في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب  
{وَٱخۡتَارَ مُوسَىٰ قَوۡمَهُۥ سَبۡعِينَ رَجُلٗا لِّمِيقَٰتِنَاۖ فَلَمَّآ أَخَذَتۡهُمُ ٱلرَّجۡفَةُ قَالَ رَبِّ لَوۡ شِئۡتَ أَهۡلَكۡتَهُم مِّن قَبۡلُ وَإِيَّـٰيَۖ أَتُهۡلِكُنَا بِمَا فَعَلَ ٱلسُّفَهَآءُ مِنَّآۖ إِنۡ هِيَ إِلَّا فِتۡنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَن تَشَآءُ وَتَهۡدِي مَن تَشَآءُۖ أَنتَ وَلِيُّنَا فَٱغۡفِرۡ لَنَا وَٱرۡحَمۡنَاۖ وَأَنتَ خَيۡرُ ٱلۡغَٰفِرِينَ} (155)

138

ويمضي السياق بالقصة ، فإذا نحن أمام مشهد جديد . المشهد الثاني عشر . مشهد موسى وسبعين من قومه مختارين للقاء ربه :

( واختار موسى قومه سبعين رجلاً لميقاتنا . فلما أخذتهم الرجفة قال : رب لو شئت أهلكتهم من قبل وإياي . أتهلكنا بما فعل السفهاء منا ؟ إن هي إلا فتنتك تضل بها من تشاء وتهدي من تشاء . أنت ولينا فاغفر لنا وارحمنا ، وأنت خير الغافرين . واكتب لنا في هذه الدنيا حسنة وفي الآخرة ، إنا هدنا إليك . قال : عذابي أصيب به من أشاء ، ورحمتي وسعت كل شيء ، فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة والذين هم بآياتنا يؤمنون . الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل ، يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ، ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ، ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم . فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون ) . .

وتختلف الروايات في سبب هذا الميقات . وربما كان لإعلان التوبة ، وطلب المغفرة لبني إسرائيل مما وقعوا فيه من الكفر والخطيئة - وفي سورة البقرة أن التكفير الذي فرض على بني إسرائيل هو : أن يقتلوا أنفسهم ، فيقتل المطيع منهم من عصى ؛ وقد فعلوا حتى أذن لهم الله بالكف عن ذلك ؛ وقبل كفارتهم - وهؤلاء السبعون كانوا من شيوخهم ومن خيرتهم . أو كانوا هم خلاصتهم التي تمثلهم ، فصيغة العبارة : ( واختار موسى قومه سبعين رجلاً . . لميقاتنا ) . تجعلهم بدلاً من القوم جميعاً في الاختيار . .

ومع هذا فما الذي كان من هؤلاء المختارين ؟ لقد أخذتهم الرجفة فصعقوا . ذلك أنهم - كما ورد في السورة الأخرى طلبوا إلى موسى أن يروا الله جهرة ، ليصدقوه فيما جاءهم به من الفرائض في الألواح . . وهي شاهدة بطبيعة بني إسرائيل ، التي تشمل خيارهم وشرارهم ، ولا يتفاوتون فيها إلا بمقدار . وأعجب شيء أن يقولوها وهم في مقام التوبة والاستغفار !

فأما موسى - عليه السلام - فقد توجه الى ربه ، يتوسل اليه ، ويطلب المغفرة والرحمة ، ويعلن الخضوع والاعتراف بالقدرة :

( فلما أخذتهم الرجفة قال : رب لو شئت أهلكتهم من قبل وإياي ) . .

فهو التسليم المطلق للقدرة المطلقة من قبل ومن بعد ، يقدمه موسى بين يدي دعائه لربه أن يكشف عن القوم غضبه ؛ وأن يرد عنهم فتنته ، وألا يهلكهم بفعلة السفهاء منهم :

( أتهلكنا بما فعل السفهاء منا ؟ ) . .

وقد جاء الرجاء بصيغة الاستفهام . زيادة في طلب استبعاد الهلاك . . أي : رب إنه لمستبعد على رحمتك أن تهلكنا بما فعل السفهاء منا .

( إن هي إلا فتنتك تضل بها من تشاء وتهدي من تشاء ) . .

يعلن موسى - عليه السلام - إدراكه لطبيعة ما يقع ؛ ومعرفته أنها الفتنة والابتلاء ؛ فما هو بغافل عن مشيئة ربه وفعله كالغافلين ! . وهذا هو الشأن في كل فتنة : أن يهدي الله بها من يدركون طبيعتها ويأخذونها على أنها ابتلاء من ربهم وامتحان يجتازونه صاحين عارفين . وأن يضل بها من لا يدركون هذه الحقيقة ومن يمرون بها غافلين ، ويخرجون منها ضالين . . وموسى - عليه السلام - يقرر هذا الأصل تمهيداً لطلب العون من الله على اجتياز الابتلاء :

( أنت ولينا ) . .

فامنحنا عونك ومددك لاجتياز فتنتك ، ونيل مغفرتك ورحمتك :

( فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الغافرين ) . .