فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير للشوكاني - الشوكاني  
{صُمُّۢ بُكۡمٌ عُمۡيٞ فَهُمۡ لَا يَرۡجِعُونَ} (18)

و{ صُمٌّ } وما بعده خبر مبتدأ محذوف : أي هم . وقرأ ابن مسعود " صماً بكماً عمياً " بالنصب على الذم ، ويجوز أن ينتصب بقوله { تركهم } . والصمم : الانسداد ، يقال قناة صماء : إذا لم تكن مجوّفة ، وصممت القارورة : إذا سددتها ، وفلان أصمّ : إذا انسدت خروق مسامعه . والأبكم : الذي لا ينطق ولا يفهم ، فإذا فهم ، فهو الأخرس . وقيل الأخرس والأبكم واحد . والعمى : ذهاب البصر . والمراد بقوله : { فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ } أي : إلى الحق ، وجواب لما في قوله : { فَلَمَّا أَضَاءتْ } ، قيل هو : { ذَهَبَ الله بِنُورِهِمْ } وقيل : محذوف تقديره : طفئت فبقوا حائرين . وعلى الثاني فيكون قوله : { ذَهَبَ الله بِنُورِهِمْ } كلاماً مستأنفاً أو بدلاً من المقدر .

ضرب الله هذا المثل للمنافقين لبيان أن ما يظهرونه من الإيمان مع ما يبطنونه من النفاق لا يثبت لهم به أحكام الإسلام ، كمثل المستوقد الذي أضاءت ناره ثم طفئت ، فإنه يعود إلى الظلمة ، ولا تنفعه تلك الإضاءة اليسيرة ، فكان بقاء المستوقد في ظلمات لا يبصر كبقاء المنافق في حيرته وتردده . وإنما وصفت هذه النار بالإضاءة مع كونها نار باطل ، لأن الباطل كذلك تسطع ذوائب لهب ناره لحظة ثم تخفت . ومنه قولهم «للباطل صولة ثم يضمحلّ » وقد تقرر عند علماء البلاغة أن لضرب الأمثال شأناً عظيماً في إبراز خفيات المعاني ، ورفع أستار محجبات الدقائق ولهذا استكثر الله من ذلك في كتابه العزيز ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر من ذلك في مخاطباته ، ومواعظه .

قال ابن جرير : إن هؤلاء المضروب لهم المثل هاهنا لم يؤمنوا في وقت من الأوقات ، واحتج بقوله تعالى : { وَمِنَ الناس مَن يَقُولُ ءامَنَّا بالله وباليوم الآخر وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ } [ البقرة : 8 ] . وقال ابن كثير : إن الصواب أن هذا إخبار عنهم في حال نفاقهم وكفرهم ، وهذا لا ينفي أنه كان حصل لهم إيمان قبل ذلك ، ثم سلبوه وطبع على قلوبهم كما يفيده قوله تعالى : { ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ ءامَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ على قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَفْقَهُونَ } [ المنافقون : 3 ] . قال ابن جرير : وصحّ ضرب مثل الجماعة بالواحد كما قال { رَأَيْتَهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ تَدورُ أَعْيُنُهُمْ كالذى يغشى عَلَيْهِ مِنَ الموت } [ الأحزاب : 19 ] أي : كدوران عيني الذي يغشى عليه من الموت ، وقال تعالى : { مَثَلُ الذين حُملُوا التوراة ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الحمار يَحْمِلُ أَسْفَاراً } [ الجمعة : 5 ] .

/خ18