تأويلات أهل السنة للماتريدي - الماتريدي  
{قَالَ رَبِّ ٱلسِّجۡنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدۡعُونَنِيٓ إِلَيۡهِۖ وَإِلَّا تَصۡرِفۡ عَنِّي كَيۡدَهُنَّ أَصۡبُ إِلَيۡهِنَّ وَأَكُن مِّنَ ٱلۡجَٰهِلِينَ} (33)

وقوله تعالى : ( قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ ) فيه دلالة أنه قد كان منهن من المراودة والدعاء إلى نفسها حين[ في الأصل وم : حيث ] ( قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ ) .

ألا ترى إنه قال في موضع آخر ( قال ما خطبكن إذ راودتن يوسف عن نفسه ) ؟ [ الآية : 51 ] وكذلك قالت امرأة العزيز : ( فذلكن الذي لمتنني فيه )[ الآية : 32 ] أي كنتن لمتنني فيه أني راودته عن نفسه ، وأنتن قد راودتنه عن نفسه ، وقول يوسف : ( رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ ) أي ذلك الذل والصغار أحب إلي أي آثر عندي وأخير مما يدعونني إليه ؟ وإن كان ما يدعونه إليه تهواه نفسه ، وتميل إليه ، وتحبه . فأخبر أن السجن أحب إليه أي آثر وأخير في الدين ؛ إذ النفس تكره السجن ، وتنفر عنه .

ألا ترى أنه قال : ( وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنْ الْجَاهِلِينَ ) ؟ فهذا يدل على أن ما( قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ ) إنما أراد به محبة الاختيار والإيثار في الدين لا محبة النفس واختيارها . بل كانت النفس تحب ، وتهوى ما يدعونه إليه . دليله قوله : ( أصب إليهن وأكن من الجاهلين ) .

وليس الدعاء في قوله : ( رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ ) كما يقول بعض الناس : إنه إنما وقع في السجن لأنه سأل ربه السجن ، فاستجاب[ في الأصل وم : استجيب ] له في ذلك ، ولكن الدعاء في قوله : ( وإلا تصرف عني كيدهن ) وهو كقول آدم وحواء : ( قالا ربنا ظلمنا أنفسنا )الآية[ الأعراف : 23 ] .

ليس الدعاء في قولهما[ في الأصل وم : قوله ] : ( قالا ربنا ظلمنا أنفسنا )[ لأنه إخبار عما كان منهم ، إنما الدعاء في قوله : ( وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين )[ الأعراف : 23 ] وكذلك قول نوح : ( ربي إني أعوذ بك أن أسألك ما ليس لي به علم وإلا تغفر وترحمني أكن من الخاسرين )[ هود : 47 ] .

وفي ][ من م ، ساقطة من الأصل ] قوله : ( وإلا تصرف عني كيدهن أصب إليهن ) دلالة أن عند الله لطفا[ في الأصل وم : لطف ] ، لم يكن أعطى يوسف ذلك ؛ إذ لو كان أعطاه لكان كيدهن وشرهن مصروفا [ عنه حين ][ في الأصل وم : عند حيث ] قال : ( وإلا تصرفي عني كيدهن أصب إليهن ) ولو كان أعطى ذلك لم يكن لسؤاله ذلك معنى .

فهذا ينقض على المعتزلة قولهم حين[ في الأصل وم : حيث ] قالوا : إن الله قد أعطى كلا قدرة كل طاعة وقوة كل خير والدفع عن كل شر .

وقوله تعالى : ( وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ ) أي لا أحد يملك صرف كيدهن عني إن[ في الأصل وم : لو ] لم تصرفه أنت . وكذلك قوله : ( وإلا تغفر لي وترحمني )[ هود : 47 ] وهو أبلغ في الدعاء من قوله : اللهم اغفر لي وارحمني .

وقوله تعالى : ( أصب إليهن ) قال بعضهم : أمل إليهن ، وقال بعضهم : لو لم تصرف عني كيدهن لتابعتهن ؛ ويقال : الصبء هو الخروج من الأمر ؛ يقال : كل من خرج من دينه فقد صبأ ، وبهذا كان المشركون يسمون النبي صلى الله عليه وسلم صابئا ، أي خرج مما نحن عليه . وقال أبو بكر الأصم : الأصب هو الأمر المعجب .

وقوله تعالى : ( وأكن من الجاهلين ) أي يكن فعلي فعل الجهال لا فعل العلماء والحكماء إن لم تصرف عني كيدهن .