قوله تعالى : { فلما قضينا عليه الموت } أي : على سليمان . قال أهل العلم : كان سليمان عليه السلام يتجرد في بيت المقدس السنة والسنتين ، والشهر والشهرين ، وأقل من ذلك وأكثر . يدخل فيه طعامه وشرابه ، فأدخل في المرة التي مات فيها ، وكان بدء ذلك أنه كان لا يصبح يوماً إلا نبتت في محراب بيت المقدس شجرة ، فيسألها : ما اسمك ؟ فتقول : اسمي كذا ، فيقول : لأي شيء أنت ؟ فتقول : لكذا وكذا ، فيأمر بها فتقطع ، فإن كانت نبتت لغرس غرسها ، وإن كانت لدواء كتب ، حتى نبتت الخروبة ، فقال لها : ما أنت ؟ قالت : الخروبة ، قال : لأي شيء نبت ؟ قالت : لخراب مسجدك ، فقال سليمان : ما كان الله ليخربه وأنا حي ، أنت التي على وجهك هلاكي وخراب بيت المقدس ! فنزعها وغرسها في حائط له ، ثم قال : اللهم عم على الجن موتي حتى يعلم الإنس أن الجن لا يعلمون الغيب ، وكانت الجن تخبر الإنس أنهم يعلمون من الغيب أشياء ويعلمون ما في غد ، ثم دخل المحراب فقام يصلي متكئاً على عصاه فمات قائماً وكان للمحراب كوى بين يديه وخلفه ، فكانت الجن يعملون تلك الأعمال الشاقة التي كانوا يعملون في حياته ، وينظرون إليه يحسبون أنه حي ، ولا ينكرون احتباسه عن الخروج إلى الناس لطول صلاته قبل ذلك ، فمكثوا يدأبون له بعد موته حولاً كاملاً حتى أكلت الأرضة عصا سليمان ، فخر ميتاً فعلموا بموته . قال ابن عباس : فشكرت الجن الأرضة فهم يأتونها بالماء والطين في جوف الخشب ، فذلك قوله : { ما دلهم على موته إلا دابة الأرض } وهي الأرضة التي { تأكل منسأته } يعني : عصاه ، قرأ أهل المدينة ، وأبو عمرو : منسأته بغير همز ، وقرأ الباقون بالهمز ، وهما لغتان ، ويسكن ابن عامر الهمز ، وأصلها من : نسأت الغنم ، أي : زجرتها وسقتها ، ومنه : نسأ الله في أجله ، أي : أخره . { فلما خر } أي : سقط على الأرض ، { تبينت الجن } أي : علمت الجن وأيقنت ، { أن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين } أي : في التعب والشقاء مسخرين لسليمان وهو ميت يظنونه حياً ، أراد الله بذلك أن يعلم الجن أنهم لا يعلمون الغيب ، لأنهم كانوا يظنون أنهم يعلمون الغيب ، لغلبة الجهل عليهم . وذكر الأزهري : أن معناه ( تبينت الجن ) أي : ظهرت وانكشفت الجن للإنس ، أي : ظهر أمرهم أنهم لا يعلمون الغيب ، لأنهم كانوا قد شبهوا على الإنس ذلك ، وفي قراءة ابن مسعود ، وابن عباس : تبينت الإنس أن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين ، أي : علمت الإنس وأيقنت ذلك . وقرأ يعقوب : تبينت بضم التاء وكسر الياء أي : أعلمت الإنس الجن ، ذكر بلفظ ما لم يسم فاعله ، وتبين لازم ومتعد . وذكر أهل التاريخ أن سليمان كان عمره ثلاثاً وخمسين سنة ، ومدة ملكه أربعون سنة ، وملك يوم ملك وهو ابن ثلاث عشرة سنة ، وابتداء في بناء بيت المقدس لأربع سنين مضين من ملكه .
فلم يزل الشياطين يعملون لسليمان ، عليه الصلاة والسلام ، كل بناء ، وكانوا قد موهوا على الإنس ، وأخبروهم أنهم يعلمون الغيب ، ويطلعون على المكنونات ، فأراد اللّه تعالى أن يُرِيَ العباد كذبهم في هذه الدعوى ، فمكثوا يعملون على عملهم ، وقضى اللّه الموت على سليمان عليه السلام ، واتَّكأ على عصاه ، وهي المنسأة ، فصاروا إذا مروا به وهو متكئ عليها ، ظنوه حيا ، وهابوه .
فغدوا على عملهم كذلك سنة كاملة على ما قيل ، حتى سلطت دابة الأرض على عصاه ، فلم تزل ترعاها ، حتى باد وسقط فسقط سليمان عليه السلام وتفرقت الشياطين وتبينت الإنس أن الجن { لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ } وهو العمل الشاق عليهم ، فلو علموا الغيب ، لعلموا موت سليمان ، الذي هم أحرص شيء عليه ، ليسلموا مما هم فيه .
القول في تأويل قوله تعالى : { فَلَمّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلّهُمْ عَلَىَ مَوْتِهِ إِلاّ دَابّةُ الأرْضِ تَأْكُلُ مِنسَأَتَهُ فَلَمّا خَرّ تَبَيّنَتِ الْجِنّ أَن لّوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُواْ فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ } .
يقول تعالى ذكره : فلما أمضينا قضاءنا على سليمان بالموت فمات ما دَلّهُمْ عَلى مَوْتِهِ يقول : لم يدلّ الجنّ على موت سليمان إلاّ دَابّةُ الأرْضِ وهي الأَرَضَة وقعت في عصاه ، التي كان متكئا عليها فأكلتها ، فذلك قول الله عزّ وجلّ تَأْكُلُ مِنْسأَتَهُ . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني ابن المثنى وعليّ ، قالا : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : إلاّ دَابّةُ الأرْضِ تَأْكُلُ مِنْسأَتَهُ يقول : الأَرَضَة تأكل عصاه .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله تَأْكُلُ مِنْسأَتَهُ قال : عصاه .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثني أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : إلاّ دَابّةُ الأرْضِ قال : الأَرَضَة تَأْكُلُ مِنْسأَتَهُ قال : عصاه .
حدثني محمد بن عمارة ، قال : حدثنا عبد الله بن موسى ، قال : أخبرنا إسرائيل ، عن أبي يحيى ، عن مجاهد تأْكُلُ مِنْسأَتَهُ قال : عصاه .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا ابن عثمة ، قال : حدثنا سعيد بن بشير ، عن قتادة ، في قوله : تَأْكُلُ مِنْسأَتَهُ أكلت عصاه حتى خرّ .
حدثنا موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : المنسأة : العصا بلسان الحبشة .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد : المنسأة : العصا .
واختلفت القرّاء في قراءة قوله : مِنْسأتَهُ فقرأ ذلك عامة قرّاء أهل المدينة وبعض أهل البصرة : «مِنْساتَهُ » غير مهموزة وزعم من اعتلّ لقارىء ذلك كذلك من أهل البصرة أن المنِساة : العصا ، وأن أصلها من نسأت بها الغنم ، قال : وهي من الهمز الذي تركته العرب ، كما تركوا همز النبيّ والبرية والخابية ، وأنشد لترك الهمز في ذلك بيتا لبعض الشعراء :
إذَا دَبَبتَ عَلى المِنساةِ مِنْ هَرَمٍ *** فَقَدْ تَباعَدَ عَنْكَ اللّهْوُ والغَزَلُ
وذكر الفراء عن أبي جعفر الرّوَاسِيّ ، أنه سأل عنها أبا عمرو ، فقال : «مِنْساتَهُ » بغير همز .
وقرأ ذلك عامة قرّاء الكوفة : مِنْسأتَهُ بالهمز ، وكأنهم وجهوا ذلك إلى أنها مِفْعَلة ، من نسأت البعير : إذا زجرته ليزداد سيره ، كما يقال : نسأت اللبن : إذا صببت عليه الماء ، وهو النّسيء . وكما يقال : نسأ الله في أجلك أي أدام الله في أيام حياتك .
قال أبو جعفر : وهما قراءتان قد قرأ بكلّ واحدة منهما علماء من القرّاء بمعنى واحد ، فبأيتهما قرأ القارىء فمصيب ، وأن كنت أختار الهمز فيها لأنه الأصل .
وقوله : فَلَمّا خَرّ تَبَيّنَتِ الجِنّ يقول عزّ وجلّ : فلما خرّ سليمان ساقطا بانكسار منسأته تبيّنت الجنّ أنْ لو كانوا يعلمون الغَيْبَ الذي يدّعون علمه ما لَبِثُوا فِي العَذَابِ المُهِينِ المذلّ حولاً كاملاً بعد موت سليمان ، وهم يحسبون أن سليمان حيّ . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا أحمد بن منصور ، قال : حدثنا موسى بن مسعود أبو حذيفة ، قال : حدثنا إبراهيم بن طهمان ، عن عطاء بن السائب ، عن سعيد بن جُبَير ، عن ابن عباس ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال : «كانَ سُلَيْمانُ نَبِيّ اللّهِ إذَا صَلّى رأَى شَجَرَةً نابِتَةً بينَ يَدَيْهِ ، فَيَقُولُ لَهَا : ما اسمُكِ ؟ فَتَقُولُ : كَذَا ، فَيَقُولُ : لأَيّ شَيْءٍ أنْتِ ؟ فإنْ كانَتْ تُغْرَسُ غُرِسَتْ ، وَإنْ كانَتْ لِدَوَاءٍ كُتِبَتْ ، فَبَيْنَما هُوَ يُصَلّي ذَاتَ يَوْمٍ ، إذْ رأى شَجَرَةً بينَ يَدَيْهِ ، فَقالَ لَهَا : ما اسمُكِ ؟ قالَتْ : الخَرّوب ، قالَ : لأَيّ شَيْءٍ أنْتِ ؟ قالَتْ : لخَرَابِ هَذَا البَيْتِ ، فَقالَ سُلَيْمانُ : اللّهُمّ عَمّ على الجِنّ مَوْتِي حتى يَعْلَمَ الإنْسُ أنّ الجِنّ لا يَعْلَمُونَ الغَيْبَ ، فَنَحَتَها عَصا فَتَوَكّأَعَلَيْها حَوْلاً مَيّتا ، والجِنّ تَعْمَلُ ، فأكَلَتْها الأرَضَةُ ، فَسَقَطَ ، فَتَبَيّنَتِ الإنْسُ أنّ الجِنّ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ الغَيْبَ ما لَبِثُوا حَوْلاً فِي العَذَابِ المُهِينِ » قال : وكان ابن عباس يقرؤها كذلك ، قال : فشكرت الجنّ للأرضة ، فكانت تأتيها بالماء .
حدثنا موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ ، في خبر ذكره عن أبي مالك ، وعن أبي صالح ، عن ابن عباس ، وعن مُرّة الهمْدانيّ ، عن ابن مسعود ، وعن أناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : كان سليمان يتجرّد في بيت المقدس السنة والسنتين ، والشهر والشهرين ، وأقلّ من ذلك وأكثر ، يَدْخل طعامه وشرابه ، فدخله في المرّة التي مات فيها ، وذلك أنه لم يكن يوم يُصبح فيه ، إلا تنبت فيه شجرة ، فيسألها ما اسمك ، فتقول الشجرة : اسمي كذا وكذا ، فيقول لها : لأيّ شيء نبتّ ؟ فتقول : نبتّ لكذا وكذا ، فيأمر بها فتقطع ، فإن كانت نبتت لغرس غرسها ، وإن كانت نبتت لدواء ، قالت : نبتّ دواء لكذا وكذا ، فيجعلها كذلك ، حتى نبتت شجرة يقال لها الخرّوبة ، فسألها : ما اسمك ؟ فقالت له : أنا الخرّوبة ، فقال : لأيّ شيء نبتّ ؟ قالت : لخراب هذا المسجد قال سليمان : ما كان الله ليخربه وأنا حيّ ، أنت التي على وجهك هلاكي وخراب بيت المقدس ، فنزعها وغرسها في حائط له ، ثم دخل المحراب ، فقام يصلي متكئا على عصاه ، فمات ولا تعلم به الشياطين في ذلك ، وهم يعملون له يخافون أن يخرج فيعاقبهم وكانت الشياطين تجتمع حول المحراب ، وكان المحراب له كُوًى بين يديه وخلفه ، وكان الشيطان الذي يريد أن يخلع يقول : ألست جَلدا إن دخلتُ ، فخرجتُ من الجانب الاَخر فدخل شيطان من أولئك فمرّ ، ولم يكن شيطان ينظر إلى سليمان في المحراب إلا احترق ، فمرّ ولم يسمع صوت سليمان عليه السلام ، ثم رجع فلم يسمع ، ثم رجع فوقع في البيت فلم يحترق ، ونظر إلى سليمان قد سقط فخرج فأخبر الناس أن سليمان قد مات ، ففتحوا عنه فأخرجوه ووجدوا منسأته ، وهي العصا بلسان الحبشة ، قد أكلتها الأرضة ، ولم يعلموا منذ كم مات ، فوضعوا الأرضة على العصا ، فأكلت منها يوما وليلة ، ثم حسبوا على ذلك النحو ، فوجدوه قد مات منذ سنة . وهي في قراءة ابن مسعود : «فمكثوا يدأبون له من بعد موته حولاً كاملاً » فأيقن الناس عند ذلك أن الجنّ كانوا يكذِبونهم ، ولو أنهم علموا الغيب لعلموا بموت سليمان ، ولم يلبثوا في العذاب سنة يعملون له ، وذلك قول الله : ما دَلّهُمْ عَلى مَوْتِهِ إلاّ دَابّةُ الأرْضِ تَأْكُلُ مِنْسأَتَهُ فَلَمّا خَرّ تَبَيّنَتِ الجِنّ أنْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ الغَيْبَ ما لَبِثُوا فِي العَذابِ المُهِينِ يقول : تبين أمرهم للناس أنهم كانوا يكذِبونهم ، ثم إن الشياطين قالوا للأرضة : لو كنت تأكلين الطعام أتيناك بأطيب الطعام ، ولو كنت تشربين الشراب سقيناك أطيب الشراب ، ولكنا سننقل إليك الماء والطين ، فالذي يكون في جوف الخشب ، فهو ما تأتيها به الشياطين شكرا لها .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قال : كانت الجنّ تخبر الإنس أنهم كانوا يعلمون من الغيب أشياء ، وأنهم يعلمون ما في غد ، فابتلوا بموت سليمان ، فمات ، فلبث سنة على عصاه وهم لا يشعرون بموته ، وهم مسخرون تلك السنة يعملون دائبين فَلَمّا تَبَيّنَتِ الْجِنّ أنْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ الغَيْبَ ما لَبِثُوا فِي العَذَابِ المُهِينِ ولقد لبثوا يدأبون ، ويعملون له حولاً .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : ما دَلّهُمْ عَلى مَوْتِهِ إلاّ دَابّةُ الأرْضِ تَأْكُلُ مِنْسأَتَهُ قال : قال سليمان لملك الموت : يا ملك الموت ، إذا أُمِرْتَ بي فأعلمني قال : فأتاه فقال : يا سليمان ، قد أُمرت بك ، قد بقيت لك سُويعة ، فدعا الشياطين فبنوا عليه صرحا من قوارير ، ليس له باب ، فقام يصلي ، واتكأ على عصاه قال : فدخل عليه ملك الموت فقبض روحه وهو متكىء على عصاه ولم يصنع ذلك فرارا من ملك الموت ، قال : والجنّ تعمل بين يديه ، وينظرون إليه ، يحسبون أنه حيّ ، قال : فبعث الله دابة الأرض ، قال : دابة تأكل العِيدان يقال لها القادح ، فدخلت فيها فأكلتها ، حتى إذا أكلت جوف العصا ، ضعفت وثقل عليها ، فخرّ ميتا ، قال : فلما رأت الجنّ ذلك ، انفضوا وذهبوا ، قال : فذلك قوله : ما دَلّهُمْ عَلى مَوْتِهِ إلاّ دَابّةُ الأرْضِ تَأْكُلُ مِنْسأَتَهُ قال : والمنسأة : العصا .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن عطاء ، قال : كان سليمان بن داود يصلي ، فمات وهو قائم يصلي والجنّ يعملون لا يعلمون بموته ، حتى أكلت الأرضة عصاه ، فخرّ ، و«أن » في قوله : أن لَوْ كانُوا في موضع رفع بتبين ، لأن معنى الكلام : فلما خرّ تبين وانكشف ، أن لو كان الجنّ يعلمون الغيب ، ما لبثوا في العذاب المهين .
وأما على التأويل الذي تأوّله ابن عباس من أن معناه : تبينت الإنس الجنّ ، فإنه ينبغي أن يكون في موضع نصب بتكريرها على الجنّ ، وكذلك يجب على هذه القراءة أن تكون الجنّ منصوبة ، غير أني لا أعلم أحدا من قرّاء الأمصار يقرأ ذلك بنصب الجنّ ، ولو نصب كان في قوله تَبَيّنَت ضمير من ذكر الإنس .
{ فلما قضينا عليه الموت } أي على سليمان . { ما دلهم على موته } ما دل الجن وقيل آله { إلا دابة الأرض } أي الأرضة أضيفت إلى فعلها ، وقرئ بفتح الراء وهو تأثر الخشبة من فعلها يقال : أرضت الأرضة الخشبة أرضا فأرضت أرضا مثل أكلت القوادح الأسنان أكلا فأكلت أكلا { تأكل منسأته } عصاه من نسأت البعير إذا طردته لأنها يطرد بها ، وقرئ بفتح الميم وتخفيف الهمزة قلبا وحذفا على غير قياس إذ القياس إخراجها بين ، و { منساءته } على مفعالة كميضاءة في ميضاة و { منسأته } أي طرف عصاه مستعار من سأة القوس ، وفيه لغتان كما في قحة وقحة ، وقرأ نافع وأبو عمرو " منساته " بألف بدلا من الهمزة وابن ذكوان بهمزة ساكنة وحمزة إذا وقف جعلها بين بين . { فلما خر تبينت الجن } علمت الجن بعد التباس الأمر عليهم . { أن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين } أنهم لو كانوا يعلمون الغيب كما يزعمون لعلموا موته حينما وقع فلم يلبثوا حولا في تسخيره إلى أن خرّ ، أو ظهرت الجن وأن بما في حيزه بدل منه أي ظهر أن الجن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب . وذلك أن داود أسس بيت المقدس في موضع فسطاط موسى عليهما الصلاة والسلام فمات قبل تمامه ، فوصى به إلى سليمان عليه السلام فاستعمل الجن فيه فلم يتم بعد إذ دنا أجله وأعلم به ، أراد أن يعمي عليهم موته ليتموه فدعاهم فبنوا عليه صرحا من قوارير ليس له باب ، فقام يصلي متكئا على عصاه فقبض روحه وهو متكئ عليها ، فبقي كذلك حتى أكلتها الأرضة فخر ثم فتحوا عنه أرادوا أن يعرفوا وقت موته ، فوضعوا الأرضة على العصا فأكلت يوما وليلة مقدارا فحسبوا على ذلك فوجوده قد مات منذ سنة ، وكان عمره ثلاثا وخمسين سنة وملك وهو ابن ثلاثة عشرة سنة ، وابتدأ عمارة بيت المقدس لأربع مضين من ملكه .
الضمير في { عليه } عائد على سليمان ، و { قضينا } بمعنى أنفذنا وأخرجناه إلى حيز الوجود وإلا فالقضاء الآخر به متقدم في الأزل ، وروي عن ابن عباس وابن مسعود في قصص هذه الآية أن سليمان عليه السلام كان يتعبد في بيت المقدس وكان ينبت في محرابه كل سنة شجرة فكان يسألها عن منافعها ومضارها وسائر شأنها فتخبره فيأمر بها فتقلع فتصرف في منافعها وتغرس لتتناسل ، فلما كان عند موته خرجت شجرة فقال لها ما أنت ؟ فقالت : أنا الخروب خرجت لخراب ملكك هذا ، فقال سليمان عليه السلام : ما كان الله ليخربه وأنا حي ولكنه لا شك حضور أجلي فاستعد عليه السلام وغرسها وصنع منها عصا لنفسه وجد في عبادته ، وجاءه بعد ذلك ملك الموت فأخبره أنه قد أمر بقبض روحه وأنه لم يبق له إلا مدة يسيرة ، فروي أنه أمر الجن حينئذ فصنعت له قبة من رخام تشف وجعل فيها يتعبد ولم يجعل لها باباً ، وتوكأ على عصاه على موضع يتماسك معه وإن مات ، ثم توفي صلى الله عليه وسلم على تلك الحالة ، وروي أنه استعد في تلك القبة بزاد سنة وكان الجن يتوهمون أنه يتغذى بالليل وكانوا لا يقربون من القبة ولا يدخلون من كوة كانت في أعاليها ، ومن رام ذلك منهم احترق قبل الوصول إليها ، هذا في المدة التي كان سليمان عليه السلام حياً في القبة ، فلما مات بقيت تلك الهيبة على الجن ، وروي أن القبة كان لها باب وأن سليمان أوصى بعض أهله بكتمان موته على الجن والإنس وأن يترك على حاله تلك سنة ، وكان غرضه في هذه السنة أن تعمل الجن عملاً كان قد بدىء في زمن داود قدر أنه بقي منه عمل سنة ، فأحب الفراغ منه ، فلما مضى لموته سنة ، خر عن عصاه والعصا قد أكلته الأرض ، وهي الدودة التي تأكل العود ، فرأت الجن انحداره ، فتوهمت موته فجاء جسور منهم فقرب فلم يحترق ، ثم خطر فعاد ثم قرب أكثر ثم قرب حتى دخل من بعض تلك الكوى فوجد سليمان ميتاً ، فأخبر بموته ، فنظر ذلك الأكل فقدر أنه منذ سنة ، وقال بعض الناس : جعلت الأرضة فأكلت يوماً وليلة ثم قيس ذلك بأكلها في العصا فعلم أنها أكلتها منذ سنة فهكذا كانت دلالة { دابة الأرض } على موته ، وللمفسرين في هذه القصص إكثار عمدته ما ذكرته ، وقال كثير من المفسرين { دابة الأرض } هي سوسة العود وهي الأرضة ، وقرأ ابن عباس والعباس بن المفضل «الأرض » بفتح الراء جمع أرضة فهذا يقوي ذلك التأويل ، وقالت فرقة { دابة الأرض } حيوان من الأرض شأنه أن يأكل العود ، وذلك موجود وليس السوسة من دواب الأرض ، وقالت فرقة منها أبو حاتم اللغوي { الأرض } هنا مصدر أرضت الأثواب والخشبة إذا أكلتها الأرضة ، فكأنه قال دابة الأكل الذي هو بتلك الصورة على جهة التسوس ، وفي مصحف عبد الله «الأرض أكلت منسأته » ، والمنسأة العصا ومنه قول الشاعر : [ البسيط ]
إذا دببت على المنساة من هرم . . . فقد تباعد عنك اللهو والغزل{[9624]}
وقرأ جماعة من القراء «منساته » بغير همز منها أبو عمرو ونافع ، قال أبو عمرو لا أعرف لها اشتقاقاً فأنا لا أهمزها لأنها إن كانت مما يهمز فقد يجوز لي ترك الهمز فيما يهمز ، وإن كانت مما لا يهمز فقد احتطت لأنه لا يجوز لي همز ما لا يهمز ، وقال غيره أصلها الهمز وهي «المنسأة » مفتوحة من نسأت الإبل والغنم والناقة إذا سقتها ومنه قول طرفة : [ الطويل ]
أمون كعيدان الاران نسأتها . . . على لاحب كأنه ظهر برجد{[9625]}
ويروى «وعنس » كألواح وخففت همزتها جملة ، وكان القياس أن تخفف بين بين ، وقرأ باقي السبعة «منسأته » على الأصل بالهمز ، وقرأ حمزة «مَنساته » بفتح الميم وبغير همز ، وقرأت فرقة «مسنأْته » بهمزة ساكنة وهذا لا وجه له إلا التخفيف في تسكين المتحرك لغير علة كما قال امرؤ القيس : [ السريع ]
فاليوم أشرب غير مستحقب . . . إثماً من الله ولا واغلِ{[9626]}
وقرأت فرقة «من ساتِه » بفصل «من » وكسر التاء وهذه تنحو إلى سية القوس لأنه يقال سية وساة ، فكأنه قال «من ساته » ثم سكن الهمزة ومعناها من طرف عصاه أنزل العصا منزلة القوس ، وقال بعض الناس : إن سليمان عليه السلام لم يمت إلا في سفر مضطجعاً ولكنه كان في بيت مبني عليه وأكلت الأرضية عتبة الباب حتى خر البيت فعلم موته .
قال الفقيه الإمام القاضي : وهذا ضعيف وقرأ الجمهور «تبينت الجنُّ » بإسناد الفعل إليها أي بان أمرها كأنه قال افتضحت الجن أي للإنس ، هذا تأويل ، ويحتمل أن يكون قوله { تبينت الجن } بمعنى علمت الجن وتحققت ، ويريد { الجن } جمهورهم والفعلة منهم والخدمة ويريد بالضمير في { كانوا } رؤساءهم وكبارهم لأنهم هم الذين يدعون علم الغيب لأتباعهم من الجن والإنس ويوهمونهم ذلك ، قاله قتادة ، فيتيقن الأتباع أن الرؤساء { لو كانوا } عالمين الغيب { ما لبثوا } و { أن } على التأويل الأول بدل من { الجن } وعلى التأويل الثاني مفعولة محضة ، وقرأ يعقوب «تُبينت الجن » على بناء الفعل للمفعول أي تبينتها الناس ، و { أن } على هذه القراءة بدل ، ويجوز أن تكون في موضع نصب بإسقاط حرف الجر أي «بأن » على هذه القراءة وعلى التأويل الأول من القراءة الأولى .
قال الفقيه الإمام القاضي : مذهب سيبويه أن { أن } في هذه الآية لا موضع لها من الإعراب وإنما هي مؤذنة بجواب ما تنزل منزلة القسم من الفعل الذي معناه التحقق واليقين ، لأن هذه الأفعال التي تبينت وتحققت وعلمت وتيقنت ونحوها تحل محل القسم في قولك : علمت أن لو قام زيد ما قام عمرو ، فكأنك قلت والله لو قام زيد ما قام عمرو ، فقوله { ما لبثوا } على هذا القول جواب ما تنزل منزلة القسم لا جواب { لو } وعلى الأقوال الأول جواب { لو } وفي كتاب النحاس إشارة إلى أنه يقرأ «تبينت الجن » أي تبينت الإنس الجن ، و { العذاب المهين } هو العمل في تلك السخرة ، والمعنى أن الجن لو كانت تعلم الغيب لما خفي عليها موت سليمان ، وقد ظهر أنه خفي عليها بدوامها في الخدمة الصعبة وهو ميت ، ف { المهين } المذل من الهوان ، قال الطبري وفي بعض القراءات «فلما خر تبينت الإنس أن الجن لو كانوا » وحكاها أبو الفتح عن ابن عباس والضحاك وعلي بن الحسين وذكر أبو حاتم أنها كذلك في مصحف ابن مسعود . قال القاضي أبو محمد : وكثر المفسرون في قصص هذه الآية بما لا صحة له ولا تقتضيه ألفاظ القرآن ( وفي معانيه بعد فاختصرته لذلك ) .