معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{۞وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعۡبُدُوٓاْ إِلَّآ إِيَّاهُ وَبِٱلۡوَٰلِدَيۡنِ إِحۡسَٰنًاۚ إِمَّا يَبۡلُغَنَّ عِندَكَ ٱلۡكِبَرَ أَحَدُهُمَآ أَوۡ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُل لَّهُمَآ أُفّٖ وَلَا تَنۡهَرۡهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوۡلٗا كَرِيمٗا} (23)

قوله عز وجل : { وقضى ربك } ، وأمر ربك ، قاله ابن عباس وقتادة والحسن . قال الربيع بن أنس : وأوجب ربك . قال مجاهد : وأوصى ربك . وحكى عن الضحاك بن مزاحم أنه قرأها ووصى ربك . وقال : إنهم ألصقوا الواو بالصاد فصارت قافاً . { أن لا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا } أي : وأمر بالوالدين إحساناً براً بهما وعطفاً عليهما . { إما يبلغن عندك الكبر } ، قرأ حمزة و الكسائي بالألف على التثنية فعلى هذا قوله : { أحدهما أو كلاهما } ، كلام مستأنف ، كقوله تعالى { ثم عموا وصموا كثير منهم } [ المائدة – 71 ] وقوله { وأسروا النجوى الذين ظلموا } ، وقوله : { الذين ظلموا } ابتداء وقرأ الباقون { يبلغن } على التوحيد . { فلا تقل لهما أف } ، فيه ثلاث لغات ، قرأ ابن كثير و ابن عامر ، و يعقوب : بفتح الفاء ، وقرأ أبو جعفر ، ونافع ، وحفص بالكسر والتنوين والباقون بكسر الفاء غير منون ، ومعناها واحد وهي كلمة كراهية . قال أبو عبيدة : أصل التف والأف الوسخ على الأصابع إذا فتلتها . وقيل : الأف : ما يكون في المغابن من الوسخ ، والتف : ما يكون في الأصابع . وقيل : الأف : وسخ الأذن والتف وسخ الأظافر . وقيل : الأف : وسخ الظفر ، والتف : ما رفعته بيدك من الأرض من شيء حقير . { ولا تنهرهما } ، ولا تزجرهما . { وقل لهما قولاً كريماً } ، حسناً جميلاً ليناً ، قال ابن المسيب : كقول العبد المذنب للسيد الفظ . وقال مجاهد : لا تسميهما ، ولا تكنهما ، وقل : يا أبتاه يا أماه . وقال مجاهد : في هذه الآية أيضاً : إذا بلغا عندك من الكبر ما يبولان فلا تتقذرهما ، ولا تقل لهما أف حين تميط عنهما الخلاء والبول كما كانا يميطانه عنك صغيراً .

 
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{۞وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعۡبُدُوٓاْ إِلَّآ إِيَّاهُ وَبِٱلۡوَٰلِدَيۡنِ إِحۡسَٰنًاۚ إِمَّا يَبۡلُغَنَّ عِندَكَ ٱلۡكِبَرَ أَحَدُهُمَآ أَوۡ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُل لَّهُمَآ أُفّٖ وَلَا تَنۡهَرۡهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوۡلٗا كَرِيمٗا} (23)

{ 23-24 } { وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا }

لما نهى تعالى عن الشرك به أمر بالتوحيد فقال : { وَقَضَى رَبُّكَ } قضاء دينيا وأمر أمرا شرعيا { أَنْ لَا تَعْبُدُوا } أحدا من أهل الأرض والسماوات الأحياء والأموات .

{ إِلَّا إِيَّاهُ } لأنه الواحد الأحد الفرد الصمد الذي له كل صفة كمال ، وله من تلك الصفة أعظمها على وجه لا يشبهه أحد من خلقه ، وهو المنعم بالنعم الظاهرة والباطنة الدافع لجميع النقم الخالق الرازق المدبر لجميع الأمور فهو المتفرد بذلك كله وغيره ليس له من ذلك شيء .

ثم ذكر بعد حقه القيام بحق الوالدين فقال : { وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا } أي : أحسنوا إليهما بجميع وجوه الإحسان القولي والفعلي لأنهما سبب وجود العبد ولهما من المحبة للولد والإحسان إليه والقرب ما يقتضي تأكد الحق ووجوب البر .

{ إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا } أي : إذا وصلا إلى هذا السن الذي تضعف فيه قواهما ويحتاجان من اللطف والإحسان ما هو معروف . { فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ } وهذا أدنى مراتب الأذى نبه به على ما سواه ، والمعنى لا تؤذهما أدنى أذية .

{ وَلَا تَنْهَرْهُمَا } أي : تزجرهما وتتكلم لهما كلاما خشنا ، { وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا } بلفظ يحبانه وتأدب وتلطف بكلام لين حسن يلذ على قلوبهما وتطمئن به نفوسهما ، وذلك يختلف باختلاف الأحوال والعوائد والأزمان .

 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{۞وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعۡبُدُوٓاْ إِلَّآ إِيَّاهُ وَبِٱلۡوَٰلِدَيۡنِ إِحۡسَٰنًاۚ إِمَّا يَبۡلُغَنَّ عِندَكَ ٱلۡكِبَرَ أَحَدُهُمَآ أَوۡ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُل لَّهُمَآ أُفّٖ وَلَا تَنۡهَرۡهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوۡلٗا كَرِيمٗا} (23)

القول في تأويل قوله تعالى { وَقَضَىَ رَبّكَ أَلاّ تَعْبُدُوَاْ إِلاّ إِيّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً إِمّا يَبْلُغَنّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لّهُمَآ أُفّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لّهُمَا قَوْلاً كَرِيماً } .

يعني بذلك تعالى ذكره حكم ربك يا محمد بأمره إياكم ألا تعبدوا إلا الله ، فإنه لا ينبغي أن يعبد غيره .

وقد اختلفت ألفاظ أهل التأويل في تأويل قوله وَقَضَى رَبّكَ وإن كان معنى جميعهم في ذلك واحدا . ذكر ما قالوا في ذلك :

حدثني عليّ بن داود ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس وَقَضَى رَبّكَ ألاّ تَعْبُدُوا إلاّ إيّاه يقول : أمر .

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا الحكم بن بشير ، قال : حدثنا زكريا بن سلام ، قال : جاء رجل إلى الحسن ، فقال : إنه طلق امرأته ثلاثا ، فقال : إنك عصيتَ ربك ، وبانت منك امرأتك ، فقال الرجل : قضى الله ذلك عليّ ، قال الحسن ، وكان فصيحا : ما قضى الله : أي ما أمر الله ، وقرأ هذه الاَية وَقَضَى رَبّكَ ألاّ تَعْبُدُوا إلاّ إيّاهُ فقال الناس : تكلم الحسن في القدر .

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله وَقَضَى رَبّكَ ألاّ تَعْبُدُوا إلاّ إيّاهُ : أي أمر ربك في ألا تعبدوا إلا إياه ، فهذا قضاء الله العاجل ، وكان يُقال في بعض الحكمة : من أرضى والديه : أرض خالقه ، ومن أسخط والديه ، فقد أسخط ربه .

حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة وَوَقَضَى رَبّكَ ألاّ تَعْبُدوا إلاّ إيّاهُ قال : أمر ألا تعبدوا إلا إياه ، وفي حرف ابن مسعود : «وَصّى رَبّكَ ألاّ تَعْبُدُوا إلاّ إيّاهُ » .

حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا يحيى بن عيسى ، قال : حدثنا نصير بن أبي الأشعث ، قال : ثني ابن حبيب بن أبي ثابت ، عن أبيه ، قال : أعطاني ابن عباس مصحفا ، فقال : هذا على قراءة أبيّ بن كعب ، قال أبو كريب : قال يحيى : رأيت المصحف عند نصير فيه : «وَوَصّى رَبّكَ » يعني : وقضى ربك .

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد وَقَضَى رَبّكَ ألاّ تَعْبُدُوا إلاّ إيّاهُ قال : وأوصى ربك .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله وَقَضَى رَبّكَ ألاّ تَعْبُدُوا إلاّ إيّاهُ قال : أمر ألا تعبدوا إلا إياه .

حدثني الحرث ، قال : حدثنا القاسم ، قال : حدثنا هشيم ، عن أبي إسحاق الكوفي ، عن الضحاك بن مزاحم ، أنه قرأها : «وَوَصّى رَبّكَ » وقال : إنهم ألصقوا الواو بالصاد فصارت قافا .

وقوله : وَبالوَالِدَيْنِ إحْسانا يقول : وأمركم بالوالدين إحسانا أن تحسنوا إليهما وتبرّوهما . ومعنى الكلام : وأمركم أن تحسنوا إلى الوالدين فلما حذفت «أن » تعلق القضاء بالإحسان ، كما يقال في الكلام : آمرك به خيرا ، وأوصيك به خيرا ، بمعنى : آمرك أن تفعل به خيرا ، ثم تحذف «أن » فيتعلق الأمر والوصية بالخير ، كما قال الشاعر :

عَجِبْتُ مِنْ دَهْماءَ إذْ تَشْكُونا *** ومِنْ أبي دَهْماءَ إذْ يُوصِينا

*** خَيْرا بها كأننا جافُونا ***

وعمل يوصينا في الخير .

واختلفت القرّاء في قراءة قوله إمّا يَبْلُغَنّ عِنْدَكَ الكِبَرَ أحَدُهُما أوْ كِلاهُما فقرأ ذلك عامة قرّاء أهل المدينة والبصرة ، وبعض قرّاء الكوفيين : إمّا يَبْلُغَنّ على التوحيد على توجيه ذلك إلى أحدهما لأن أحدهما واحد ، فوحدوا يَبْلُغَنّ لتوحيده ، وجعلوا قوله أوْ كِلاهُما معطوفا على الأحد . وقرأ ذلك عامة قرّاء الكوفيين : «إما يَبْلُغانّ » على التثنية وكسر النون وتشديدها ، وقالوا : قد ذكر الوالدان قبل ، وقوله : «يَبْلُغانّ » خبر عنهما بعد ما قدّم أسماءهما . قالوا : والفعل إذا جاء بعد الاسم كان الكلام أن يكون فيه دليل على أنه خبر عن اثنين أو جماعة . قالوا : والدليل على أنه خبر عن اثنين في الفعل المستقبل الألف والنون . قالوا : وقوله أحَدُهُما أوْ كِلاهُما كلام مستأنف ، كما قيل : فَعَمُوا وَصَمّوا ثم تَاب اللّهُ عَلَيْهِمْ ، ثم عَمُوا وَصَمّوا كَثِيرٌ منهُمْ وكقوله وأسَرّوا النّجْوَى ثم ابتدأ فقال الّذِينَ ظَلَمُوا .

وأولى القراءتين بالصواب عندي في ذلك ، قراءة من قرأه إما يَبْلُغَنّ على التوحيد على أنه خبر عن أحدهما ، لأن الخبر عن الأمر بالإحسان في الوالدين ، قد تناهى عند قوله وَبالوَالِدَيْنِ إحْسانا ثم ابتدأ قوله إمّا يَبْلُغَنّ عِنْدَكَ الكِبَرَ أحَدُهُما أوْ كِلاهُما .

وقوله : فَلا تَقُلْ لَهُما أُفَ يقول : فلا تؤفف من شيء تراه من أحدهما أو منهما مما يتأذّى به الناس ، ولكن اصبر على ذلك منهما ، واحتسب في الأجر صبرك عليه منهما ، كما صبرا عليك في صغرك . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :

حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا محمد بن محبب ، قال : حدثنا سفيان ، عن ليث ، عن مجاهد ، في قوله : فَلا تَقُلْ لَهُما أُفّ وَلا تَنْهَرْهُما قال : إن بلغا عندك من الكبر ما يبولان ويخرآن ، فلا تقل لهما أفّ تقذّرهما .

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد : إما يَبْلُغانّ عِندك الكبر فلا تَقُل لهما أف حين ترى الأذى ، وتميط عنهما الخلاء والبول ، كما كانا يميطانه عنك صغيرا ، ولا تؤذهما .

وقد اختلف أهل المعرفة بكلام العرب في معنى «أفّ » ، فقال بعضهم : معناه : كلّ ما غلظ من الكلام وقبُح . وقال آخرون : الأفّ : وسخ الأظفار والتف كلّ ما رفعت بيدك من الأرض من شيء حقير . وللعرب في «أُفّ » لغات ستّ رفعها بالتنوين وغير التنوين وخفضها كذلك ونصبها فمن خفض ذلك بالتنوين ، وهي قراءة عامة أهل المدينة . شبهها بالأصوات التي لا معنى لها ، كقولهم في حكاية الصوت غاق غاق ، فخفضوا القاف ونوّنوها ، وكان حكمها السكون ، فإنه لا شيء يعربها من أجل مجيئها بعد حرف ساكن وهو الألف ، فكرهوا أن يجمعوا بين ساكنين ، فحرّكوا إلى أقرب الحركات من السكون ، وذلك الكسر ، لأن المجزوم إذا حرّك ، فإنما يحرّك إلى الكسر . وأما الذين خفضوا بغير تنوين ، وهي قراءة عامة قرّاء الكوفيين والبصريين ، فإنهم قالوا : إنما يدخلون التنوين فيما جاء من الأصوات ناقصا ، كالذي يأتي على حرفين مثل : مَه وصَه وبَخ ، فيتمم بالتنوين لنقصانه عن أبنيه الأسماء . قالوا : وأفّ تامّ لا حاجة بنا إلى تتمته بغيره ، لأنه قد جاء على ثلاثة أحرف . قالوا : وإنما كسرنا الفاء الثانية لئلا نجمع بين ساكنين . وأما من ضمّ ونوّن ، فإنه قال : هو اسم كسائر الأسماء التي تُعرب وليس بصوت ، وعدل به عن الأصوات . وأما من ضمّ ذلك بغير تنوين ، فإنه قال : ليس هو باسم متمكن فيُعرب بإعراب الأسماء المتمكنة ، وقالوا : نضمه كما نضمّ قوله لِلّهِ الأمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ ، وكما نضمّ الاسم في النداء المفرد ، فنقول : يا زيد . ومن نصبه بغير تنوين ، وهو قراءة بعض المكيين وأهل الشام فإنه شبهه بقولهم : مدّ يا هذا وردّ . ومن نصب بالتنوين ، فإنه أعمل الفعل فيه ، وجعله اسما صحيحا ، فيقول : ما قلت له : أفا ولا تفا . وكان بعض نحويي البصرة يقول : قُرِئت : أفّ ، وأفا لغة جعلوها مثل نعتها . وقرأ بعضهم «أُفّ » ، وذلك أن بعض العرب يقول : «أفّ لك » على الحكاية : أي لا تقل لهما هذا القول . قال : والرفع قبيح ، لأنه لم يجيء بعده بلام ، والذين قالوا : «أُفّ » فكسروا كثير ، وهو أجود . وكسر بعضهم ونوّن . وقال بعضهم : «أُفّي » ، كأنه أضاف هذا القول إلى نفسه ، فقال : أُفّي هذا لكما ، والمكسور من هذا منوّن وغير منوّن على أنه اسم غير متمكن ، نحو أمس وما أشبهه ، والمفتوح بغير تنوين كذلك . وقال بعض أهل العربية : كل هذه الحركات الستّ تدخل في «أفّ » حكاية تشبه بالاسم مرّة وبالصوت أخرى . قال : وأكثر ما تُكسر الأصوات بالتنوين إذا كانت على حرفين مثل صه ومه وبخ . وإذا كانت على ثلاثة أحرف شبهت بالأدوات «أفّ » مثل : ليت ومَدّ ، وأُفّ مثل مُدّ يُشبه بالأدوات . وإذا قال أَفّ مثل صَهّ . وقالوا سمعت مِضّ يا هذا ومِضّ . وحُكي عن الكسائي أنه قال : سمعت «ما علمك أهلك إلا مِضّ ومِضّ » ، وهذا كأفّ وأفّ . ومن قال : «أُفّا » جعله مثل سُحْقا وبُعدا .

والذي هو أولى بالصحة عندي في قراءة ذلك ، قراءة من قرأه : «فلا تَقُلْ لَهُما أُفّ » بكسر الفاء بغير تنوين لعلّتين إحداهما : أنها أشهر اللغات فيها وأفصحها عند العرب والثانية : أن حظّ كلّ ما لم يكن له معرَب من الكلام السكون فلما كان ذلك كذلك . وكانت الفاء في أفّ حظها الوقوف ، ثم لم يكن إلى ذلك سبيل لاجتماع الساكنين فيه ، وكان حكم الساكن إذا حُرّك أن يحرّك إلى الكسر حرّكت إلى الكسر ، كما قيل : مُدّ وشُدّ ورُدّ الباب .

وقوله : وَلا تَنْهَرْهُما يقول جلّ ثناؤه : ولا تزجُرهما . كما :

حدثنا محمد بن إسماعيل الأحمَسي ، قال : حدثنا محمد بن عبيد ، قال : حدثنا واصل الرّقاشَيّ ، عن عطاء ابن أبي رَباح ، في قوله : وَلا تَقُلْ لَهُما أُفَ وَلا تَنْهَرْهُما قال : لا تنفض يدك على والديك . يقال منه : نَهرَه يَنهره نَهْرا ، وانتهره ينتهره انتهارا .

وأما قوله : وَقُلْ لَهُما قَوْلاً كَرِيما فإنه يقول جلّ ثناؤه : وقل لهما قولاً جميلاً حسنا . كما :

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج وَقُلْ لَهُما قَوْلاً كَرِيما قال : أحسن ما تجد من القول .

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا المتعمر بن سليمان ، عن عبد الله بن المختار ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عمر بن الخطاب قَوْلاً كَرِيما قالا : لا تمتنع من شيء يريدانه .

قال أبو جعفر : وهذا الحديث خطأ ، أعني حديث هشام بن عُروة ، إنما هو عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، ليس فيه عمر ، حدّث عن ابن عُلية وغيره ، عن عبد الله بن المختار .

حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة وَقُلْ لَهُما قَوْلاً كَرِيما : أي قولاً ليّنا سهلاً .

حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، مثله .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : ثني حَرْملة بن عمران ، عن أبي الهَدّاج التّجِيبي ، قال : قلت لسعيد بن المسيب : كلّ ما ذكر الله عزّ وجلّ في القرآن من برّ الوالدين ، فقد عرفته ، إلاّ قوله وَقُلْ لَهُما قَوْلاً كَرِيما ما هذا القول الكريم ؟ فقال ابن المسيب : قول العبد المذنب للسيد الفظّ .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{۞وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعۡبُدُوٓاْ إِلَّآ إِيَّاهُ وَبِٱلۡوَٰلِدَيۡنِ إِحۡسَٰنًاۚ إِمَّا يَبۡلُغَنَّ عِندَكَ ٱلۡكِبَرَ أَحَدُهُمَآ أَوۡ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُل لَّهُمَآ أُفّٖ وَلَا تَنۡهَرۡهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوۡلٗا كَرِيمٗا} (23)

{ قضى } في هذه الآية هي بمعنى أمر وألزم وأوجب عليكم وهكذا قال الناس ، وأقول إن المعنى { وقضى ربك } أمره { ألا تعبدوا إلا إياه } وليس في هذه الألفاظ الأمر بالاقتصار على عبادة الله فذلك هو المقضي لا نفس العبادة ، وقضى في كلام العرب أتم المقضي محكماً ، والمقضي هنا هو الأمر{[7517]} ، وفي مصحف ابن مسعود «ووصى ربك » وهي قراءة أصحابه ، وقراءة ابن عباس والنخعي وسعيد بن جبير وميمون بن مهران وكذلك عند أبي بن كعب ، وقال الضحاك تصحف على قوم وصى ب «قضى » حين اختلطت الواو بالصاد وقت كتب المصحف .

قال القاضي أبو محمد : وهذا ضعيف وإنما القراءة مروية بسند ، وقد ذكر أبو حاتم عن ابن عباس مثل قول الضحاك ، وقال عن ميمون بن مهران : إنه قال إن على قول ابن عباس لنوراً ، قال الله تعالى { شرع لكم من الدين ما وصى به نوحاً والذي أوحينا إليك }{[7518]} ثم ضعف أبو حاتم أن يكون ابن عباس قال ذلك ، وقال لو قلنا هذا لطعن الزنادقة في مصحفنا ، والضمير في { تعبدوا } لجميع الخلق ، وعلى هذا التأويل مضى السلف والجمهور ، وسأل الحسن بن أبي الحسن رجل فقال له : إنه طلق امرأته ثلاثاً فقال له الحسن : عصيت ربك وبانت منك امرأتك ، فقال له الرجل قضي ذلك علي ، فقال له الحسن وكان فصيحاً ، ما قضى الله أي ما أمر الله ، وقرأ هذه الآية ، فقال الناس : تكلم الحسن في القدر .

قال القاضي أبو محمد : ويحتمل أن تكون { قضى } على مشهورها في الكلام ، ويكون الضمير في قوله { تعبدوا } للمؤمنين من الناس إلى يوم القيامة ، لكن على التأويل الأول يكون قوله : { وبالوالدين إحساناً } عطفاً على { أن } الأولى أي أمر الله ألا تعبدوا إلا إياه وأن تحسنوا بالوالدين إحساناً ، وعلى هذا الاحتمال الذي ذكرناه يكون قوله { وبالوالدين إحساناً } مقطوعاً من الأول كأنه أخبرهم بقضاء الله ثم أمرهم بالإحسان إلى الوالدين ، و { إما } شرطية ، وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمر وعاصم وابن عامر «يبلغنّ » ، وروي عن ابن ذكوان «يبلغنَ » بتخفيف النون ، وقرأ حمزة والكسائي «يبلغان » وهي قراءة أبي عبد الرحمن ويحيى وطلحة والأعمش والجحدري ، وهي النون الثقيلة دخلت مؤكدة وليست بنون تثنية فعلى القراءتين الأوليين يكون قوله { أحدهما } فاعلاً ، وقوله { أو كلاهما } معطوفاً عليه ، وعلى هذه القراءة الثانية يكون قوله { أحدهما } بدلاً من الضمير في يبلغان وهو بدل مقسم كقول الشاعر : [ الطويل ]

وكنت كذي رجلين رجل صحيحة . . . ورجل رمى فيها الزمان فشلَّت{[7519]}

ويجوز{[7520]} أن يكون { أحدهما } فاعلاً وقوله { أو كلاهما } عطف عليه ويكون ذلك على لغة من قال أكلوني البراغيث ، وقد ذكر هذا في هذه الآية بعض النحويين وسيبويه لا يرى لهذه اللغة مدخلاً في القرآن ، وقرأ أبو عمرو «أفِّ » بكسر الفاء وترك التنوين ، وهي قراءة حمزة والكسائي وعاصم في رواية أبي بكر وقرأ نافع والحسن والأعرج وأبو جعفر وشيبة وعيسى «أفٍّ » بالكسر والتنوين ، وقرأ ابن كثير وابن عامر «أفَّ » بفتح الفاء ، وقرأ أبو السمال «أفٌّ » بضم الفاء{[7521]} ، وقرأ ابن عباس «أف » خفيفة ، وهذا كله بناء إلا أن قراءة نافع تعطي التنكير كما تقول آية ، وفيها لغات لم يقرأ بها «أف » بالرفع والتنوين على أن هارون حكاها قراءة ، «وأفّاً » بالنصب والتنوين «وأفي » بياء بعد الكسرة حكاها الأخفش الكبير ، «وأفاً » بألف بعد الفتحة ، «وأفّْ » بسكون الفاء المشددة «وأَف » مثل رب ، ومن العرب من يميل «أفاً » ، ومنهم من يزيد فيها هاء السكت فيقول «أفاه » .

قال القاضي أبو محمد : ومعنى اللفظة أنها اسم فعل كأن الذي يريد أن يقول أضجر أو أتقذر{[7522]} أو أكره أو نحو هذا يعبر إيجازا بهذه اللفظة ، فتعطي معنى الفعل المذكور ، وجعل الله تعالى هذه اللفظة مثالاً لجميع ما يمكن أن يقابل به الآباء مما يكرهون ، فلم ترد هذه في نفسها ، وإنما هي مثال الأعظم منها ، والأقل فهذا هو مفهوم الخطاب الذي المسكوت عنه حكمه حكم المذكور ، والانتهار إظهار الغضب في الصوت واللفظ ، والقول الكريم الجامع للمحاسن من اللين وجودة المعنى وتضمن البر ، وهذا كما تقول ثوب كريم تريد أنه جم المحاسن ، و «الألف » وسخ الأظفار ، فقالت فرقة إن هذه اللفظة التي في الآية مأخوذة من ذلك وقال مجاهد في قوله { ولا تقل لهما أف } معناه إذا رأيت منهما في حال الشيخ{[7523]} الغائط والبول الذي رأياه في حال الصغر فلا تستقذرهما{[7524]} . وتقول { أف } .

قال القاضي أبو محمد : والآية أعم من هذا القول وهو داخل في جملة ما تقتضيه ، وقال أبو الهدَّاج النجيبي{[7525]} : قلت لسعيد بن المسيب كل ما في القرآن من بر الوالدين قد عرفته إلا قوله { وقل لهما قولاً كريماً } ما هذا القول الكريم ؟ قال ابن المسيب : قول العبد المذنب للسيد الفظّ .


[7517]:قال أبو حيان في البحر تعقيبا على كلام ابن عطية هذا: "كأنه رام أن يترك [قضى] على مشهور موضعها بمعنى: قدر، فجعل متعلقة الأمر بالعبادة لا العبادة نفسها؛ لأنه لا يستقيم أن يقضي شيئا بمعنى أن يقدر إلا ويقع، والذي فهم المفسرون غيره أن متعلق [قضى] هو {ألا تعبدوا} سواء كانت [أن] تفسيرية أم مصدرية". (البحر المحيط 6-25).
[7518]:من الآية (13) من سورة (الشورى).
[7519]:البيت لكثير عزة، وهو في الديوان، والكتاب لسيبويه، وخزانة الأدب، وشرح شواهد العيني، وابن يعيش، وقبله يقول: فليت قلوصي عند عزة قــــيدت بحبل ضعيف عز منها فضلت وغودر في الحي المقيمين رحلها وكان لها باغ سواي فبـلــــت تمنى أن تشل إحدى رجليه وهو عندها، وأن تضل ناقته فلا يرحل عنها، فيكون قوله: (وكنت كذي رجلين...) معطوفا على قوله: (قيدت) ليدخل في التمني. وقال ابن سيدة: لما خانت عزة العهد، وثبت هو عليه، صار كذي رجلين: رجل صحيحة وهي ثباته على العهد، ورجل مريضة وهي خيانتها وزللها عن العهد، وقال بعضهم: معنى البيت أنه بين الخوف والرجاء والقرب والتنائي. وقيل غير هذا في معنى البيت، وهذا البيت من شواهد النحويين، فيروى (رجل) بالجر على أنه بدل مع أخرى مفصل من (رجلين)، ويجوز أن يكون الجر على الصفة، ويروى بالرفع على القطع وأنه خبر مبتدإ محذوف، والتقدير: هما رجل صحيحة ورجل أخرى، أو إحداهما صحيحة والأخرى رجل... والبيت في هذا كقوله تعالى: {قد كان لكم آية في فئتين التقتا فئة تقاتل في سبيل الله وأخرى كافرة}، أي: إحداهما فئة تقاتل ...الخ. هذا وقد علق أبو حيان الأندلسي على قول ابن عطية هنا: "وهو بدل مقسم" بقوله: "هذا ليس من بدل التقسيم ؛ لأن شرط ذلك العطف بالواو، وأيضا فالبدل المقسم لا يصدق المبدل فيه على أحد قسميه، و [كلاهما] يصدق عليه الضمير، وهو المبدل منه، فليس من المقسم".
[7520]:أي على هذه القراءة الثالثة.
[7521]:قال في البحر المحيط: "بضم الفاء من غير تنوين".
[7522]:يتقذر منهما لما يجد في حال كبرهما من نزول لعاب، أو ظهور مخاط، وفي حال مرضهما من بول ونحوه.
[7523]:الشيخ: الشيخوخة، وهما مصدر "شاخ" إذا أسن وكبر.
[7524]:أي: لا تكرههما ولا تجتنبهما لقذر أو وساخة.
[7525]:في بعض النسخ: "أبو الهداج"، وهو موافق لما في الطبري، والدر المنثور. وفي القرطبي: أبو البداح.