اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{صُمُّۢ بُكۡمٌ عُمۡيٞ فَهُمۡ لَا يَرۡجِعُونَ} (18)

الجمهور على رفعها على أنّها خبر مبتدأ محذوف ، هم صم بكم ، ويجيء فيه الخلاف المَشْهُور في تعدُّد الخبر ، فمن أجاز ذلك حمل الآية عليه من غير تأويل ، ومن منع ذلك قال : هذه الأخبار : وإن تعدّدت لفظاً ، فهي متحدة معنى ؛ لأن المعنى : هم غير قائلين للحق بسبب عَمَاهُمْ وَصَمَمِهِمْ ، فيكون من باب : " هذا حُلْوٌ حَامِضٌ " أي : مُزٌّ ، وهذا أعسر أيسر أي : أضبط ، وقول الشاعر : [ الطويل ]

يَنَامُ بإِحْدَى مُقْلَتَيْهِ ويَتَّقِي *** بِأُخْرَى الأَعَادِي ، فَهُوَ يَقْظَانُ هَاجِعُ{[732]}

أي : متحرّز .

أو يقدر لكل خبر مبتدأ تقديره : هم صُمّ ، هم بُكْمٌ ، هم عُمْيٌ .

والمعنى : أنهم جامعون لهذه الأوصاف الثلاثة ، ولولا ذلك لجاز أن تكون هذه الآية من باب ما تعدّد فيه الخبر لتعدّد المبتدأ ، كقولك : الزيدون فقهاء شعراء كاتبون ، فإنه يحتمل أن يكون المعنى أن بعضهم فقهاء ، وبعضهم شعراء ، وبعضهم كاتبون ، وأنهم ليسوا جامعين لهذه الأوصاف الثلاثة ، بل بعضهم اختصّ بالفقه ، والبعض الآخر اختصّ بالشعر ، والآخر بالكتابة .

وقرأ بعضهم{[733]} " صمًّا بكماً عمياً " بالنصب ، وفيه ثلاثة أوجه :

أحدها : أنه حالٌ ، وفيه وجهان :

أحدهما : هو حال من الضمير المنصوب في " تركهم " .

والثاني : من المرفوع في " لا يُبْصِرُون " .

الثاني : النَّصْب على الذَّم كقوله : { حَمَّالَةَ الْحَطَبِ } [ المسد : 4 ] وقول الآخر :

سَقَوْنِي الخَمْرَ ثُمَّ تَكَنَّفُونِي *** عُدَاةَ اللهِ مِنْ كَذِبٍ وزُورِ{[734]}

أي : أذمُ عُدَاة الله .

الثالث : أن يكون منصوباً ب " ترك " ، أي : صمَّا بكماً عمياً .

والصّمم : داء يمنع من السَّمَاع ، وأصله من الصَّلابة ، يقال : قناة صَمّاء : أي : صلبة .

وقيل : أصله من الانسداد ، ومنه : صممت القَارُورَة أي : سددتها .

والبَكَمُ : داءٌ يمنع الكلام .

وقيل : هو عدم الفَهْمِ .

وقيل : الأبكم من وُلِدَ أَخْرَسَ .

وقوله : { فهم لا يرجعون } جملة خبرية معطوفة على الجملة الخبرية قبلها .

وقيل : بل الأولى دعاء عليهم بالصَّمم ، ولا حاجة إلى ذلك .

وقال أبو البقاء : وقيل : فهم لا يرجعون حال ، وهو خطأ ؛ لأن " الفاء " ترتب ، والأحوال لا ترتيب فيها .

و " رجع " يكون قاصراً ومتعدياً باعتبارين ، وهذيل تقول : : " أرجعه غيره " ، فإذا كان بمعنى " عاد " كان لازماً ، وإذا كان بمعنى " أعاد " كان متعدياً ، والآية الكريمة تحتمل التَّقديرين ، فإن جعلناه متعدياً ، فالمفعول محذوف ، تقديره لا يرجعون جواباً ، مثل قوله : { إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ } [ الطارق : 8 ] ، وزعم بعضهم أنه يضمَّن معنى " صار " ، فيرفع الاسم ، وينصب الخبر ، وجعل منه قوله عليه الصلاة والسلام : " لا تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفّاراً يَضْرِب بَعْضُكُم رِقابَ بَعْضٍ " {[735]} .

ومن منع جريانه مجرى " صار " جعل المنصوب حالاً .

فصل في المراد بنفي السمع والبصر عنهم .

لما كان المعلوم من حالهم أنهم كانوا يسمعون ، وينطقون ، ويبصرون امتنع حمل ذلك على الحقيقة فلم يَبْقَ إلاّ تشبيه حالهم لشدة تمسُّكهم بالعناد ، وإعراضهم عن سماع القرآن ، وما يظهره الرسول من الأدلّة والآيات بمن هو أصمّ في الحقيقة فلا يسمع ، وإذا لم يسمع لم يتمكّن من الجواب ، فلذلك جعله بمنزلة الأَبْكَمِ ، وإذا لم ينتفع بالأدلّة ، ولم يبصر طريق الرشد ، فهو بمنزلة الأعمى .

وقوله : { فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ } أي : من التمسُّك بالنفاق فهم مستمرون على نفاقهم أبداً .

وقيل : لا يعودون إلى الهدى بعد أن باعوه ، أو عن الضَّلالة بعد أن اشتروها .

وقيل : أراد أنّهم بمنزلة المتحيّرين الّذين بقوا خامدين في مَكَانِهِمْ لا يبرحون ، ولا يدرون أيتقدّمون أم يتأخرّون ؟ وكيف يرجعون إلى حيث ابتدءوا منه ؟


[732]:- البيت لحميد بن ثور ينظر ديوانه: ص 105، وأمالي المرتضى: 2/213، وخزانة الأدب: 4/292، والشعر والشعراء: 1/398، والمقاصد النحوية: 2/562، تخليص الشواهد: ص 214، وشرح الأشموني: 1/106، وشرح ابن عقيل: ص 132، الدر المصون: 1/134.
[733]:- وهي قراءة عبد الله بن مسعود وحفصة أم المؤمنين. انظر المحرر الوجيز: 1/101، والبحر المحيط: 1/217، والقرطبي: 1/149.
[734]:- البيت لعروة بن الورد ينظر ديوانه: ص 58، الأغاني: 3/36، 38، الكتاب: 2/70، لسان العرب (نسأ)، أمالي المرتضى: 1/206، مجالس ثعلب: 2/417، وشرح أبيات سيبويه: (117)، القرطبي: (1/139)، الدر المصون: (1/134).
[735]:- أخرجه البخاري في الصحيح (1/68) كتاب العلم باب الإنصات للعلماء حديث رقم (121)، (3/4) كتاب الحج باب الخطبة أيام منى حديث رقم (1739)، (1741)، (6/14) كتاب المغازي باب حجة الوداع حديث رقم (4405) ومسلم في الصحيح (1/81 - 82) كتاب الإيمان (1) باب بيان معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم لا ترجعوا بعدي كفارا (29) حديث رقم (118/65). وأبو داود في السنن حديث رقم (4686). والترمذي في السنن حديث رقم (2193). والنسائي في السنن (7/126، 127). وابن ماجه في السنن حديث رقم (3942)، (3943). وأحمد في المسند (1/230، 402)، (2/104) - والبيهقي في السنن (5/140، 166)، (6/92)، (8/189). والطبراني في الكبير (2/348، 383)، (8/161)، (10/192)، (12/282، 359، 362، 416) - وابن عدي في الكامل (7/2593) والحاكم في المستدرك (1/93) - وذكره المنذري في الترغيب (1/132) - وابن حجر في فتح الباري (1/217)، (10/553)، (12/191)، (13/26) - والسيوطي في الدر المنثور (3/20، 235).