المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية  
{وَٱخۡتَارَ مُوسَىٰ قَوۡمَهُۥ سَبۡعِينَ رَجُلٗا لِّمِيقَٰتِنَاۖ فَلَمَّآ أَخَذَتۡهُمُ ٱلرَّجۡفَةُ قَالَ رَبِّ لَوۡ شِئۡتَ أَهۡلَكۡتَهُم مِّن قَبۡلُ وَإِيَّـٰيَۖ أَتُهۡلِكُنَا بِمَا فَعَلَ ٱلسُّفَهَآءُ مِنَّآۖ إِنۡ هِيَ إِلَّا فِتۡنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَن تَشَآءُ وَتَهۡدِي مَن تَشَآءُۖ أَنتَ وَلِيُّنَا فَٱغۡفِرۡ لَنَا وَٱرۡحَمۡنَاۖ وَأَنتَ خَيۡرُ ٱلۡغَٰفِرِينَ} (155)

وقوله تعالى : { واختار موسى قومه } الآية ، معنى هذه الآية أن موسى عليه السلام اختار من قومه هذه العدة ليذهب بهم إلى موضع عبادة وابتهال ودعاء ليكون منه ومنهم اعتذار إلى الله عز وجل من خطأ بني إسرائيل في عبادة العجل وطلب لكمال العفو عمن بقي منهم ، وروي عن علي بن أبي طالب أن اختيارهم إنما كان بسبب قول بني إسرائيل أن موسى قتل هارون حين ذهب معه ولم يرجع ، فاختار هؤلاء ليذهبوا فيكلمهم هارون بأنه مات بأجله ، وقوله : { لميقاتنا } يؤيد القول الأول وينافر هذا القول لأنها تقتضي أن ذلك كان عن توقيت من الله عز وجل وعدة في الوقت الموضع ، وتقدير الكلام : واختار موسى من قومه ، فلما انحذف الخافض تعدى الفعل فنصب ، وهذا كثير في كلام العرب .

واختلف العلماء في سبب { الرجفة } التي حلت بهم ، فقيل كانت عقوبة لهم على سكوتهم وإغضائهم على عبادة العجل ، وقيل : كانت على عبادتهم العجل بأنفسهم وخفي ذلك عن موسى في وقت الاختيار حتى أعلمه الله ، قاله السدي ، وقيل : كانت عقوبة لهم لأنهم لما دنوا وعلموا أن موسى يسمع كلام الله قالوا له : أرنا ربك فأخذتهم الرجفة ، وقيل : كانت عقوبة لتشططهم في الدعاء بأن قالوا اللهم أعطنا ما لم تعطه أحداً قبلنا ولا تعطيه أحداً بعدناً ، فأخذتهم الرجفة ، وقيل : إنما أخذتهم لما سمعوا كلام هارون وهو ميت ، وذلك أن موسى وهارون ذهبا إلى التعبد أو نحوه فمات هارون فدفنه موسى وجاء فقالت له بنو إسرائيل : أين هارون ؟ فقال : مات ، فقالوا بل أنت قتلته لأنك حسدتنا على حسن خلقه وعشرته ، فاختار السبعين ليمضوا معه حتى يروا برهان ما قال لهم ، فلما وصلوا قال له موسى : يا هارون أقتلت أم مت ؟ فناداه من القبر بل مت ، فأخذت القوم الرجفة .

قال القاضي أبو محمد : وروي أنهم ماتوا في رجفتهم هذه ، ويحتمل أن كانت كالإغماء ونحوه ، و { الرجفة } الاهتزاز والتقلقل للهول العظيم ، فلما رأى موسى ذلك أسف عليه وعلم أن أمر بني إسرائيل سيتشعب عليه إذا لم يأت بالقوم فجعل يستعطف ربه أي رب لو أهلكتهم قبل هذه الحال إياي لكان أحق عليّ ، وهذا وقت هلاكهم فيه مفسد على مؤذٍ لي ، ثم استفهم على جهة الرغبة والتضرع والتذلل ، ويحتمل قوله : { رب لو شئت أهلكتهم من قبل وإياي } أن يريد وقت إغضائهم على عبادة العجل اي وقت عبادتهم على القول بذلك وفي نفسه هو وقت قتله القبطي ، أي فأنت قد سترت وعفوت حينئذ فكيف الآن إذا رجوعي دونهم فساد لبني إسرائيل ، فمنحى الكلام على هذا محض استعطاف ، وعلى التأويل الأول منحاه الإدلاء بالحجة في صيغة استعطاف ، وإذا قلنا إن سبب «الرجفة » كان عبادة العجل كان الضمير في قوله : { اتهلكنا } له وللسبعين ، و { السفهاء } إشارة إلى العبدة من بني إسرائيل ، وكذلك إذا كان سببها قول بني إسرائيل له قتلت هارون ، وإذا كان سبب الرجفة طلبهم الرؤية وتشطههم في الدعاء أو عبادتهم بأنفسهم العجل فالضمير في قوله : { أتهلكنا } يريد به نفسه وبني إسرائيل ، أي بالتفرق والكفر والعصيان يكون هلاكهم ، ويكون قوله : { السفهاء } إشارة إلى السبعين ، وروي أن السبعين لم يكن فيهم من زاد على الأربعين ولا من قصر عن العشرين ، وروي عن علي بن أبي طالب أنهم أحيوا وجعلوا أنبياء كلهم ، وقالت فرقة : إن موسى عليه السلام لما أعلمه الله عز وجل أن السبعين عبدوا العجل تعجب وقال : { إن هي إلا فتنتك تضل بها من تشاء } أي الأمور بيدك تفعل ما تريد ، وقيل : إن الله تعالى لما أعلم موسى بعبادة بني إسرائيل العجل وبصفته قال موسى : أي رب ومن أخاره ؟ قال أنا ، قال موسى : فأنت أضللتهم إن هي إلا فتنتك ويحتمل أن يشير بها إلى قولهم : أرنا الله إذ كانت فتنة من الله أوجبت الرجفة ، وفي هذه الآية رد على المعتزلة ، و { اغفر } معناه ستر .