إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود - أبو السعود  
{صُمُّۢ بُكۡمٌ عُمۡيٞ فَهُمۡ لَا يَرۡجِعُونَ} (18)

{ صُمٌّ بُكْمٌ عُمْي } أخبارٌ لمبتدأ محذوفٍ هو ضمير المنافقين ، أو خبر واحد بالتأويل المشهور ، كما في قولهم : هذا حلوٌ حامض والصممُ آفةٌ مانعة من السماع ، وأصلُه الصلابة واكتنازُ الأجزاء ، ومنه الحجرُ الأصم ، والقناةُ الصماء ، وصَمام القارورة : سِدادُها ، سمي به فقدانُ حاسة السمع لما أن سببه اكتنازُ باطن الصّماخ ، وانسدادُ منافذه بحيث لا يكاد يدخله هواءٌ يحصل الصوت بتموجه ، والبُكم الخُرس ، والعمى عدم البصر عما من شأنه أن يُبصَر ، وُصفوا بذلك مع سلامة مشاعرهم المعدودة لما أنهم حيث سدوا مسامعهم عن الإصاخة لما يتلى عليهم من الآيات والذكر الحكيم ، وأبَوْا أن يتلقَّوْها بالقبول ، ويُنطِقوا بها ألسنتهم ، ولم يجتلوا ما شاهدوا من المعجزات الظاهرة على يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولم ينظروا إلى آيات التوحيد المنصوبة في الآفاق والأنفس بعين التدبر ، وأصروا على ذلك بحيث لم يبقَ لهم احتمالُ الارعواء عنه ، صاروا كفاقدي تلك المشاعر بالكلية ، وهذا عند مُفْلقي سَحَرة البيان من باب التمثيل البليغ ، المؤسس على تناسي التشبيه كما في قول من قال :

ويصعَدُ حتى يظنَّ الجهول *** بأن له حاجةً في السماء

لما أن المقدر في النظم في حكم الملفوظ ، لا من قبيل الاستعارة التي يطوى فيها ذكرُ المستعار له بالكلية ، حتى لو لم يكن هناك قرينة تحمل على المعنى الحقيقي ، كما في قول زهير : [ الطويل ]

لدى أسدٍ شاكي السلاحِ مُقذَّف *** له لِبَدٌ أظفارُه لم تُقَلَّمِ{[30]}

{ فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ } الفاء للدلالة على ترتب ما بعدها على ما قبلها ، أي هم بسبب اتصافِهم بالصفات المذكورة لا يعودون إلى الهدى الذي تركوه وضيّعوه أو عن الضلالة التي أخذوها ، والآيةُ نتيجةٌ للتمثيل ، مفيدةٌ لزيادة تهويلٍ وتفظيع ، فإن قصارى أمرِ التمثيل بقاؤهم في ظلماتٍ هائلة من غير تعرضٍ لمَشْعَريْ السمع والنطق ، ولاختلال مَشعَرِ الإبصار ، وقيل الضمير المقدر وما بعده للموصول باعتبار المعنى ، كالضمائر المتقدمة .

فالآية الكريمة تتمة للتمثيل ، وتكميل له بأن ما أصابهم ليس مجردَ انطفاء نارهم وبقائهم في ظلمات كثيفة هائلة ، مع بقاء حاسة البصر بحالها ، بل اختلت مشاعرُهم جميعاً ، واتصفوا بتلك الصفات على طريقة التشبيه أو الحقيقة فبقوا جامدين في مكاناتهم ، لا يرجعون ولا يدْرون أيتقدّمون أم يتأخرون ، وكيف يرجِعون إلى ما ابتدأوا منه ، والعدولُ إلى الجملة الاسمية للدَلالة على استمرار تلك الحالة فيهم ، وقرئ صماً بكماً عمياً ، إما على الذي كما في قوله تعالى : { حَمَّالَةَ الحطب } [ المسد ، الآية 4 ] والمخصوصُ بالذم هم المنافقون ، أو المستوقدون وإما على الحالية من الضمير المنصوب في تَرَكهم ، أو المرفوع في لا يبصرون وإما على المفعولية لتركهم ، فالضميران للمستوقدين .


[30]:وهو لزهير بن أبي سلمة في ديوانه ص 24 ولسان العرب 9/277 (قذف) 13/412 (مكن) وتاج العروس 24/244 (قذف).