{ 1 - 8 } { بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ * وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ * الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ * وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ * فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ * وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ }
يقول تعالى -ممتنًا على رسوله- : { أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ } أي : نوسعه لشرائع الدين والدعوة إلى الله ، والاتصاف بمكارم الأخلاق ، والإقبال على الآخرة ، وتسهيل الخيرات فلم يكن ضيقًا حرجًا ، لا يكاد ينقاد لخير ، ولا تكاد تجده منبسطًا .
1- هذه السورة الكريمة من السور المكية ، وتسمى : سورة " الشرح " وسورة " ألم نشرح " وسورة " الانشراح " ، وترتيبها في النزول الثانية عشرة ، وكان نزولها بعد سورة الضحى ، وقبل سورة " العصر " . وعدد آياتها ثماني آيات .
2- وكما عدد الله –تعالى- لنبيه صلى الله عليه وسلم بعض نعمه العظيمة عليه في سورة الضحى ، جاءت سورة الشرح ، لتسوق نعما أخرى منه –تعالى- عليه صلى الله عليه وسلم حاثا إياه على شكره ، ليزيده منها .
الاستفهام فى قوله - سبحانه - : { أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ } للتقرير لأنه إذا دخل على النفى قرره ، وهذا التقرير المقصود به التذكير ، حتى يداوم على شكره - تعالى - .
وأصل الشرح : البسط للشئ وتوسعته ، يقال : شرح فلان الشيء ، إذا وسعه ، ومنه شرح فلان الكتاب ، إذا وضحه ، وأزال مجمله ، وبسط ما فيه من غموض .
والمراد بشرح الصدر هنا : توسعته وفتحه ، لقبول كل ما هو من الفضائل والكمالات النفسية . وإذهاب كل ما يصد عن الإِدراك السليم وعن الحق والخير والهدى .
وهذا الشرح يشمل الشق البدنى لصدره صلى الله عليه وسلم كما يشمل الشرح المعنوى لصدره صلى الله عليه وسلم عن طريق إيداعه الإِيمان والهدى والعلم والفضائل .
قال الإِمام ابن كثير : قوله : { أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ } يعنى : أما شرحنا لك صدرك . أي : نورناه وجعلناه فسيحا رحيبا واسعا ، كقوله { أَفَمَن شَرَحَ الله صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ . . . } وقيل المراد بقوله : { أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ } شرح صدره ليلة الإِسراء ، كما تقدم من رواية مالك بن صعصعة . . وهذا وإن كان واقعا ، ولكن لا منافاة ، فإن من جملة شرح صدره صلى الله عليه وسلم الذى فعل بصدره ليلة الإِسراء ، ما نشأ عنه من الشرح المعنوى - أيضا - . .
والمعنى : لقد شرحنا لك - أيها الرسول الكريم - صدرك شرحا عظيما ، بأن أمرنا ملائكتنا بشقه وإخراج ما فيه مما يتنافى مع ما هيأناك له من حمل رسالتنا إلى الناس ، وبأن أودعنا فيه من الهدى والمعرفة والإِيمان والفضائل والحكم . . ما لم نعطه لأحد سواك .
ونون العظمة فى قوله - سبحانه - { نشرح } تدل على عظمة النعمة ، من جهة أن المنعم العظيم ، إنما يمنح العظيم من النعم ، وفى ذلك إشارة إلى أن نعمة الشرح ، مما لا تصل العقول إلى كنه جلالتها .
واللام فى قوله - تعالى - : { لك } للتعليل ، وهو يفيد أن ما فعله الله - تعالى - به ، إنما هو من باب تكريمه ، ومن أجل تشريفه وتهيئته لحمل رسالته العظمى إلى خلقه ، فمنفعة هذا الشرح إنما تعود إليه وحده صلى الله عليه وسلم لا إلى غيره .
قال الإِمام الرازى : فإن قيل : لم ذكر الصدر ولم يذكر القلب ؟ فالجواب أن محل الوسوسة هو الصدر ، كما قال - تعالى - : { الذى يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ الناس } فإزالة تلك الوسوسة ، وإبدالها بدواعي الخير هى الشرح ، فلا جرم خص ذلك الشرح بالصدر دون القلب .
قال محمد بن علي الترمذى : القلب محل العقل والمعرفة ، وهو الذى يقصده الشيطان ، فالشيطان يجيء إلى الصدر الذى هو حصن القلب ، فإذا وجد مسلكا أغار فيه ، وبث فيه الهموم ، فيضيق القلب ، ولا يجد للطاعة لذة ، وإذا طرد العدو فى الابتداء ، حصل الأمن ، وانشرح الصدر .
وقوله - سبحانه - : { وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ . الذي أَنقَضَ ظَهْرَكَ } بيان لنعمة أخرى من النعم التى أنعم بها - سبحانه - على نبيه صلى الله عليه وسلم .
والمراد بالوضع هنا : الإِزالة والحط ، لأن هذا اللفظ إذا عدي بعن كان للحط والتخفيف ، وإذا عدي بعلى كان للحمل والتثقيل .
تقول : وضعت عن فلان قيده : إذا أزلته عنه ، ووضعته عليه : إذا حملته إياه .
والوزر : الحِمْل الثقيل ، و { أَنقَضَ ظَهْرَكَ } أي : أثقله وأوهنه وأتعبه ، حتى سمع له نقيض ، وهو الصوت الخفى الذى يسمع من الرَّحْل الكائن فوق ظهر البعير ، إذا كان هذا الرحل ثقيلا ، ولا يكاد البعير يحمله إلا بمشقة وعسر .
والمعنى : لقد شرحنا لك - أيها الرسول الكريم - صدرك ، وأزلنا عنك ما أثقل ظهرك من أعباء الرسالة ، وعصمناك من الذنوب والآثام ، وطهرناك من الأدناس ، فصرت - بفضلنا وإحساننا - جديرا بحمل هذه الرسالة ، بتبليغها على أكمل وجه وأتمه .
فالمراد بوضع وزره عنه صلى الله عليه وسلم مغفرة ذنوبه ، وإلى هذا المعنى أشار الإِمام ابن كثير بقوله : قوله - تعالى - : { وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ } بمعنى { لِّيَغْفِرَ لَكَ الله مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ } وقال غير واحد من السلف فى قوله : { الذي أَنقَضَ ظَهْرَكَ } أى : أثقلك حمله .
ويرى كثير من المفسرين أن المراد بوضع وزره عنه صلى الله عليه وسلم : إزالة العقبات التى وضعها المشركون فى طريق دعوته ، وإعانته على تبليغ الرسالة على أكمل وجه ، ورفع الحيرة التى كانت تعتريه قبل النبوة .
قال بعض العلماء : وقد ذكر جمهرة المفسرين أن المراد بالوزر فى هذه الآية : الذنب ، ثم راحوا يتأولون الكلام ، ويتمحلون الأعذار ، ويختلفون فى جواز ارتكاب الأنبياء للمعاصي ، وكل هذا كلام ، ولا داعى إليه ، ولا يلزم حمل الآية عليه .
والمراد - والله سبحانه وتعالى أعلى وأعلم - بالوزر : الحيرة التى اعترته صلى الله عليه وسلم قبل البعثة ، حين فكر فيما عليه قومه من عبادة الأوثان . وأيقن بثاقب فكره أن للكون خالقا هو الجدير بالعبادة ، ثم تحير فى الطريق الذى يسلكه لعبادة هذا الخالق ، وما زال كذلك حتى أوحى الله إليه بالرسالة فزالت حيرته . ولما دعا قومه إلى عبادة الله ، وقابلوا دعوته بالإِعراض . . ثقل ذلك عليه ، وغاظه من قومه أن يكذبوه . . وكان ذلك حملا ثقيلا . . شق عليه القيام به .
فليس الوزر الذى كان ينقض ظهره ، ذنبا من الذنوب . . ولكنه كان هما نفسيا يفوق ألمه ، ألم ذلك الثقل الحسي . . فلما هداه الله - تعالى - إلى إنقاذ أمته من أوهامها الفاسدة . . كان ذلك بمثابة رفع الحمل الثقيل ، الذى كان ينوء بحمله . لا جرم كانت هذه الآية واردة على سبيل التمثيل ، واقرأ إن شئت قوله - تعالى - :
{ وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ . فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِّنَ الساجدين . واعبد رَبَّكَ حتى يَأْتِيَكَ اليقين } ويبدو لنا أن هذا القول الثانى ، هو الأقرب إلى الصواب . لأن الكلام هنا ليس عن الذنوب التى ارتكبها النبى صلى الله عليه وسلم قبل البعثة - كما يرى بعض المفسرين - وإنما الكلام هنا عن النعم التى أنعم بها - سبحانه - عليه والتى من مظاهرها توفيقه للقيام بأعباء الرسالة ، وبإقناع كثير من الناس بأنه على الحق ، واستجابتهم له صلى الله عليه وسلم .
سميت في معظم التفاسير وفي صحيح البخاري وجامع الترمذي سورة ألم نشرح ، وسميت في بعض التفاسير سورة الشرح ومثله في بعض المصاحف المشرقية تسمية بمصدر الفعل الواقع فيها من قوله تعالى { ألم نشرح لك صدرك } وفي بعض التفاسير تسميتها سورة الانشراح .
وقد عدت الثانية عشرة في عداد نزول السور ، نزلت بعد سةدورة الضحى بالاتفاق وقبل سورة العصر .
وعن طاووس وعمر بن عبد العزيز أنهما كانا يقولان ألم نشرح من سورة الضحى . وكانا يقرءانهما بالركعة الواحدة لا يفصلان بينهما يعني في الصلاة المفروضة وهذا شذوذ مخالف لما اتفقت عليه الأمة من تسوير المصحف الإمام .
احتوت على ذكر عناية الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم بلطف الله له وإزالة الغم والحرج عنه ، وتفسير ما عسر عليه ، وتشريف قدره لينفس عنه ، فمضمونها شبيه بأنه حجة على مضمون سورة الضحى تثبيتا له بتذكيره سالف عنايته به وإنارة سبيل الحق وترفيع الدرجة ليعلم أن الذي ابتدأه بنعمته ما كان ليقطع عنه فضله ، وكان ذلك بطريقة التقرير بماض يعلمه النبي صلى الله عليه وسلم .
واتبع ذلك بوعده بأنه كلما عرض له عسر فسيجد من أمره يسرى كدأب الله تعالى في معاملته فليتحمل متاعب الرسالة ويرغب إلى الله عونه .
استفهام تقريري على النفي . والمقصود التقرير على إثبات المنفي كما تقدم غير مرة . وهذا التقرير مقصود به التذكير لأجل أن يراعي هذه المنة عندما يخالجه ضيق صدر مما يلقاه من أذى قوم يريد صلاحَهم وإنقاذَهم من النار ورفعَ شأنهم بين الأمم ، ليدوم على دعوته العظيمة نَشيطاً غير ذي أسف ولا كَمَدٍ .
والشرح حقيقته : فصل أجزاء اللحم بعضِها عن بعض ، ومنه الشريحة للقطعة من اللحم ، والتشريح في الطب ، ويطلق على انفعال النفس بالرضى بالحال المتلبس بها . وظاهر كلام « الأساس » أن هذا إطلاق حقيقي . ولعله راعى كثرة الاستعمال ، أي هو من المجاز الذي يساوي الحقيقة لأن الظاهر أن الشرح الحقيقي خاص بشرح اللحم ، وأن إطلاق الشرح على رضى النفس بالحال أصله استعارة ناشئة عن إطلاق لفظ الضيق وما تصرف منه على الإحساس بالحزن والكمد قال تعالى : { وضائق به صدرك أن يقولوا لولا أنزل عليه كنز } [ هود : 12 ] الآية . فجعل إزالة ما في النفس من حزن مثل شرح اللحم وهذا الأنسب بقوله : { فإن مع العسر يسراً } [ الشرح : 5 ] .
وتقدم قوله : { قال رب اشرح لي صدري } في سورة طه ( 25 ) .
فالصدر مراد به الإِحساس الباطني الجامع لمعنى العقل والإدراك . وشرح صدره كناية عن الإِنعام عليه بكل ما تطمح إليه نفسه الزكية من الكمالات وإعلامه برضى الله عنه وبشارته بما سيحصل للدّين الذّي جاء به من النصر .
هذا تفسير الآية بما يفيده نظمها واستقلالها عن المرويات الخارجية ، ففسرها ابن عباس بأن الله شرح قلبه بالإِسلام ، وعن الحسن قال : شرح صدره أن مُلِىءَ علماً وحكماً ، وقال سهل بن عبد الله التستري : شرح صدره بنور الرسالة ، وعلى هذا الوجه حمله كثير من المفسرين ونسبه ابن عطية إلى الجمهور .
ويجوز أن يجعل الشرح شرحاً بدنياً . وروي عن ابن عباس أنه فسر به وهو ظاهر صنيع الترمذي إذ أخرج حديث شقِّ الصدر الشريف في تفسير هذه السورة فتكون الآية إشارة إلى مرويات في شَق صدره صلى الله عليه وسلم شقّاً قُدُسياً ، وهو المروي بعض خبره في « الصحيحين » ، والمروي مطولاً في السيرة والمسانيد ، فوقع بعض الروايات في « الصحيحين » أنه كان في رؤيا النوم ورؤيا الأنبياء وحي ، وفي بعضها أنه كان يقظة وهو ظاهر ما في « البخاري » ، وفي « صحيح مسلم » أنه يقظة وبمرأى من غلمان أترابه ، وفي حديث مسلم عن أنس بن مالك أنه قال : رأيت أثر الشق في جلد صدر النبي صلى الله عليه وسلم وفي بعض الروايات أن النبي صلى الله عليه وسلم كان بين النائم واليقظان ، والرواياتُ مختلفة في زمانه ومكانه مع اتفاقها على أنه كان بمكة . واختلاف الروايات حمل بعضَ أهل العلم على القول بأن شق صدره الشريف تكرر مرتين إلى أربع ، منها حين كان عند حليمة .
وفي حديث عبد الله بن أحمد بن حنبل أن الشق كان وعمُر النبي صلى الله عليه وسلم عشر سنين .
والذي في « الصحيح » عن أبي ذر أنه كان عند المعراج به إلى السماء ، ولعل بعضها كان رؤيا وبعضها حساً . وليس في شيء من هذه الأخبار على اختلاف مراتبها ما يدل على أنه الشرح المراد في الآية ، وإذ قد كان ذاك الشق معجزة خارقة للعادة يجوز أن يكون مراداً وهو ما نحاه أبو بكر بن العربي في « الأحكام » ، وعليه يكون الصدر قد أطلق على حقيقته وهو الباطن الحاوي للقلب . ومن العلماء من فسر الصدر بالقلب حكاه عياض في « الشفا » ، يشير إلى ما جاء في خبرِ شق الصدر من إخراج قلبه وإزالة مقر الوسوسة منه ، وكلا المعنيين للشرح يفيد أنه إيقاع معنى عظيم لنفس النبي صلى الله عليه وسلم إمَّا مباشرة وإما باعتبار مغزاهُ كما لا يخفى .
واللام في قوله : { لك } لام التعليل ، وهو يفيد تكريماً للنبيء صلى الله عليه وسلم بأن الله فعل ذلك لأجله .
وفي ذكر الجار والمجرور قبل ذكر المشروح سلوك طريقة الإِبهام للتشويق فإنه لما ذُكر فعل { نشرح } عَلم السامع أن ثَمَّ مشروحاً ، فلما وقع قوله : { لك } قوي الإِبهام فازداد التشويق ، لأن { لك } يفيد معنى شيئاً لأجلك فلما وقع بعده قوله : « صدره » تعين المشروح المترقَّب فتمكن في الذهن كمال تمكن ، وهذا ما أشار إليه في « الكشاف » وقفِّي عليه صاحب « المفتاح » في مبحث الإِطناب .