قوله تعالى : { قال رب } ، أي : يا رب ، { السجن أحب إلي مما يدعونني إليه } ، قيل : كان الدعاء منها خاصة ، ولكنه أضاف إليهن خروجا من التصريح إلى التعريض . وقيل : إنهن جميعا دعونه إلى أنفسهن . وقرأ يعقوب وحده : السجن بفتح السين . وقرأ العامة بكسرها . وقيل : لو لم يقل : السجن أحب إلي لم يبتل بالسجن ، والأولى بالمرء أن يسأل الله العافية . قوله تعالى : { وإلا تصرف عني كيدهن أصب إليهن } ، أمل إليهن وأتابعهن ، يقال : صبا فلان إلى كذا يصبو صبوا وصبوا وصبوة إذا مال واشتاق إليه . { وأكن من الجاهلين } ، فيه دليل على أن المؤمن إذا ارتكب ذنبا يرتكبه عن جهالة .
و { قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ } وهذا يدل على أن النسوة ، جعلن يشرن على يوسف في مطاوعة سيدته ، وجعلن يكدنه في ذلك .
فاستحب السجن والعذاب الدنيوي على لذة حاضرة توجب العذاب الشديد ، { وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ } أي : أمل إليهن ، فإني ضعيف عاجز ، إن لم تدفع عني السوء ، { وَأَكُنْ } إن صبوت إليهن { مِنَ الْجَاهِلِينَ } فإن هذا جهل ، لأنه آثر لذة قليلة منغصة ، على لذات متتابعات وشهوات متنوعات في جنات النعيم ، ومن آثر هذا على هذا ، فمن أجهل منه ؟ " فإن العلم والعقل يدعو إلى تقديم أعظم المصلحتين وأعظم اللذتين ، ويؤثر ما كان محمود العاقبة .
القول في تأويل قوله تعالى : { قَالَ رَبّ السّجْنُ أَحَبّ إِلَيّ مِمّا يَدْعُونَنِيَ إِلَيْهِ وَإِلاّ تَصْرِفْ عَنّي كَيْدَهُنّ أَصْبُ إِلَيْهِنّ وَأَكُن مّنَ الْجَاهِلِينَ } .
قال أبو جعفر : وهذا الخبر من الله يدلّ على أن امرأة العزيز قد عاودت يوسف في المراودة عن نفسه ، وتوعدته بالسجن والحبس إن لم يفعل ما دعته إليه ، فاختار السجن على ما دعته إليه من ذلك ؛ لأنها لو لم تكن عاودته وتوعدته بذلك ، كان محالاً أن يقول : { رَبّ السّجْنُ أحَبّ إليّ مِمّا يَدْعُونَنِي إلَيْهِ } ، وهو لا يدعى إلى شيء ولا يخوّف بحبس . والسجن هو : الحبس نفسه ، وهو بيت الحبس . وبكسر السين قرأه قرأة الأمصار كلها ، والعرب تضع الأماكن المشتقة من الأفعال مواضع الأفعال ، فتقول : طلعت الشمس مَطْلِعا ، وغربت مَغْرِبا ، فيجعلونها ، وهي أسماء ، خلَفا من المصادر ، فكذلك السجن ، فإذا فتحت السين من السجن كان مصدرا صحيحا . وقد ذُكر عن بعض المتقدمين أنه يقرؤه : { السَّجْنُ أحَبّ إليّ } ، بفتح السين . ولا أستجيز القراءة بذلك ، لإجماع الحجة من القرأة على خلافها .
قال أبو جعفر : وتأويل الكلام : قال يوسف : يا ربّ الحبس في السجن { أحبّ إليّ مما يدعونني إليه } ، من معصيتك ، ويراودنني عليه من الفاحشة . كما :
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : { قالَ رَبّ السّجْنُ أحَبّ إليّ مِمّا يَدْعُونَنِي إلَيْهِ } : من الزنا .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، قال : قال يوسف ، وأضاف إلى ربه واستعانه على ما نزل به : { رَبّ السّجْنُ أحَبّ إليّ مِمّا يَدْعُونَنِي إلَيْهِ } ، أي : السجن أحبّ إليّ من أن آتيَ ما تكره .
وقوله : { وَإلاّ تَصْرِفْ عَنّي كَيْدَهُنّ أصْبُ إلَيْهِنّ } ، يقول : وإن لم تدفع عني يا ربّ فعلهنّ الذي يفعلن بي في مراودتهنّ إياي على أنفسهن { أَصْبُ إليهنّ } ، يقول : أميل إليهنّ ، وأتابعهنّ على ما يردن مني ، ويهوَين ، من قول القائل : صبا فلان إلى كذا ، ومنه قول الشاعر :
إلى هِنْدٍ صَبا قَلْبِي *** وهِنْدٌ مثْلُها يُصْبِي
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : { أصْبُ إلَيْهِنّ } ، يقول : أتابعهنّ .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : { وَإلاّ تَصْرِفْ عَنِي كَيْدَهُنّ } ، أي : ما أتخوّف منهنّ { أصْبُ إلَيْهِنّ } .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : { وَإلاّ تَصْرِفْ عَنّي كَيْدَهُنّ أصْبُ إلَيْهِنّ وأكُنْ مِنَ الجاهِلِينَ } ، قال : إلا يكن منك أنت العون والمنعة ، لا يكن مني ولا عندي .
وقوله : { وأكُنْ مِنَ الجاهِلِينَ } ، يقول : وأكن بصبوتي إليهنّ من الذين جهلوا حقك وخالفوا أمرك ونهيك . كما :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : { وأكُنْ مِنَ الجاهِلِينَ } ، أي : جاهلاً إذا ركبت معصيتك .
{ قال رب السجن } وقرأ يعقوب بالفتح على المصدر . { أحب إليّ مما يدعونني إليه } أي آثر عندي من مؤاتاتها زناً نظرا إلى العاقبة وإن كان هذا مما تشتهيه النفس وذلك مما تكرهه ، وإسناد الدعوة إليهن جميعا لأنهن خوفنه من مخالفتها وزين له مطاوعتها . أو دعونه إلى أنفسهن ، وقيل إنما ابتلي بالسجن لقوله هذا وإنما كان الأولى به أن يسأل الله العافية ولذلك رد رسول الله صلى الله عليه وسلم على من كان يسأل الصبر . { وإلا تصرف عني } وإن لم تصرف عني . { كيدهن } في تحبيب ذلك إلي وتحسينه عندي بالتثبيت على العصمة . { أصبُ إليهن } أمل إلى جانبهن أو إلى أنفسهن بطبعي ومقتضى شهوتي ، والصبوة الميل إلى الهوى ومنه الصبا لأن النفوس تستطيبها وتميل إليها . وقرئ { أصب } من الصبابة وهي الشوق . { وأكن من الجاهلين } من السفهاء بارتكاب ما يدعونني إليه فإن الحكيم لا يفعل القبيح ، أو من الذين لا يعملون بما يعلمون فإنهم والجهال سواء .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.