الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري - الزمخشري  
{صُمُّۢ بُكۡمٌ عُمۡيٞ فَهُمۡ لَا يَرۡجِعُونَ} (18)

كانت حواسهم سليمة ولكن لما سدّوا عن الإصاخة إلى الحق مسامعهم ، وأبوا أن ينطقوا به ألسنتهم ، وأن ينظروا ويتبصروا بعيونهم جعلوا كأنما أيفت مشاعرهم وانتقضت بناها التي بنيت عليها للإحساس والإدراك كقوله :

صُم إذا سَمِعُوا خَيْراً ذُكِرْتُ بِه *** وإنْ ذُكِرْتُ بُسوءٍ عِنْدَهُمْ أَذِنُوا

أَصَمُّ عَمَّا سَاءَهُ سَمِيعُ ***

أَصَمُّ عَنِ الشَّيْءِ الَّذِي لا أرِيدُهُ*** واسمع خلق الله حين أريد

فأصَممت عمراً وأعميته *** عَنِ الجُودِ والفَخْرِ يَوْمَ الفَخَار

فإن قلت : كيف طريقته عند علماء البيان ؟ قلت : طريقة قولهم «هم ليوث » للشجعان ، وبحور للأسخياء . إلا أنّ هذا في الصفات ، وذاك في الأسماء ، وقد جاءت الاستعارة في الأسماء والصفات والأفعال جميعاً . تقول : رأيت ليوثاً ، ولقيت صماً عن الخير ، ودجا الإسلام . وأضاء الحق .

فإن قلت : هل يسمى ما في الآية استعارة ؟ قلت : مختلف فيه . والمحققون على تسميته تشبيهاً بليغاً لا استعارة ؛ لأنّ المستعار له مذكور وهم المنافقون . والاستعارة إنما تطلق حيث يطوى ذكر المستعار له ، ويجعل الكلام خلواً عنه صالحاً لأن يراد به المنقول عنه والمنقول إليه ، لولا دلالة الحال أو فحوى الكلام ، كقول زهير :

لَدَى أَسَدٍ شَاكِي السِّلاَحِ مُقَذَّفٍ *** لَهُ لِبَدٌ أَظْفَارُهُ لَمْ تُقَلَّمِ

ومن ثم ترى المفلقين السحرة منهم كأنهم يتناسون التشبيه ويضربون عن توهمه صفحاً . قال أبو تمام :

ويُصْعِدُ حتَّي يَظُنَّ الجَهُولُ *** بأَنَّ لهُ حَاجَةً في السَّمَاءْ

وبعضهم :

لا تَحْسَبُوا أَنَّ في سِرْبَالِهِ رَجُلاً *** ففِيهِ غَيْثٌ وَلَيْثٌ مُسْبِلٌ مُشْبِل

وليس لقائل أن يقول : طوى ذكرهم عن الجملة بحذف المبتدأ فأتسلق بذلك إلى تسميته استعارة لأنه في حكم المنطوق به ، نظيره قول من يخاطب الحجاج :

أ َسَدٌ عَلَيَّ وفي الحُرُوبِ نَعَامَةٌ *** فَتْخاءُ تَنْفُرُ مِنْ صَفِيرِ الصَّافِرِ

ومعنى { لاَ يَرْجِعُونَ } أنهم لا يعودون إلى الهدى بعد أن باعوه ، أو عن الضلالة بعد أن اشتروها ، تسجيلاً عليهم بالطبع ، أو أراد أنهم بمنزلة المتحيرين الذين بقوا جامدين في مكانهم لا يبرحون ، ولا يدرون أيتقدّمون أم يتأخرون ؟ وكيف يرجعون إلى حيث ابتدءوا منه ؟