{ صُمّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ }
قال أبو جعفر : وإذ كان تأويل قول الله جل ثناؤه : ذَهَبَ الله بِنُورِهِمْ وتَرَكَهُمْ في ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ هو ما وصفنا من أن ذلك خبر من الله جل ثناؤه عما هو فاعل بالمنافقين في الاَخرة ، عند هتك أستارهم ، وإظهاره فضائح أسرارهم ، وسلبه ضياء أنوارهم من تركهم في ظلم أهوال يوم القيامة يترددون ، وفي حنادسها لا يبصرون فبينٌ أن قوله جل ثناؤه : صُمّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ من المؤخر الذي معناه التقديم ، وأن معنى الكلام : أولَئِكَ الّذِينَ اشْتَرُوا الضّلاَلَةَ بالهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ ، صُمّ بُكْمٌ عُمْيٌ فهم لاَ يَرْجِعُونَ مَثَلُهُمْ كمَثَلِ الّذِي اسْتَوْقَدَ نَارا فَلَمّا أضَاءَتْ ما حَوْلَهُ ذَهَبَ اللّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمُ فِي ظُلُماتٍ لا يَبْصِرُونَ ، أوْ كمثل صيب من السمّاءِ . وإذ كان ذلك معنى الكلام ، فمعلوم أن قوله : صُمّ بُكْمٌ عُمْيٌ يأتيه الرفع من وجهين ، والنصب من وجهين . فأما أحد وجهي الرفع ، فعلى الاستئناف لما فيه من الذم ، وقد تفعل العرب ذلك في المدح والذم ، فتنصب وترفع وإن كان خبرا عن معرفة ، كما قال الشاعر :
لا يَبْعَدَنْ قَوْمِي الّذِينَ هُمُ *** سُمّ العُداةِ وآفَةُ الجُزْرِ
النّازِلِينَ بِكُلّ مُعْتَرَكٍ وَالطّيّبِينَ مَعَاقِدَ أُلازْرِ
فيروى : «النازلون والنازلين » وكذلك «الطيبون والطيبين » ، على ما وصفت من المدح . والوجه الاَخر على نية التكرير من أولئك ، فيكون المعنى حينئذٍ : أولَئِكَ الّذِينَ اشْتَروا الضّلاَلَةَ بالهدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ وَما كَانُوا مُهْتَدِينَ أولئك صُمّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ .
وأما أحد وجهي النصب ، فأن يكون قطعا مما في «مهتدين » ، من ذكر «أولئك » ، لأن الذي فيه من ذكرهم معرفة ، والصمّ نكرة . والاَخر أن يكون قطعا من «الذين » ، لأن «الذين » معرفة والصم نكرة . وقد يجوز النصب فيه أيضا على وجه الذم فيكون ذلك وجها من النصب ثالثا . فأما على تأويل ما روينا عن ابن عباس من غير وجه رواية عليّ بن أبي طلحة عنه ، فإنه لا يجوز فيه الرفع إلا من وجه واحد وهو الاستئناف .
وأما النصب فقد يجوز فيه من وجهين : أحدهما الذمّ ، والاَخر القطع من الهاء والميم اللتين في «تركهم » ، أو من ذكرهم في «لا يبصرون » . وقد بينا القول الذي هو أولى بالصواب في تأويل ذلك . والقراءةُ التي هي قراءةُ الرفعُ دون النصب ، لأنه ليس لأحد خلاف رسوم مصاحف المسلمين ، وإذا قرىء نصبا كانت قراءة مخالفة رسم مصاحفهم .
قال أبو جعفر : وهذا خبر من الله جل ثناؤه عن المنافقين ، أنهم باشترائهم الضلالة بالهدى ، لم يكونوا للهدى والحق مهتدين ، بل هم صمّ عنهما فلا يسمعونهما لغلبة خذلان الله عليهم ، بُكْمٌ عن القيل بهما ، فلا ينطقون بهما والبكم : الخُرْس ، وهو جمع أبكم ، عميٌ عن أن يبصروهما فيعقلوهما لأن الله قد طبع على قلوبهم بنفاقهم فلا يهتدون . وبمثل ما قلنا في ذلك قال علماء أهل التأويل .
حدثنا عبد بن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن محمد بن إسحاق ، عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت ، عن عكرمة ، أو عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : صمّ بُكْمٌ عُمْيٌ عن الخير .
حدثني المثنى بن إبراهيم ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : حدثني معاوية بن صالح عن عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : صُمّ بُكْمٌ عُمْيٌ يقول : لا يسمعون الهدى ، ولا يبصرونه ، ولا يعقلونه .
وحدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط عن السدي في خبر ذكره عن أبي مالك ، وعن أبي صالح ، عن ابن عباس ، وعن مرة عن ابن مسعود ، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم : بُكْمٌ : هم الخرس .
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد بن زريع ، عن سعيد ، عن قتادة قوله : صمّ بُكْمٌ عُمْيٌ : صم عن الحق فلا يسمعونه ، عمي عن الحق فلا يبصرونه ، بكم عن الحق فلا ينطقون به .
القول في تأويل قوله تعالى : فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ .
قال أبو جعفر : وقوله : فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ إخبار من الله جل ثناؤه عن هؤلاء المنافقين الذين نعتهم الله باشترائهم الضلالة بالهدى ، وصممهم عن سماع الخير والحق ، وبكمهم عن القيل بهما ، وعماهم عن إبصارهما أنهم لا يرجعون إلى الإقلاع عن ضلالتهم ، ولا يتوبون إلى الإنابة من نفاقهم ، فآيس المؤمنين من أن يبصر هؤلاء رشدا ، ويقولوا حقا ، أو يسمعوا داعيا إلى الهدى ، أو أن يذكروا فيتوبوا من ضلالتهم ، كما آيس من توبة قادة كفار أهل الكتاب والمشركين وأحبارهم الذين وصفهم بأنه قد ختم على قلوبهم وعلى سمعهم وغَشّى على أبصارهم . وبمثل الذي قلنا في تأويل ذلك قال أهل التأويل .
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد بن زريع ، عن سعيد ، عن قتادة : فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ أي لا يتوبون ولا يذكرون .
وحدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي في خبر ذكره ، عن أبي مالك ، وعن أبي صالح ، عن ابن عباس ، وعن مرة ، عن ابن مسعود ، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم : فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ إلى الإسلام .
وقد رُوي عن ابن عباس قول يخالف معناه معنى هذا الخبر وهو ما :
حدثنا به ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن محمد بن إسحاق ، عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت ، عن عكرمة ، أو عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ : أي فلا يرجعون إلى الهدى ولا إلى خير ، فلا يصيبون نجاة ما كانوا على ما هم عليه .
وهذا تأويل ظاهر التلاوة بخلافه ، وذلك أن الله جل ثناؤه أخبر عن القوم أنهم لا يرجعون عن اشترائهم الضلالة بالهدى إلى ابتغاء الهدى وإبصار الحق من غير حصر منه جل ذكره ذلك من حالهم إلى وقت دون وقت وحال دون حال . وهذا الخبر الذي ذكرناه عن ابن عباس ينبىء عن أن ذلك من صفتهم محصور على وقت وهو ما كانوا على أمرهم مقيمين ، وأن لهم السبيل إلى الرجوع عنه . وذلك من التأويل دعوى باطلة لا دلالة عليها من ظاهر ولا من خبر تقوم بمثله الحجة فيسلم لها .
صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ ( 18 )
والأصم الذي لا يسمع ، والأبكم الذي لا ينطق ولا يفهم ، فإذا فهم فهو الأخرس ، وقيل الأبكم والأخرس واحد ، ووصفهم بهذه الصفات إذ أعمالهم من الخطأ وقلة الإجابة كأعمال من هذه صفته ، وصم رفع على خبر ابتداء فإما أن يكون ذلك على تقدير تكرار أولئك ، وإما على إضمار هم .
وقرأ عبد الله بن مسعود وحفصة أم المؤمنين رضي الله عنهما . «صماً ، بكماً ، عمياً » بالنصب ، ونصبه على الحال من الضمير في { مهتدين } ، وقيل هو نصب على الذم ، وفيه ضعف( {[299]} ) ، وأما من جعل الضمير في «نورهم » للمنافقين لا للمستوقدين فنصب هذه الصفات على قوله على الحال من الضمير في { تركهم } .
قال بعض المفسرين قوله تعالى { فهم لا يرجعون } إخبار منه تعالى أنهم لا يؤمنون بوجه .
قال القاضي أبو محمد : وإنما كان يصح هذا إن لو كانت الآية في معينين ، وقال غيره : معناه { فهم لا يرجعون } ما داموا على الحال التي وصفهم بها ، وهذا هو الصحيح ، لأن الآية لم تعين ، وكلهم معرض للرجوع مدعو إليه .
قوله عز وجل( {[300]} ) :