مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{قَالَ رَبِّ ٱلسِّجۡنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدۡعُونَنِيٓ إِلَيۡهِۖ وَإِلَّا تَصۡرِفۡ عَنِّي كَيۡدَهُنَّ أَصۡبُ إِلَيۡهِنَّ وَأَكُن مِّنَ ٱلۡجَٰهِلِينَ} (33)

قوله تعالى { قال رب السجن أحب إلي مما يدعونني إليه وإلا تصرف عني كيدهن أصب إليهن وأكن من الجاهلين }

واعلم أن المرأة لما قالت : { ولئن لم يفعل ما آمره ليسجنن وليكونا من الصاغرين } وسائر النسوة سمعن هذا التهديد فالظاهر أنهن اجتمعن على يوسف عليه السلام وقلن لا مصلحة لك في مخالفة أمرها وإلا وقعت في السجن وفي الصغار . فعند ذلك اجتمع في حق يوسف عليه السلام أنواع من الوسوسة : أحدها : أن زليخا كانت في غاية الحسن ، والثاني : أنها كانت ذات مال وثروة ، وكانت على عزم أن تبذل الكل ليوسف بتقدير أن يساعدها على مطلوبها . والثالث : أن النسوة اجتمعن عليه وكل واحدة منهن كانت ترغبه وتخوفه بطريق آخر ، ومكر النساء في هذا الباب شديد ، والرابع : أنه عليه السلام كان خائفا من شرها وإقدامها على قتله وإهلاكه ، فاجتمع في حق يوسف جميع جهات الترغيب على موافقتها وجميع جهات التخويف على مخالفتها ، فخاف عليه السلام أن تؤثر هذه الأسباب القوية الكثيرة فيه .

واعلم أن القوة البشرية والطاقة الإنسانية لا تفي بحصول هذه العصمة القوية ، فعند هذا التجأ إلى الله تعالى وقال : { رب السجن أحب إلى مما يدعونني إليه } وقرئ { السجن } بالفتح على المصدر ، وفيه سؤالان :

السؤال الأول : السجن في غاية المكروهية ، وما دعونه إليه في غاية المطلوبية ، فكيف قال : المشقة أحب إلي من اللذة :

والجواب : أن تلك اللذة كانت تستعقب آلاما عظيمة ، وهي الذم في الدنيا والعقاب في الآخرة ، وذلك المكروه وهو اختيار السجن ، كان يستعقب سعادات عظيمة ، وهي المدح في الدنيا والثواب الدائم في الآخرة ، فلهذا السبب قال : { السجن أحب إلى مما يدعونني إليه } .

السؤال الثاني : أن حبسهم له معصية كما أن الزنا معصية ، فكيف يجوز أن يحب السجن مع أنه معصية .

والجواب : تقدير الكلام أنه إذا كان لا بد من التزام أحد الأمرين أعني الزنا والسجن ، فهذا أولى ، لأنه متى وجب التزام أحد شيئين كل واحد منهما شر فأخفهما أولاهما بالتحمل .

ثم قال : { وإلا تصرف عنى كيدهن أصب إليهن وأكن من الجاهلين } أصب إليهن أمل إليهن يقال : صبا إلى اللهو يصبو صبوا إذا مال ، واحتج أصحابنا بهذه الآية على أن الإنسان لا ينصرف عن المعصية إلا إذا صرفه الله تعالى عنها قالوا : لأن هذه الآية تدل على أنه تعالى إن لم يصرفه عن ذلك القبيح وقع فيه وتقريره : أن القدرة والداعي إلى الفعل والترك إن استويا امتنع الفعل ، لأن الفعل رجحان لأحد الطرفين ومرجوحية للطرف الآخر وحصولهما حال استواء الطرفين جمع بين النقيضين وهو محال ، وإن حصل الرجحان في أحد الطرفين فذلك الرجحان ليس من العبد . وإلا لذهبت المراتب إلى غير النهاية ، بل هو من الله تعالى فالصرف عبارة عن جعله مرجوحا لأنه متى صار مرجوحا صار ممتنع الوقوع لأن الوقوع رجحان ، فلو وقع حال المرجوحية لحصل الرجحان حال حصول المرجوحية ، وهو يقتضي حصول الجمع بين النقيضين وهو محال ، فثبت بهذا أن انصراف العبد عن القبيح ليس إلا من الله تعالى ، ويمكن تقرير هذا الكلام من وجه آخر ، وهو أنه كان قد حصل في حق يوسف عليه السلام جميع الأسباب المرغبة في تلك المعصية وهو الانتفاع بالمال والجاه والتمتع بالمنكوح والمطعوم وحصل في الإعراض عنها جميع الأسباب المنفرة ، ومتى كان الأمر كذلك ، فقد قويت الدواعي في الفعل وضعفت الدواعي في الترك ، فطلب من الله سبحانه وتعالى أن يحدث في قلبه أنواعا من الدواعي المعارضة النافية لدواعي المعصية ، إذ لو لم يحصل هذا المعارض لحصل المرجح للوقوع في المعصية خاليا عما يعارضه ، وذلك يوجب وقوع الفعل وهو المراد بقوله : { أصب إليهن وأكن من الجاهلين } .