة فاختارهم فأصبحوا شيوخاً ، وقيل : كانوا أبناء ما عدا العشرين ولم يتجاوزوا الأربعين قد ذهب عنهم الجهل والصبا فأمرهم موسى عليه السلام أن يصوموا ويتطهروا ويطهروا ثيابهم ثم خرج إلى طور سينا لميقات ربه وكان أمره أن يأتيه في سبعين من بني إسرائيل فلما دنا موسى من الجبل وقع عليه عمود من الغمام حتى غشي الجبل كله ودنا موسى فدخل فيه وقال للقوم : ادنوا وكان موسى عليه السلام إذا كلمه ربه وقع على جبهته نور ساطع لا يستطيع أحد من بني آدم أن ينظر إليه فضرب دونه الحجاب ودنا القوم حتى دخلوا في الغمام ووقعوا سجداً فسمعوه يكلم موسى يأمره وينهاه وافعل لا تفعل فلما فرغ من أمره ونهيه وانكشف عن موسى الغمام فأقبل إليهم فقالوا : له لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة فأخذتهم الصاعقة وهي الرجفة فماتوا جميعاً فقام موسى يناشد ربه ويدعوه { قال رب لو شئت أهلكتهم من قبل } أي : من قبل خروجهم إلى الميقات { وإياي } معهم فكان بنو إسرائيل يعاينون ذلك ولا يتهموني إذا رجعت إليهم وما هم معي وعنى بذلك : أنك قدرت على إهلاكهم قبل ذلك بحمل فرعون على إهلاكهم وبإغراقهم في البحر وغيرهما فترحمت عليهم بالإنقاذ منهما فإن ترحمت عليهم مرّة أخرى لم يبعد من عميم إحسانك ، وقال وهب : لم تكن تلك الرجفة موتاً ولكن القوم لما رأوا تلك الهيبة أخذتهم الرجفة حتى كادت أن تبين منهم مفاصلهم فلما رأى موسى ذلك رحمهم وخاف عليهم الموت واشتدّ عليه فقدهم وكانوا له وزراء على الخير سامعين مطيعين فعند ذلك دعا وبكا وناشد ربه فكشف الله تعالى عنهم تلك الرجفة واطمأنوا وسمعوا كلام ربهم وذلك قوله تعالى : { قال } أي : موسى { رب لو شئت أهلكتهم من قبل } أي : من قبل عبادة العجل وإياي بقتلي القبطي { أتهلكنا بما فعل السفهاء منا } أي : عبدة العجل وظنّ موسى أنهم عوقبوا باتخاذ بني إسرائيل العجل وقال هذا على طريق السؤال ، وقال المبرد : هو استفهام استعطاف أي : لا تهلكنا وقد علم موسى عليه السلام أنّ الله تعالى أعظم من أن يأخذ بجريرة الجاني غيره ، وقيل : بما فعل السفهاء من العناد والتجاسر على طلب الرؤية وكان ذلك قاله بعضهم { إن هي } أي : ما هي { إلا فتنتك } قال الواحدي : الكناية في هي تعود إلى الفتنة كما تقول : إن هو إلا زيد ، والمعنى : أنّ تلك الفتنة التي وقع فيها السفهاء لم تكن إلا فتنتك أي : اختبارك وابتلاؤك وهذا تأكيد لقوله تعالى : { أتهلكنا بما فعل السفهاء منا } لأنّ معناه لا تهلكنا بفعلهم فإنّ تلك الفتنة كانت اختباراً منك وابتلاء أضللت بها قوماً فافتتنوا بأن أوجدت في العجل خواراً فزاغوا به وأسمعتهم كلامك حتى طمعوا في الرؤية هديت قوماً فعصمتهم حتى ثبتوا على دينك فذلك معنى قوله : { تضل بها من تشاء وتهدي من تشاء } ولما أثبت أنّ الكل بيده تعالى استأنف سؤاله في أن يفعل لهم الأصلح فقال : { أنت } أي : وحدك { ولينا } نعتقد أن لا يقدر على عمل مصالحنا غيرك وأنت لا نفع لك في شيء من الأمرين ولا ضر بل الكل بالنسبة إليك على حد سواء ونحن على بصيرة من أنّ أفعالك لا تعلل بالأغراض وعفوك عنا ينفعنا وانتقامك منا يضرّنا ونحن في حضرتك قد انقطعنا إليك وحططنا رحال افتقارنا لديك { فاغفر لنا } أي : امح ذنوبنا { وارحمنا } أي : اشملنا برحمتك التي وسعت كل شيء { وأنت خير الغافرين } أي : لأنّ غيرك يتجاوز عن الذنب طلباً للثناء أو للثواب أو دفعاً للصفة الخسيسة وهي صفة الحقد ونحوه وأنت منزه عن ذلك فتغفر السيئة وتبدلها حسنة .