اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{قَالَ رَبِّ ٱلسِّجۡنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدۡعُونَنِيٓ إِلَيۡهِۖ وَإِلَّا تَصۡرِفۡ عَنِّي كَيۡدَهُنَّ أَصۡبُ إِلَيۡهِنَّ وَأَكُن مِّنَ ٱلۡجَٰهِلِينَ} (33)

قوله : { رَبِّ السجن } العامة على كسر الباء ؛ لأنه مضافٌ لياء المتكلم ، اجتزىء عنها باكسرة ، وهي الفصحى ، و " السِّجنُ " : بكسر السين ، ورفع النُّون ، على أنَّه مبتدأ ، والخبر : " أحَبُّ " و " السِّجنُ " الحبسُن والمعنى : دخول السِّجنِ .

وقرأ بعضهم : " ربُّ السِّجنُ " بضمِّ الباءِ ، وجرِّ النون ، على أنَّ " ربُّ " مبتدأ و " السِّجن " خفض بالإضافة ، وأَحبُّ " : خبره ، والمعنى : ملاقاةُ صاحب السجن ، ومقاساته أحبُّ إليَّ .

وقرأ عثمان ، ومولاه طارق ، وزيد بن علي ، والمرهريُّ ، وابن أبي إسحاق ، وابن هرمز ، ويعقوب : بفتح السِّين ، وفي الباقي كالعامَّة .

والسِّجنُ : مصدرٌ ، أي : الحبسُ أحبُّ [ إليَّ ] ، و " إليَّ " متعلقٌ ب " أحَبُّ " ، وقد تقدم [ يوسف : 8 ] : وإنَّما هذان شرَّان ، فآثر أحد الشَّرينِ على الآخر .

فصل

الظَّاهر أنَّ النسوة لما سمعن هذا التهديد ، قلن له : لا مصحلة لك في مخالفة أمرها ، وإلاَّ وقعت في السِّجنِ وفي الصَّغار ، فعند ذلك اجتمع في حقِّ يوسف ، أنواع الترغيب في الموافقة :

أحدهما : أنَّ " زُلَيْخَا " كانت في غاية الحسن .

والثاني : أنها كانت على عزم أن تبذُل الكُّلَّ ليوسف ، إن طاوعها .

الثالث : أن النسوة اجتمعن عليه ، وكلُّ واحدةٍ منهم كانت ترغبه ، وتخوفه بطريقٍ غير طريقِ الأخرى ، ومكرُ النساءِ في هذا الكتاب شديدٌ .

الرابع : أنه عليه الصلاة والسلام كان خائفاً من شرِّها ، ومن إقدامها على قتله ، وإهلاكه .

فاجتمع في حقِّه جميع جهات الترغيب ؛ على موافقتها ، وجميع جهات التَّخويف ؛ على مخالفتها ، فخاف صلى الله عليه وسلم أن تؤثر هذه الأسباب الكثيرة فيه ، والوقوة البشريَّة لا تفي بحصول هذه القضية القوية ؛ فعند ذلك التجأ إلى الله تعالى وقال : { رَبِّ السجن أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يدعونني إِلَيْهِ } وقدَّم محبته السِّجن وإن كانت معصية ؛ لأنها أخفُّ ، وذلك أنه متى لزم ارتكابُ أحد قسمين ، كلِّ واحدٍ منهما يضرُّ ، فارتكابُ اقلِّ الضررين أولى ؛ والأولى بالمرءِ أن يسأل الله العافية .

فإن قيل : كيف قال : " يَدْعُوننِي إليْهِ " وإنما دعتْه زُلَيْخَا خاصَّة ؟ .

فالجواب : أضافهُ إليهنَّ ؛ خُروجاً من التصريح إلى التعريض ، وأراد الجنس ، وقيل إنهن جميعاً دعونه إلى أنفُسهِنَّ ، وقيل أراد ترغيبهنّ له في مُطَاوعِتهَا .

فصل

{ وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ } قرأ العامة بتخفيف الباء ، من : صَبَا يَصْبُو ، أي : رقَّ شوقُه ، والصَّبْوة : الميلُ إلى الهوى ، ومنه " الصَّبَا " ؛ لأن النُّفوسَ تصبُّو إليها ، أي : تميِلُ إلى نسيمها ورَوْحِهَا ، يقال : صَبَا يَصْبُو صَبَاءً وصُبُوًّا ، وصَبِيَ يُصبْي صَباً ، والصِّبَا بالكسرة : اللَّهو ، واللَّعب .

وقرأت فرقةٌ " أصُبَّ " بتشديدهخا من صَبَيْتُ صَبَابَةً ، فأنا صبٌّ ، والصَّبابَةُ : رقَّةُ الشْوقِ ، وإفراطه ؛ كأنه لفَرْطِ حُبِّه يَنْصَبُّ فِيمَا يَهْوَاه كما يَنصَبُّ المَاءُ .

فصل

احتجُّوا بهذه الآيةِ على أنَّ الإنسان لا ينصرفُ عن المعصية ، إلاَّ إذا صرفه الله عنها .

قالوا : لأن هذه الآية تدلُّ على أنه إنْ لم يصرفه عن ذلك القبيح ، وقع فيه . وتقريره : أنَّ الداعي إلى الفعل ، والترْكِ ، إن استويا ، امتنع الفعل ؛ لأن الفعل أحدْ رجحان الطرفين ، ومَرْجُوحيَّة الطرفِ الآخرن وحصولهما حال استواء الطرفين جمع بين النقيضين ؛ وهو محالٌ ، فإن حص الرجحانُ في أحد الطرفين ، فذلك الرجحانُ ليس من العبدِ ، وإلا لذهبت المراتب إلى غير نهايةٍ ، بل نقول : من الله تعالى ، فالصَّرفُ عبارةٌ عن جعله مَرْجُوحاً ؛ لأنه متى صار مَرْجُوحاً ، صار ممتنع الوقوع ؛ لأن الوقوع رجحانٌ ، فلو وقع في حالِ المرجوحةِ ، لحصل الرجحان حال حصولِ المرجوحيَّة ، وهو مقتضى حصول الجمع بين النقيضين ؛ وهو محالٌ .

فثبت بهذا أنَّ انصراف العبد عن القبيح ليس إلا الله من الله .

وأيضاً : فإنَّه كان قد حصل في " يُوسفَ " جميعُ الأسباب المرغِّبةِ في المعصية ، وهو الانتفاعُ بالمالِ والجاه ، والتَّمتُّع بالمطعومِ ، فقد فويتْ دواعي الفعل ، وضعفت الدَّواعي المعارضة لدواعي المعصيةِ ؛ إذْ لو لم يحصل هذا التعارضُ ، لحصل الترجيحُ للوقوع في المعصية خالياً عما يعارضه ؛ وذلك يوجبُ وقوع الفعل ، وهو المراد من قوله { أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُن مِّنَ الجاهلين } وفيه دليلٌ على أنَّ المؤمن إذا ارتكب ذنباً ، يرتكبه عن جهالةٍ .