البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{صُمُّۢ بُكۡمٌ عُمۡيٞ فَهُمۡ لَا يَرۡجِعُونَ} (18)

{ صم بكم عمي فهم لا يرجعون } جموع كثرة على وزن فعل ، وهو قياس في جمع فعلاء وأفعل الوصفين سواء تقابلا ، نحو : أحمر وحمراء ، أو انفرد المانع في الخلقة ، نحو : عذل ورتق .

فإن كان الوصف مشتركاً لكن لم يستعملا على نظام أحمر وحمراء ، وذلك نحو : رجل آلي وامرأة عجزاء ، لم ينقس فيه فعل بل يحفظ فيه .

والصمم : داء ، يحصل في الأذن يسد العروق فيمنع من السمع ، وأصله من الصلابة ، قالوا : قناة صماء ، وقيل أصله السد وصممت القارورة : سددتها .

والبكم : آفة تحصل في اللسان تمنع من الكلام ، قاله أبو حاتم ، وقيل : الذي يولد أخرس ، وقيل : الذي لا يفهم الكلام ولا يهتدي إلى الصواب ، فيكون إذ ذاك داء في الفؤاد لا في اللسان .

والعمى : ظلمة في العين تمنع من إدراك المبصرات ، والفعل منها على فعل بكسر العين ، واسم الفاعل على أفعل ، وهو قياس الآفات والعاهات .

والرجوع ، إن لم يتعد ، فهو بمعنى : العود ، وإن تعدى فبمعنى : الإعادة .

وبعض النحويين يقول : إنها تضمن معنى صار فتصير من باب كان ، ترفع الاسم وتنصب الخبر .

قرأ الجمهور : { صم بكم عمي } ، بالرفع وهو على إضمار مبتدأ تقديره هم صم ، وهي أخبار متباينة في اللفظ والدلالة الوضعية ، لكنها في موضع خبر واحد ، إذ يؤول معناها كلها إلى عدم قبولهم الحق وهم سمعاء الآذان ، فصح الألسن ، بصراء الأعين ، لكنهم لم يصيخوا إلى الحق ولا نطقت به ألسنتهم ، ولا تلمحوا أنوار الهداية ، وصفوا بما وصفوا من الصمم والبكم والعمى ، وقد سمع عن العرب لهذا نظائر ، أنشد الزمخشري من ذلك أبياتاً ، وأنشد غيره :

أعمى إذا ما جارتي برزت *** حتى يواري جارتي الخدر

وأصم عما كان بينهما *** أذني وما في سمعها وقر

وهذا من التشبيه البليغ عند المحققين ، وليس من باب الاستعارة ، لأن المستعار له مذكور وهم المنافقون .

والاستعارة إنما تطلق حيث يطوى ذكر المستعار له ويجعل الكلام خلواً عنه ، صالحاً لأن يراد به المنقول عنه والمنقول إليه لولا دلالة الحال أو فحوى الكلام ، كقول زهير :

لدي أسد شاكي السلاح مقذف *** له لبد أظفاره لم تقلم

وحذف المبتدأ هناك لذكره ، فلا يقال : إنه من باب الاستعارة ، إذ هو كقول زهير :

أسد علي وفي الحروب نعامة *** فتخاء تنفر من صفير الصافر

والإخبار عنهم بالصمم والبكم والعمى هو كما ذكرناه من باب المجاز ، وذلك لعدم قبولهم الحق .

وقيل : وصفهم الله بذلك لأنهم كانوا يتعاطون التصامم والتباكم والنعامي من غير أن يكونوا متصفين بشيء من ذلك ، فنبه على سوء اعتمادهم وفساد اعتقادهم .

والعرب إذا سمعت ما لا تحب ، أو رأت ما لا يعجب ، طرحوا ذلك كأنهم ما سمعوه ولا رأوه .

قال تعالى : { كأن لم يسمعها ، كأن في أذنيه وقراً } وقالوا : { قلوبنا في أكنة } الآية .

قيل : ويجوز أن يكون أريد بذلك المبالغة في ذمهم ، وأنهم من الجهل والبلادة أسوأ حالاً من البهائم وأشبه حالاً من الجمادات التي لا تسمع ولا تتكلم ولا تبصر .

فمن عدم هذه المدارك الثلاثة كان من الذم في الرتبة القصوى ، ولذلك لما أراد ابراهيم ، على نبينا وعليه السلام ، المبالغة في ذم آلهة أبيه قال : { يا أبت لِمَ تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئاً } وهذه الجملة خبرية ولا ضرورة تدعو إلى اعتقاد أنه خبر أريد به الدعاء ، وإن كان قد قاله بعض المفسرين .

قال : دعاء الله عليهم بالصمم والبكم والعمى جزاء لهم على تعاطيهم ذلك ، فحقق الله فيهم ما يتعاطونه من ذلك وكأنه يشير إلى ما يقع في الآخرة من قوله : { ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم عمياً وبكماً وصماً } وقرأ عبد الله بن مسعود ، وحفصة أم المؤمنين : صماً بكماً عمياً ، بالنصب ، وذكروا في نصبه وجوهاً : أحدها : أن يكون مفعولاً .

ثانياً لترك ، ويكون في ظلمات متعلقاً بتركهم ، أو في موضع الحال ، ولا يبصرون .

حال .

الثاني : أن يكون منصوباً على الحال من المفعول في تركهم ، على أن تكون لا تتعدى إلى مفعولين ، أو تكون تعدت إليهما وقد أخذتهما .

الثالث : أن يكون منصوباً بفعل محذوف تقديره أعني .

الرابع : أن يكون منصوباً على الحال من الضمير في يبصرون ، وفي ذلك نظر .

الخامس : أن يكون منصوباً على الذم ، صماً بكماً ، فيكون كقول النابغة :

أقارع عوف لا أحاول غيرها *** وجوه قرود تبتغي من تخادع

وفي الوجوه الأربعة السابقة لا يتعين أن تكون الأوصاف الثلاثة من أوصاف المنافقين ، إذ هي متعلقة في العمل بما قبلها ، وما قبلها الظاهر أنه من أوصاف المستوقدين ، إلا إن جعل الكلام في حال المستوقد قد تم عند قوله : { فلما أضاءت ما حوله } ، وكان الضمير في نورهم يعود على المنافقين ، فإذ ذاك تكون الأوصاف الثلاثة لهم .

وأما في الوجه الخامس فيظهر أنها من أوصاف المنافقين ، لأنها حالة الرفع من أوصافهم .

ألا ترى أن التقدير هم صم ، أي المنافقون ؟ فكذلك في النصب .

ونص بعض المفسرين على ضعف النصب على الذم ، ولم يبين جهة الضعف ، ووجهه : أن النصب على الذم إنما يكون حيث يذكر الاسم السابق فتعدل عن المطابقة في الإعراب إلى القطع ، وهاهنا لم يتقدم اسم سابق تكون هذه الأوصاف موافقة له في الإعراب فتقطع ، فمن أجل هذا ضعف النصب على الذم .

فهم لا يرجعون : جملة خبرية معطوفة على جملة خبرية ، وهي من حيث المعنى مترتبة على الجملة السابقة ومتعقبتها ، لأن من كانت فيه هذه الأوصاف الثلاثة ، التي هي كناية عن عدم قبول الحق ، جدير أن لا يرجع إلى إيمان .

فإن كانت الآية في معنيين ، فذلك واضح ، لأن من أخبر الله عنه أنه لا يرجع إلى الإيمان لا يرجع إليه أبداً ، وإن كانت في غير معنيين فذلك مقيد بالديمومة على الحالة التي وصفهم الله بها .

قال قتادة ، ومقاتل : لا يرجعون عن ضلالهم ، وقال السدي : لا يرجعون إلى الإسلام ، وقيل : لا يرجعون عن الصم والبكم والعمى ، وقيل : لا يرجعون إلى ثواب الله ، وقيل : عن التمسك بالنفاق ، وقيل : إلى الهدى بعد أن باعوه ، أو عن الضلالة بعد أن اشتروها ، وأسند عدم الرجوع إليهم لأنه لما جعل تعالى لهم عقولاً للهداية ، وبعث إليهم رسلاً بالبراهين القاطعة ، وعدلوا عن ذلك إلى اتباع أهوائهم ، والجري على مألوف آبائهم ، كان عدم الرجوع من قبل أنفسهم .

وقد قدمنا أن فعل العبد ينسب إلى الله اختراعاً وإلى العبد لملابسته له ، ولذلك قال في هذه الآية : { صم بكم عمي فهم لا يرجعون } ، فأضاف هذه الأوصاف الذميمة إلى ملابسها وقال تعالى : { اولئك الذين لعنهم الله فأصمهم وأعمى أبصارهم } فأضاف ذلك إلى الموجد تعالى .

وهذه الأقاويل كلها على تقدير أن يكون الرجوع لازماً ، وإن كان متعدياً كان المفعول محذوفاً تقديره فهم لا يرجعون جواباً .