الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{صُمُّۢ بُكۡمٌ عُمۡيٞ فَهُمۡ لَا يَرۡجِعُونَ} (18)

الجمهورُ على رَفْعِها على أنها خبرُ مبتدأ محذوفٍ ، أي : هم صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ ، ويَجيء فيه الخلافُ المشهورُ في تعدُّدِ الخبرِ ، فَمَنْ أجازَ ذلك حَمَلَ الآيةَ عليه من غير تأويلٍ ، ومَنْ مَنَعَ ذلك قال : هذه الأخبارُ وإن تعدَّدَتْ لفظاً فهي متَّحِدَةٌ معنًى ، لأنَّ المعنى : هم غيرُ قائلين للحقِّ بسبب عَماهم وصَمَمِهم ، فيكون من باب : " هذا حُلوٌ حامِضٌ " أي مُزٌّ ، و " هو أَعْسَرُ يَسَرٌ " أي أَضْبَطُ ، وقول الشاعر :

ينامُ بإحدى مُقْلَتَيْهِ ويتَّقي *** بأخرى المَنايا فهو يَقْظانُ هاجِعُ

أي : متحرِّزٌ ، أو يقدَّر لكلِّ خبرٍ مبتدأً تقديرُه : هم صُمٌّ ، هم بُكْم ، هم عُمْي ، والمعنى على أنهم جامعون لهذه الأوصافِ الثلاثة ، ولولا ذلك لجاز أن تكونَ هذه الآيةُ من باب ما تعدَّدَ فيه الخبرُ لِتعدُّدِ المبتدأ ، نحو قولِك : الزيدونَ فقهاءُ شعراءُ كاتبون ، فإنه يَحْتمل أن يكونَ المعنى أن بعضَهم فقهاءُ ، وبعضَهم شعراء وبعضَهم كاتبون ، وأنَّهم ليسوا جامعين لهذه الأوصاف الثلاثة ، بل بعضُهم اختصَّ بالفقه ، والبعضُ الآخر بالشعرِ ، والآخرُ بالكتابة .

وقُرئ بنصبها ، وفيه ثلاثةُ أوجهٍ ، أحدها : أنه حالٌ ، وفيه قولان ، أحدُهما : هو حالٌ من الضميرِ المنصوبِ في " تَرَكَهم " ، والثاني من المرفوع في " لا يُبْصرون " . والثاني : النَصبُ على الذَمِّ ، كقولِه : { حَمَّالَةَ الْحَطَبِ }

[ المسد : 4 ] . وقول الآخر :

سَقَوْني النَّسْءَ ثم تَكَنَّفوني *** عُدَاةَ اللهِ مِنْ كَذِبٍ وزُورِ

أي : أَذُمُّ عُداةَ اللهِ . الثالث : أن يكونَ منصوباً بتَرَكَ أي : تَرَكهم صُمَّاً بُكْماً عُمْياً .

والصَّمَمُ داءٌ يمنعُ من السَّماع ، وأصلُه من الصَّلابة ، يقال : " قناةٌ صَمَّاء " أي صُلبة ، وقيل : أصلُه من الانسدادِ ، ومنه : صَمَمْتُ القارورةَ أي : سَدَدْتُها . والبَكَم داءٌ يمنع الكلامَ ، وقيل : هو عدمُ الفَهْمِ ، وقيل : الأبكم مَنْ وُلِد أخرسَ .

وقولُه : { فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ } جملةٌ خبريةٌ معطوفةٌ على الجملةِ الخبريةِ قبلها ، وقيل : بل الأُولى دعاءٌ عليهم بالصَّمَم ، ولا حاجةَ إلى ذلك . وقال أبو البقاء : " وقيل : فهم لا يَرْجِعُون حالٌ ، وهو خطأٌ ، لأن الفاء تُرَتِّبُ ، والأحوالُ لا ترتيبَ فيها " . و " رَجَعَ " يكونُ قاصراً ومتعدياً باعتبَارَيْنِ ، وهُذَيْل تقول : أَرْجَعَهُ غيرُهُ فإذا كان بمعنى " عاد " كان لازماً ، وإذا كان بمعنى أعاد كان متعدياً ، والآية الكريمةُ تحتمل التقديرينِ ، فإنْ جَعَلْنَاه متعدياً فالمفعولُ محذوفٌ ، تقديرُهُ : لاَ يَرْجِعُون جواباً ، مثلُ قوله : { إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ } [ الطارق : 8 ] . وَزَعَمَ بعضُهم أنه يُضَمَّن معنى صار ، فيرفعُ الاسم وينصِبُ الخبر ، وجَعَل منه قولَه عليه السلام : " لا تَرْجِعوا بعدي كُفَّاراً يضربُ بعضُكم رِقابَ بعض " ، ومَنْ مَنَعَ جريانِهِ مَجْرى " صار " جَعَلَ المنصوبَ حالاً .